آداب المتعلم والمعلم
أما المتعلم فآدابه ووظائفه كثيرة ولكن تنظيم تفريقها بثمان وظائف:
الوظيفة الأولى: تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف إذ العلم عبادة القلب وصلاة السر وقربة الباطن إلى الله تعالى؛ وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلا بتطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث فكذلك لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف.
الوظيفة الثانية: أن يقلل علائقه من الاشتغال بالدنيا فإن العلائق شاغلة وصارفة {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}[ الأحزاب: 4 ]. ومهما توزعت الفكرة قصرّت عن درك الحقائق ولذلك قيل:" العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر"، والفكرة المتوزعة على أمور متفرقة كجدولٍ تفرّق ماؤه فنشّفت الأرض بعضه واختطف الهواء بعضه فلا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ المزروع.
الوظيفة الثالثة: أن لا يتكبر على العالم ولا يتأمّر على المعلم ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق. وينبغي أن يتواضع لمعلمه ويطلب الثواب والشرف بخدمته.
فلا ينبغي لطالب العلم أن يتكبر على المعلم، ومن تكبره على المعلم أن يستنكف عن الاستفادة إلا من المرموقين المشهورين وهو عين الحماقة فإن العلم سبب النجاة والسعادة، ومن يطلب مهربا من سبعٍ ضار يفترسه لم يفرق بين أن يرشده إلى الهرب مشهور أو خامل، فالحكمة ضالة المؤمن يغتنمها حيث يظفر بها ويتقلد المنة لمن ساقها إليه كائنا من كان.
فلا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع قال الله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37 ] ومعنى كونه ذا قلب أن يكون قابلا للعلم فهماً، ثم لا تعينه القدرة على الفهم حتى يلقي السمع وهو شهيد، حاضر القلب ليستقبل كل ما ألقي إليه بحسن الإِصغاء والضراعة والشكر والفرح وقبول المنّة.
الوظيفة الرابعة:أن يتحرز الخائض في العلم في مبدأ الأمر عن الإِصغاء إلى اختلاف الناس، سواء كان ما خاض فيه من علوم الدنيا أو من علوم الآخرة: فإن ذلك يدهش عقله ويحيّر ذهنه ويُفتِّر رأيه ويُيْئسه عن الادراك والاطلاع، بل ينبغي أن يتقن أولا الطريق الحميدة الواحدة المرضية، ثم بعد ذلك يصغي إلى المذاهب.
الوظيفة الخامسة: أن لا يدع طالب العلم فناً من العلوم المحمودة ولا نوعاً من أنواعه إلا وينظر فيه نظراً يطّلع به على مقصده وغايته، ثم إن ساعده العمر طلب التبحّر فيه وإلا اشتغل بالأهم منه واستوفاه، فإن العلوم متعاونة وبعضها مرتبط ببعض، ويستفيد منه في حال الانفكاك عن عداوة ذلك العلم بسبب جهله، فإن الناس أعداء ما جهلوا قال تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}[الأحقاف: 11 ].
الوظيفة السادسة:أن لا يخوض في كل فنون العلم دفعة بل يراعي الترتيب ويبتدئ بالأهم. فإن العمر إذا كان لا يتسع لجميع العلوم غالباً فالحزم أن يأخذ من كل شيء أحسنه، وعلى الجملة فأشرف العلوم وغايتها معرفة الله عز وجل وهو بحر لا يدرك منتهى غوره، وأقصى درجات البشر فيه رتبة الأنبياء ثم الأولياء ثم الذين يلونهم.
الوظيفة السابعة: أن لا يخوض في فن حتى يستوفى الفن الذي قبله؛ فإن العلوم مرتبة ترتيباً ضرورياً وبعضها طريق إلى بعض، والموفق من راعى ذلك الترتيب والتدريج. وليكن قصده في كل علم يتحراه الترقي إلى ما هو فوقه.
الوظيفة الثامنة:أن يكون قصد المتعلم في الحال تحلية باطنه وتجميله بالفضيلة وفي المآل القرب من الله سبحانه والترقي إلى جوار الملأ الأعلى من الملائكة والمقربين، ولا يقصد به الرياسة والمال والجاه ومماراة السفهاء ومباهاة الأقران، ومع هذا فلا ينبغي له أن ينظر بعين الحقارة إلى سائر العلوم، أعني علم الفتاوى، وعلم النحو واللغة المتعلّقين بالكتاب والسنة وغير ذلك من ضروب العلوم التي هي فرض كفاية.
بيان وظائف المرشد المعلم
الوظيفة الأولى: الشفقة على المتعلمين وأن يُجريهم مجرى بنيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا لكم مثل الوالد لولده" [أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان]، بأن يقصد إنقاذهم من نار الآخرة وهو أهم من إنقاذ الوالدين ولدهما من نار الدنيا، ولذلك صار حق المعلم أعظم من حق الوالدين: فإن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية والمعلم سبب الحياة الباقية.
الوظيفة الثانية: أن يقتدي بصاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فلا يطلب على إفادة العلم أجراً ولا يقصد به جزاء ولا شكراً بل يعلّم لوجه الله تعالى وطالباً للتقرب إليه ولا يرى لنفسه منة عليهم وإن كانت المنة لازمة عليهم بل يرى الفضل لهم إذ هذبوا قلوبهم.
الوظيفة الثالثة: أن لا يدع من نصح المتعلم شيئاً وذلك كأن يمنعه من التصدّي لرتبة قبل استحقاقها والتشاغل بعلم خَفيّ قبل الفراغ من الجليِّ ثم ينبهه على أن الغرض بطلب العلوم القرب إلى الله تعالى دون الرياسة والمباهاة والمنافسة، ويقدم تقبيح ذلك في نفسه بأقصى ما يمكن فليس ما يصلحه العالم الفاجر بأكثر مما يفسده.
الوظيفة الرابعة: وهي من دقائق صناعة التعليم أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح. وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ، فإن التصريح يهتك حجاب الهيبة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ويهيج الحرص على الإِصرار.
الوظيفة الخامسة: أن المتكفل ببعض العلوم ينبغي أن لا يقبِّحَ في نفس المتعلم العلوم التي وراءه.
الوظيفة السادسة: أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفره أو يخبط عليه عقله، اقتداء في ذلك بسيد البشر صلى الله عليه وسلم. فليبثّ إليه الحقيقة إذا علم أنه يستقل بفهمها، وقال ابن مسعود كما أخرج مسلم: "ما أحدٌ يحدثُ قوماً بحديثٍ لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم".
الوظيفة السابعة: أن المتعلم القاصر ينبغي أن يُلقى إليه الجلي اللائق به ولا يُذكر له أنّ وراء هذا تدقيقاً وهو يدخره عنه فإن ذلك يفتر رغبته في الجلي ويشوش عليه قلبه ويوهم إليه البخل به عنه إذ يظن كل أحد أنه أهل لكل علم دقيق. فما من أحد إلا وهو راض عن الله سبحانه في كمال عقله وأشدهم حماقة وأضعفهم عقلا هو أفرحهم بكمال عقله.
الوظيفة الثامنة: أن يكون المعلم عاملاً بعلمه فلا يكذِّبُ قوله فعله، لأنّ العلم يُدركُ بالبصائر والعمل يدرك بالأبصار وأرباب الأبصار أكثر. فإذا خالف العملُ العلمَ منع الرشد، وكل من تناول شيئاً وقال للناس لا تتناولوه فإنه سم مهلك سخر الناس به واتهموه وزاد حرصهم على ما نُهوا عنه فيقولون: لولا أنه أطيب الأشياء وألذها لما كان يستأثرُ به.
وقال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 44]، ولذلك كان وزر العالم في معاصيه أكثر من وزر الجاهل إذ يزل بزلته عالم كثير ويقتدون به.