قيمة التطوع .. الفهم الخاطيء
لا شك أن قيمة التطوع وأهميته لا تختلف باختلاف العصور والأزمنة، ولا باختلاف الأشخاص، ولا حتى باختلاف المجالات؛ فهو دائما العمل الذي يقوم به صاحبه لا يبتغي من ورائه مغنما ولا ربحا ولا فائدة بأي شكل من الأشكال النفعية، وإلا ما أصبح تطوعا، واختلف معناه ليصبح عملا، أو مجاملة، أو تجملا أمام المجتمع والآخرين، سواء أكان ذلك في مجال الطب بالتطوع لخدمة فقراء المرضى في الأماكن النائية أو الفقيرة دون مقابل، أو التطوع بتنظيف الشوارع والمتنزهات، أو التطوع لخدمة الحجيج وإرشادهم دون أجر، أو التطوع بمرافقة كفيف في عبور شارع أو تأدية خدمة ما يحتاجها، أو كما كان التطوع في واحدة من أسمى صوره في الخمسينات في مصر ـ مثلا ـ لقتال الإنجليز المحتلين لمصر، وفي ميادين القتال، وبذل الأرواح والأنفس رخيصة من أجل الوطن والدين، أو التطوع في قوافل الدعوة لدين الله وتذكير الناس بدينهم وتعاليمه، في شكل قوافل تجوب البلاد طولا وعرضا، لا يخرجون إلا إرضاء لربهم، وسعيا للأجر والثواب عنده. ولا يخفى على أحد كونه معنى إسلاميا انطلاقا من قوله تعالى: ( ومن تطوع خيرا فهو خير له ) فالتطوع في الصيام لا هدف له إلا مرضاة الله، ولذا جعل الله الصيام كله -الفرض والتطوع - بينه وبين العبد، لا يعلمه الناس الذين قد يعلمون بالصلاة من تردد المصلي على المسجد. وإذا كنا نفهم أن يكون للتطوع هدف آخر ونرضى به، ألا وهو إرضاء الذات والإحساس بقيمة ما نقوم به من عمل، وأنها – أي النفس- مفيدة للمجتمع والناس، فهي في النهاية ـ أيضا ـ مرضاة للرب: (وما تقدموا من شيء تجدوه عند الله).
إلا أنني هالني ما حدث من فهم خاطيء لقيمة ومعنى وهدف التطوع في المجال الرياضي، بحيث يمكننا القول بلا تردد أنه قد فقد معناه وهدفه تماما ليصبح أي شيء آخر خلا التطوع. وهنا أقصد أمرين:
الأول: وهو تطوع الشباب للعمل في تنظيم البطولات الرياضية الكبرى (دورات الألعاب الأولمبية – الدورات الأولمبية القارية، مثل: دورة الألعاب الإفريقية، وكأس الأمم الإفريقية، وما لفت نظري دورة الألعاب الآسيوية التي نظمتها قطر عام 2006 ) حيث لمست بنفسي كيف أصبح الشاب يسأل قبل تطوعه هل هذا التطوع بمكافأة أو بشهادة تقدير؟ وعلى هذا الأساس يقدم أوراقه أو لا. وكم كانت صدمتهم قاسية ـ مثلا ـ حينما تم تكريمهم بعد انتهاء الدورة بشهادة شكر فقط. إذن أنا أود أن أعمل لا أن أتطوع، ولو كان تطوعا فالمفروض أنه يكفيني كلمة شكر أو شهادة من الجهة التي تطوعت في أحد مجالات العمل فيها. ومن هنا فالشاب يطلب عملا لا تطوعا، فليس هدفه خدمة وطنه في صورة عمل رياضي، بل يود فرصة عمل مؤقتة أيا كان راتبها،. والمتطوع لا يجب أن ينتظر المكافأة.
الثاني: وهو الأكثر انتشارا في جميع الدول العربية بلا استثناء، وهو دخول مجالس إدارات الأندية الرياضية، وخاصة الكبرى منها، وما نجده من تقاتل ومنافسة غير طبيعية تنفق فيها مئات الآلاف من العملات، ولا أبالغ لو قلت الملايين، على الدعاية والهدايا للناخبين والإنفاق على برامج الدعاية في الصحف والمجلات ومحطات التليفزيون المختلفة، ويقوم كل منهم بطرح أخطاء ومثالب المنافسين في صورة كثيرا ما تشوه الأسماء وتشكك في الذمم المالية والسلوكيات الشخصية، ومن هنا فقد خرجت المسألة من نطاق العمل التطوعي، الذي من المفترض أنها تسير فيه. وتتفاجأ أن كل مرشح يقول إن هدفه خدمة المكان، وأن هذا العمل هو عمل تطوعي، فهل من الطبيعي أن تنفق الملايين من أجل الدخول في عمل تطوعي؟ وهل الهدف والقيمة هنا هي نفسها قيمة من يذهب لمساعدة الأيتام دون أن يدري أحد، أو يتصدق من ماله، أو يتطوع بصوم أو طاعة لله؟ فالمسالة إذن فهم خاطيء، ربما يكون متعمدا ممن يزعمون الرغبة في العمل التطوعي بمجالس إدارات الأندية الرياضية، فالواقع أن الشهرة والأضواء هي الهدف الأول، والدخل المادي والصفقات التجارية في بيع اللاعبين أو تسهيلها لشركات الملابس وغيرها، والسمسرة والعمولات هدف ثانٍ.
فالراغب في التطوع يمكنه أن يقوم بذلك في مركز شباب صغير، مثلا يتطوع له من وقته وجهده، وربما ماله، ليسهم في تنشئة جيل مسلم من الشباب لا تلهيهم الرياضة عن صلاتهم، يرغبون في بناء أجسام رياضية تخدم مجتمعهم وأمتهم، وتساعد على تفوقهم في مجالات هامة وناجحة، مع نجاحهم الرياضي أيضا، فلا تعارض بين الاثنين إطلاقا. وكم من بطل رياضي أو لاعب كرة ـ مثلا ـ ضرب المثال والنموذج للنجاح الرياضي والنجومية، وفي نفس الوقت هو شاب مسلم ملتزم بتعاليم دينه، لا تغره الأموال ولا أضواء الشهرة.
ولك أن تقارن بين رغبة أولئك الصورية في خدمة ناديهم أو مؤسستهم الرياضية، ونفس الرغبة الحقيقية لدى مشجعي أو محبي هذا النادي، الذين يدفعون أموالهم، ويسافرون إلى قارات ودول بعيدة لتشجيع هذا النادي أو ذاك، دون أن يدري عنهم أحد أو يتحدث عنهم إعلام.
وربما أمكن في يوم من الأيام وضع شروط أو تقنين مسألة ما يسمونه عملا تطوعيا في المجال الرياضي، وخاصة في النوع الثاني منه، وهو الترشح لمجالس إدارات الأندية الرياضية، بل والاتحادات الرياضية التي صارت تصنع مراكز قوى في المجتمع وأشخاصا يجلسون على كراسي لا يريدون تركها مهما تقادم بهم العمر، وقلت قدرتهم على العمل، الذي يفترض أنه تطوعي، فيقومون بتغيير اللوائح والقوانين المنظمة لدخول تلك المجالات، لا من أجل شيء إلا أن يظلوا منتفعين بما تدره عليهم تلك المناصب أو الكراسي من فوائد ومكاسب.