السمع والبصر يكمل كل منهما الآخر في إدراك الكلام:
وأوضحت تجربة أخرى (أو بالأحرى سلسلة من التجارب) أجراها دود Dodd عام 1977م مرة ثانية باستحالة تجاهل المعلومات البصرية وأنها تتساوى مع المعلومات السمعية في عملية إدراك الكلام. فقد قدمت قوائم كلمات (حرف صامت ـ صائت ـ حرف صامت) إلى أفراد البحث في خمسة ظروف تجريبية مختلفة. وكان هناك نفس المستوى من الضجيج يغطي على الإشارة السمعية في كل الظروف. وأوضحت النتائج أن الأخطاء المرتكبة عند تقديم الكلمات في ظرف بصري فقط (دون وجود معلومات سمعية) لم تكن حقيقة مختلفة عن الأخطاء التي ارتكبت عندما تعرض الأفراد إلى الصوت فقط (مع إخفاء وجه المتحدث). ولهذا تساوت المعلومات الناتجة من رؤية المتحدث ومن سماع إشارة سمعية ضعيفة. فعندما رأى أفراد البحث كلمة مختلفة من تلك التي يسمعونها، كان ناتج معلومات البصر أكبر من ناتج معلومات السمع. وفي ظرف آخر عندما منح الأفراد معلومات بصرية فقط تم إدراك الحروف الصامتة الأمامية بشكل أسهل من تلك الخلفية ونحا أفراد عينة البحث إلى استبدال الحروف الصامتة من نفس مكان النطق، وهنا يتضح إعجاز القرآن في تلازم السمع والبصر عند ذكرهما مجتمعين.
يمتزج السمع والبصر ليكونا أكثر القنوات أهمية وعطاء لاكتساب المعرفة بشكل عام واللغة بشكل خاص وهاتان القناتان المتلقيتان تمكنان الإنسان من معالجة المعرفة التي يتحصل عليها من بيئته وتستقر في عقله وتلعب حاستا السمع والبصر دورهما كركيزة نستطيع من خلالها بناء حضارة إنسانية ونظم تعليمية متوازنة وعادلة. فإن أخفقنا في استخدامهما فقد يؤديان بنا إلى الفشل الكامل ـ بل أحيانًا إلى دمار مجتمعات بأكملها ـ فالسمع والبصر لا يمكـن الاســتغناء عنهمـا في التعلـم الهـادف، ويشــمل ذلك تعلـم اللغـات التي يكمن هدفها في تحقيق التواصل الفاعل والمجدي بين البشر ودونها لا يمكن لعمليـة التعلم لأي فـرع من فـروع المعرفة أن تتم على الوجه الأكمل ولهذا السبب تعجز عن تحقيق الاستقرار والتجانس للإنسانية في أي من الأشكال المنظورة.
يتضح من أعلاه أن المعلومات السمعية البصرية تلعب دورًا مهمٌّا في تفعيل التواصل مع العالم الخارجي، ففي حالة فقدان البصر يمثل الإدراك السمعي قناة الأعمى للتواصل مع الأفراد المتحدثين بكلام جماعته أو الناطقين بلغته وقد يمتد هذا التواصل مع الأشخاص المنتمين للأصول الثقافية واللسانية الأخرى، إن كان يعرف لغاتهم.
البصر جزء مركزي من عملية السمع يقوم الرضيع، منذ بلوغ الأسبوع الثامن عشر في المرحلة قبل الكلامية، بمحاكاة حركات الفم عند الكبار وذلك بربطه لحركات نطقية محددة للكبار مع أصوات كلامهم، ويزعم دود (Dodd, 1987) بأن الرضع يطورون إدراكهم الكلامي اعتمادًا على كل من المعلومات السمعية والبصرية. فإن كان هذا صحيحًا فإننا نتوقع أن يواجه الأشخاص المولودون عميًا الذين يعجزون عن رؤية طريقة نطق الأصوات، مصاعبَ في كل من التمييز النطقي وفي التطور الفونولوجي، وفي حقيقة الأمر فقد وجد ميلز (Mills,1987) أن الأطفال المعاقين بصريٌّا تكون استجاباتهم الصحيحة للأصوات التي أماكن نطقها مرئية مثل (/b,/p/,/m/,/f/, v/) أقل بكثير من الأطفال المبصرين.
إن عجزهم عن ملاحظة حركة الشفاه يؤدي إلى تقليل اكتساب الأصوات، علاوة على هذا فإن الأخطاء التي يرتكبها الأطفال المبصرون وتلك التي يرتكبها العمى تتباين في طبيعتها، تكثر أخطاء الأطفال العمى أحيانًا عند الأصوات التي تزداد فيها أهمية مكان النطق، بينما الأصوات التي تزداد فيها أهمية طريقة النطق ـ وبالتالي تكون أكثر سهولة لأن تسمع ـ تبدو أقل صعوبة على الاستيعاب عند الأطفال العمى. وبذا فإن فقدان البصر يجعل بعض الأصوات ـ تلك المتعلقة بمكان النطق ـ أكثر صعوبة لأن تدرك. وعلينا وضع هذه النتيجة في اعتبارنا في حالة متعلمي اللغة واكتسابهم الفونولوجي فالمعلومات البصرية مهمة بنفس القدر عند الاستماع.
كذلك أجريت الأبحاث على كل من الصم وعلى من يتمتعون بحاسة السمع (المبصرين). وأتت النتائج لصالح المعلومات البصرية ودورها في إدراك الكلام. وقد زعمت نظرية إدراك الكلام أن الجهاز البصري يأتي إما كجهاز مساند يكون قيد الاستخدام عندما تتدهور الإشارات السمعية بشكل ما ـ كما في حالة الصم أو من يعانون مصاعب في السمع ـ أو أن البصر يمثل جزءًا مركزيٌّا في إدراك الكلام تحت أي ظرف كان. وقد أورد ماكقورك وماكدونالد (McGurk & MacDonad 1976) في دراستهما الذائعة الصيت لتأثير البصر على إدراك الكلام ـ أوردا ظاهرة الخداعات السمعية البصرية. وعند عرض فيلم على مجموعة يقوم فيه المتحدث بحركات شفاه لـ [ga] بينما كان التسجيل الصوتي Sound Track يحتوي على مقطع [ba] الذي أعيد تسجيله على الشريط، ذكر 95% من أعضاء
المجموعة البالغين سماع مقطع [da]. قد نستطيع جزئيٌّا توضيح الاندماج الحادث بين [ga] و[ba] و[da] من حقيقة أن حركة الشفاه في [ga] و[da] متناغمة بينما كلاهما مختلف عن الإغلاق الشفوي البين لمقطع [ba] إضافة لهذا فقد ذكروا ردود أفعال مختلطة فإن كانوا سمعوا [ga] ـ [ga] وشاهدوا [ba] ـ [ba] فإنهم يوردون سماع [gabga] [gaba] وهما الخليطان المحتملان للعناصر المذكورة. ما يهمنا في هذا المقام ملاحظة استحالة تجاهل المعلومة البصرية الآتية من [ba] الشفوية.
قام رايزبرق وماكلين وقولد فيلد (Reisberg, Mclean, Gold Field, 1987) بالتحقق من النظرية القائلة بأن البصر جزء مركزي لإدراك الكلام وليس مجرد جزء مساعد للسمع، وافترضوا أن المعلومات البصرية تستخدم حتى مع وضوح وسلامة الإشارات السمعية، وقد أدخلوا عامل السمع في بحثهم من منطلق أن التجارب المشتركة للسامع تسهل عليه فهم واستيعاب المواقف التي تتم وجهًا لوجه، وفي تجربة يخفى فيها الصوت (Shadowing task) باستخدام نص فرنسي استطاع متعلمو اللغة الفرنسية الجدد تحسين أدائهم في الظروف المرئية أفضل من الظروف غير المرئية (حيث يوجد صوت فقط). كما اتضح أيضًا أن حركات الشفاه خاصة ذات أهمية في إدراك الكلام، وقد كانت الخلاصة التي توصل إليها الباحثون في نهاية الأمر إلى أن فوائد البصر تتضح أكثر عندما يصعب إدراك الكلام بشكل ما (مثلاً تقديم مدخل من لغة أجنبية).
السمع أكثـر أهمية من البصر
من الحقائق المعروفة جيدًا أن الصمم الكلي أو الجزئي يقود إلى إعاقة مستوى التطور اللغوي كما قد يؤثر على المجالات الأخرى العديدة، وهذا يؤثر على التطور الانفعالي والمعرفي بشكل عام بينما قد يواجه العمى بعض الصعوبات في التعرف على العالم المحيط بهم إلا أن الصم لا يقدرون على التواصل بوسائل لغة البشر المألوفة، لغة الإشارات معروفة ومستخدمة من قبل أقلية صغيرة من الأفراد كما يمكن استخدامها داخل حدود معينة إلى درجة أنها تتباين من قطر لآخر ومن لغة لأخرى، ومن ناحية أخرى فإن العُميَ قادرون على استخدام حاسة السمع لديهم على الوجه الكامل وقادرون على القيام بتبادل لفظي ذي معنى، لذا يتبين لنا ـ على العديد من الأصعدة ـ أن السمع أكثر أهمية من البصر.
لحاسة السمع علاقة لصيقة للغاية مع بعض الصور الحسية الأساسية، على وجه الخصوص الحساسية الداخلية للمكان Spatial internal sensitivity مثل: (أ): حاسة السكون. (ب): حاسة الحركة، وعلى الرغم من أن حاسة السكون قد لا تشتمل على تغيير، فإن حاسة الحركة لا بد أن تمر بتغيرات متباينة وفقًا للسياق الذي تعمل فيه، وعلى النقيض من ذلك فإن حاسة البصر، فضلاً عن أهميتها الواضحة، تعجز عن تحقيق الإدراك المعقد المتعدد الاتجاهات الذي يمكن أن تحققه حاسة السمع، فالبصر يعمل في مدى محدود للغاية بينما يمتد السمع ويتجاوز ذلك المدى.
والأذن البشرية أكثر دقة في تحليلها لصفات الصوت (والضجيج) من العين في تحليلها لظلال الألوان وصفات الضوء، وتعجز العين على سبيل المثال عن تحليل الألوان المركبة فيما يخص مكوناتها غير أن الأذن قادرة على تحليل الوحدات الصوتية المعقدة بما في ذلك الضجيج الذي يحدث في الخلفية، وعلى هذا النسق فإن للأذن ميزة إضافية على العين فيما يتعلق بمقدرتها الفائقة على تحليل الأصوات السمعية أو الشفوية عالية التعقيد وظاهرة الصوت/الضجيج (Voss,1972:16ـ21).
إن الإدراك السمعي أكثر تحررًا من آثار الخداع الإدراكي (والأوهام الإدراكية) من الإدراك البصري. وتعتبر الخداعات الإدراكية الأكثر شيوعًا هي الخداعات البصرية بينما تكمن الهلاوس الأكثر شيوعًا في الخداعات السمعية، ويعني هذا أن البصر قابل لأن يخطئ في ظروف الإدراك العادية بينما حاسة السمع ـ في الظروف غير العادية ـ أكثر عرضة للخطأ في حالات الشذوذ الإدراكي والحالات المرضية (Robinson,1972). وعليه فإن مزايا السمع تميل أكثر إلى الموضوعية في طابعها عندما يتعلق الأمر بالنظر والتمعن في العالم الخارجي ووصفه فيما يخص السلوك الإدراكي العادي، وفقط في حالات المضطربين عقليٌّا تكف حاسة السمع عن العمل على الوجه السليم.
من ناحية أخرى حتى وإن كان الشخص الأصم قادرًا على الإبصار فإنه عاجز عن الارتباط مع أعضاء جماعته الكلامية بنفس السهولة التي يستطيع بها الشخص الأعمى التواصل عبر اللغة نتيجة لهذا فإن لغة الأصم أقل تطورًا من لغة الأعمى حيث إن الصمم، سواء كان جزئيٌّا أو كاملاً غالبًا ما يعوق التطور اللغوي ويؤثر سلبًا على التفاعل التواصلي السليم بين أعضاء شتى المجموعات الاجتماعية.