أسباب التخلف العقلي
أ. د. سامي عبد القوي
أستاذ علم النفس العصبي
ذكرنا في التصنيف الإكلينيكي للتخلف العقلي أن الأسباب قد تكون أولية (وراثية) أو تكون ثانوية (بيئية مكتسبة). ونظراً لأن التخلف العقلي تتعدد أسبابه بشكل كبير فيمكننا أن نتناول هذه الأسباب حسب مراحل تطور الفرد بدءً من مرحلة الإخصاب، وحتى مرحلة الولادة والسنوات اللاحقة لها. ولا يعني هذا أن أسباب التخلف العقلي تكون مجرد سبباً واحداً فقط داخل كل مرحلة، وإنما قد تكون أسباب عدة توجد في أكثر من مرحلة. ويمكن تقسيم الأسباب إلى ما يلي:-
1- أسباب ما قبل الإخصاب (قبل تكوين الجنين).
2- أسباب بعد الإخصاب (أثناء نمو الجنين).
3- أسباب أثناء الولادة.
4- أسباب أثناء الطفولة المبكرة.
5- أسباب ما بعد الطفولة المبكرة.
وقبل أن نبدأ في عرض هذه الأسباب نود الإشارة إلى أننا تناولنا العديد منها في الفصل الخاص بالعوامل البيولوجية المحددة للشخصية، ومن ثم فإننا سنتعرض لها هنا على نحو سريع، ويمكن الرجوع إليها بالتفصيل في الفصل الخاص بذلك، مع الإشارة بالتفصيل للعوامل الجديدة.
1- أسباب ما قبل الإخصاب:-
ويقصد بهذه الأسباب مجموعة العوامل والاستعدادات الوراثية التي تكمن في تكوين كل من الأم والأب، فتحملها البويضة والحيوان المنوى للجنين. ومثل هذه الأسباب يمكن تحديدها قبل أن يتكون الجنين، إذ أننا نتوقع حدوثها عن طريق الانتقال الوراثي للصفات من الوالدين إلى الطفل. وتنتج هذه الأسباب من وجود جينات تحمل صفات مرضية، وعادة ما تكون هذه الإضطرابات متنحية وراثياَ. وتؤثر هذه الجينات على النمو العقلي نتيجة ما تسببه من تغيرات في صفات الجهاز العصبي والمخ. ويمكن تقسيم هذه الأسباب إلى ما يلي:-
1- اضطراب تمثيل الأحماض الأمينية:-
تعد الأحماض الأمينية كما نعرف المركبات الأساسية للبروتين في الجسم. ومن أشهر الإضطرابات التي تحدث في تمثيلها غذائياً مرض البول الفينايلكيتوني الذي ذكرناه من قبل. والذي يؤدي إلى تراكم مواد ضارة بالجهاز العصبي ويسبب التخلف العقلي. وتبلغ نسبته 1:15000، ويمكن تشخيصه مبكراً ومن ثم علاجه.
2- إضطراب تمثيل الدهون:-
وهذا الاضطراب ينقسم إلى نوعين: الأول يتميز بزيادة نسبة الدهون في الجهاز العصبي، وزيادة تخزينها. والثاني يتميز بنقص الدهون في الجهاز العصبي مما يؤدي إلى فقدان الغشاء الدهنيMyeline sheath الواقي لمحور الخلية العصبية Demylination. ومن أمثلة هذه الإضطرابات ما يلي:-
أ- مرض تاي-ساكس: Tay-sachs وهو أحد الأمراض الوراثية المتنحية التي تنتشر بين اليهود، ويظهر في سن 4-8 شهور. ويكون مصحوباً بفقدان البصر، والتشنجات، ويؤدي إلى الوفاة المبكرة.
ب- مرض جوشر: Gaucher's disease وهو مرض متنح وراثياً وينتشر في اليهود أيضاً، وتظهر علاماته في السنوات الأولى من العمر، ويتميز بتدهور شديد في القدرة العقلية والنمو بوجه عام.
3- اضطراب تمثيل الكربوهيدرات:-
ومن أشهر الأمراض الناتجة عن هذا الاضطراب المرض المعروف بزيادة نوع معين من السكر في الدم، وهو سكر الجلاكتوزGalactose. وهو أحد الأمراض المتنحية وراثياً، ويتميز بظهور نسبة عالية من هذا السكر في البول، ولذلك يسمى بمرض جلاكتوز الدم أو الجلاكتوزيمياGalactosaemia. وتبدأ أعراضه في الظهور بعد أيام قليلة من عملية الرضاعة الصناعية، وتكون الأعراض جسمية في البداية مثل الصفراء والإسهال، والقيء، وتضخم الكبد. وتظهر أعراض التخلف العقلي متأخرة، ولكن عادة ما يموت الطفل مبكراً إذا لم يتم اكتشاف الحالة وعلاجها في وقت مبكر.
4- اضطراب الكروموسومات:-
أشرنا إلى أن اضطرابات التمثيل الغذائي المتسببة في التخلف العقلي تكون نتيجة لوجود جينات مرضية متنحية. ولكن قد يرجع التخلف العقلي إلى اضطراب في الكروموسومات ويأخذ هذا الاضطراب شكل نقص أو زيادة أو تشوه في الكروموسومات الجسمية أو الجنسية. أو نتيجة لوجود جينات سائدة. ويمكن تقسيم أنواع الاضطراب الكروموسومي إلى ما يلي:-
أ- زيادة عدد الكروموسومات الجسمية، مثلما يحدث في مرض داون (47 كروموسوم).
ب- نقص عدد الكروموسومات الجسمية مثل المرض المعروف باسم مواء القطة Cat Cry Syndrome الذي ينتج من نقص كروموسوم رقم 5، ويتميز بصرخة يطلقها الطفل تشبه مواء القطة، نتيجة اضطراب في الحنجرة. وتكون درجة التخلف العقلي شديدة، وبعض المرضى به يعيش حتى سن البلوغ.
ج- تغير في الكروموسومات الجنسية مثل متلازمة كلاينفيلتر (XYY)، ومتلازمة تيرنر (XO).
د- مرض كروموسوم إكس الهش، وهو أحد الأمراض المرتبطة بالجنس، ويسبب التخلف العقلي للذكور، بينما تحمله الإناث. وتبلغ نسبته في حالات التخلف العقلي حوالي 2-20%.
أما الأسباب المتعلقة بالجينات السائدة فتشمل الأمراض التالية:-
1.التصلب الحدبيTuberous sclerosis ويحدث بنسبة 2:000,20 وتأخذ أعراضه ظهور طفح جلدي على هيئة حبيبات تتركز في المنطقتين المحيطتين بالأنف، وتظهر على شكل فراشة Butterfly rash، كما قد توجد أورام بالقلب والكليتين والكبد. مع حالات الصرع.
2. زملة أعراض ستيرج ويبرSturge-Weber syndrome وتظهر فيه تشوهات في الأوعية الدموية الجلدية، تأخذ شكل الورم الوعائي في الجلد (الوحمة) Navous، مع تغيرات أخرى، ويصاب ثلثا المصابين به بالتخلف العقلي.
3. التورم الليفي العصبيNeurofibromatosis ويسمى بزملة أعراض فونريكلنجهاوسينVon Recklinghausen syndrome. وتبلغ نسبة المرض 1:3000، وتظهر فيه مساحات مصبوغة على الجلد تسير في مسار الأعصاب الجلدية، كما قد تظهر فيه أورام بالجلد فيما بعد. ويصاب ثلث الحالات بالتخلف العقلي.
ثانياً- أسباب ما بعد الإخصاب:-
بعد تكوين البويضة المخصبة ودخولها في طور الانقسام، يمكن أن تتعرض لتغيرات في البيئة (الداخلية والخارجية) تؤثر على تكوين الجنين وخاصة جهازه العصبي الذي يعد أكثر الأجهزة تأثراً بهذه التغيرات، ويكون مسئولاً عما يصيب الطفل من تخلف عقلي. وتشمل أسباب هذه المرحلة ما يلي:-
1- إصابة الأم بالأمراض:-
ومن أمثلة ذلك ما سبق وذكرناه في المحددات البيولوجية للشخصية من قبيل إصابة الأم بالحصبة الألماني، أو بالزهري، أو غيرها من الأمراض البكتيرية أو الفيروسية.
2- تعرض الأم للسموم:-
ومن أمثلتها تعرض الأم أثناء فترة الحمل للعديد من المواد الضارة كتناول الكحوليات، أو العقاقير الطبية غير الآمنة على الجنين، أو التعرض لأشعة إكس، أو للإشعاع الذري. وغير ذلك من العوامل التي تؤثر على نمو الجنين بشكل عام، وجهازه العصبي بشكل خاص.
ثالثاً- أسباب الولادة:-
وتشمل أسباب هذه المرحلة مجموعة من المتغيرات سبق وذكرناها، وهي:-
أ- الولادة المتعسرة.
ب- الشد على رأس الجنين.
ج- قلة أو انعدام الأكسجين.
وقد ينتج في هذه الحالات إصابات بالمخ يكون بعضها واضحاً وظاهراً من حيث التغيرات التشريحية في المخ، والبعض الآخر يكون المخ فيها مصاباً بدرجة لا يمكن رؤيتها حتى ميكروسكوبياً. ومثل هذه الحالات يطلق عليها إصابةمخية طفيفةMinimal brain damage وتظهر أثارها بعد ذلك في مجموعة من الأعراض التي تشمل خللاً في وظائف الجهاز العصبي، تظهر في اضطراب الإدراك، وعمليات التصور والتخيل واللغة والذاكرة، والانتباه، وعجز القدرة على التعلم، مع الإفراط الحركي Hyperactivity. وعادة ما يكون معامل ذكاء الأطفال المصابين بهذه الحالة أقل من المتوسط أو في المتوسط، ولكن توجد لديهم أوجه قصور في النواحي التعليمية أو السلوكية، مع ضعف القدرة على التكيف.
رابعاً: أسباب الطفولة المبكرة:-
قد يتعرض الطفل في سنواته عمره الأولى (الخمس سنوات الأولى) للإصابات أو الحوادث أو الأمراض التي تؤثر على جهازه العصبي أو المخ على وجه التحديد. وهذه الإصابات يمكن أن تؤخر من مستوى ذكائه، ويحدث نوع من التدهور في القدرات العقلية التي كانت موجودة قبل التعرض لهذه الإصابات. ومن أمثله ذلك ما يلي:-
1- الإصابة باليرقان:-
اليرقان أو الصفراء Jaundice هو ارتفاع نسبة المادة الصفراء Billirubin في الدم نتيجة تكسر كرات الدم الحمراء أياً كان سبب هذا التكسير. وقد يحدث في الأطفال حديثي الولادة ولا يستمر فترة طويلة (ثلاثة أيام فقط) ويعتبر في بعض الحالات أمراً طبيعياً، ولذا يسمى بالصفراء الفسيولوجية Physiological jaundice. ولكن في بعض الأحيان يحدث هذا المرض نتيجة عدم توافق دم كل من الأب والأم، نتيجة اختلاف عامل ريسيس، ويكون نتيجة ذلك تكسر شديد في كرات الدم، ينتج عنه زيادة كبيرة لمادة الصفراء، فتتجمع في الخلايا العصبية وتؤدي إلى تلف الجهاز العصبي والمخ، مما يتسبب في ظهور العديد من العلامات المرضية كالتشنج، وضعف الأطراف، والتخلف العقلي.
2- إلتهابات المخ:-
من الإصابات المرضية التي تصيب الأطفال في سن مبكرة التهاب المخ أو ما يُسمى بالحمى الشوكية Encephalitis، أو التهاب الأغشية المبطنة للمخ (السحايا) وتسمى بالحمى السحائية Meningitis. وكل هذه الالتهابات تحدث تلفاً بالغاً في خلايا المخ والجهاز العصبي، مما يؤدي إلى العديد من المظاهر المرضية التي يمكن أن تستمر مع الطفل إذا لم يتم علاج الحالة في وقت مبكر وبشكل فعال. وتشمل هذه الأعراض شلل في بعض أو كل الأطراف، التشنجات، ضعف النمو العقلي.
3- إصابات الرأس:-
قد يتعرض الطفل في سنواته الأولى لبعض الحوادث في البيت أو في الطريق تتسبب في إصابة رأسه، كأن يقع من مكان مرتفع، أو تصدمه سيارة، أو يرتطم رأسه بأجسام صلبة بشكل شديد ومتكرر. وعادة ما يفقد الطفل وعيه نتيجة هذه الإصابات نظراً لما يحدث في المخ من ارتجاج Concussion أو نزيف دموي. ويؤدي تلف المخ الناتج من هذه الإصابات إلى توقف النمو العقلي للطفل، بعد أن ظهرت بوادر جيدة لمستوى ذكائه.
4- تسمم الجهاز العصبي:-
أدى تلوث البيئة المتزايد إلى العديد من المشكلات الصحية، التي يمكن اعتبار تسمم الجهاز العصبي للأطفال واحداً من أهم أخطارها. ومن أبرز هذا التلوث التعرض لمادة الرصاص (مادة غير عضوية تدخل في الطلاء والأصباغ والطباعة)، ويتلوث بها الجو نتيجة عوادم السيارات. وتسمى الحالات الناتجة من ذلك بتسمم الرصاص Lead poisoning الذي يمكن أ، يصيب الأطفال نتيجة نتيجة وجودهم في بيئات ملوثة بعوادم السيارات أو المصانع، أو نتيجة استعمال ألوان غير آمنة صحياً. وتتراكم مادة الرصاص في الجسم لأنها لا تفرز منه، ويؤدي تراكمها هذا إلى تلف الجهاز العصبي فتحدث التشنجات، وشلل الأطراف، بالإضافة إلى توقف النمو العقلي.
و لا يتوقف الأمر على مادة الرصاص فقط، بل إن استعمال المبيدات الحشرية والزراعية غير المصرح بها صحياً، يمكن أن يؤدي إلى أشكال عديدة من تسمم الجهاز العصبي. وقد زادت في الآونة الأخيرة الشكوى من استعمال مواد كيماوية لتحسين إنتاجية بعض الخضر والفاكهة، أو لإنضاجها بشكل مبكر وسريع. ولا تخضع هذه العمليات لأي رقابة مما يعرض الأطفال والكبار للآثار الضارة لهذه المواد. كما بدأ التحذير من استعمال الألوان الصناعية والمواد الحافظة في المواد الغذائية بشكل عام، ومأكولات وحلوى الأطفال بشكل خاص، وكلها مواد من شأنها أن تؤدي إلى العديد من المشاكل الصحية، بما في ذلك الجهاز العصبي.
5- الإصابة بالصرع:-
تُعد الإصابة بمرض الصرع Epilepsy في الطفولة المبكرة أحد الأسباب التي تؤدي إلى القصور العقلي أو توقف النمو العقلي للطفل. وأسباب الصرع وأنواعه عديدة لا مجال لمناقشتها في هذا المقام، ولكن استمرار هذه الحالات دون العلاج المناسب لها، وتكرارها لفترات طويلة تؤدي إلى مزيد من تلف خلايا المخ نظراً لنقص الأكسجين الذي ينتج من تشنج عضلات الصدر، وتوقف التنفس أثناء النوبة الصرعية. وقد يكون الصرع مصاحباً للتخلف العقلي منذ البداية مثلما يحدث في العديد من الأمراض الوراثية المصحوبة بأعراض أخرى ناتجة من تلف المخ، أو يكون الصرع متأخر الحدوث مما يتسبب في توقف أو تأخر النمو العقلي.
6- مرض القصاع:-
وهو المرض الناتج من نقص إفراز الغدة الدرقية، وقد سبق أن تناولناه من قبل.
7- الأمراض الذهانية المبكرة:-
قد يصاب الطفل في سنواته المبكرة بالأمراض الذهانية (العقلية) التي تكون أسبابها وراثية أو عضوية. ومن الأمثلة الشهيرة لهذه الأمراض مرض الذاتويةالطفليةInfantile autism الذي يتميز بنقص الاستجابة للآخرين، مع تخلف مهارات التواصل معهم (صعوبات بالغة في الكلام والفهم). ويأتي الطفل المصاب بهذا المرض بحركات واستجابات سلوكية غريبة (تحاشي النظر إلى أي شخص من حوله، جمود الإستجابةالإنفعالية) مع نقص شديد في النمو اللغوي (استخدام الجمل والضمائر بشكل معكوس). وعادة ما يصيب المرض الطفل قبل سن الثلاثين شهراً، ويصاحبه تخلف في النمو العقلي، حيث يقل مستوى الذكاء عن 50 فيما لا يقل عن 40% من الحالات، بينما يكون مستوى الذكاء 70 في نسبة لا تزيد عن 30% .وعادة ما يحتاج الطفل إلى الرعاية المستمرة والشديدة إذ أنه لا يكون قادراً على الاعتماد على نفسه.
خامساً: أسباب في الطفولة المتأخرة:-
قد يتمتع الطفل بنمو جسمي وعقلي وانفعالي طبيعي في السنوات الخمس الأولى من حياته، ثم يتعرض بعد ذلك إلى العديد من المؤثرات التي توقف عملية النمو في جزء أو كل هذه المظاهر. ويفقد الطفل ما تعلمه وأتقنه من مهارات حركية أو لغوية أو اجتماعية. ويمكن لكل العوامل التي تصيب الطفل في الطفولة المبكرة أن تحدث في الطفولة المتأخرة، كالإصابة بأمراض المخ، أو إصابات الرأس وغيرها.
ومن الأمراض الذهانية التي تصيب الأطفال في الطفولة المتأخرة المرض المعروف بمتلازمة هيللرHeller's syndrome، أو ذهان تحلل الدماغ الطفوليDisintegrative Psychosis. ويتميز هذا المرض العضوي بتلف كتواصل لخلايا القشرة المخية، وتحلل أنسجة المخ. ويصاب بهذا المرض أطفال طبيعيون تمتعوا بقدر جيد من النمو الطبيعي بعد الولادة، ولفترة تمتد إلى عدة سنين، ثم تظهر بعدها وبشكل تدريجي ومتزايد علامات المرض والتي تشمل بعض الشذوذ في سلوك الطفل وعاداته. ثم يبدأ التدهور المتواصل فيما حققه الطفل من قدرات عقلية سابقة، بالإضافة إلى فقدانه للمهارات الحركية والاجتماعية والتعليمية والانفعالية التي كونها من قبل. وبعد ذلك تظهر علامات مرضية أخرى كالإفراط الحركي، وتكرار الحركات، ونمطيتها Hyperactivity & Stereotypy. وقد يصاب الطفل في النهاية بنوبات الصرع التي تزيد من تدهور حالته العقلية.
المصدر
http://bafree.net/arabneuropsych/index.htm