صالح ورحلة التوحد
صالح الوحيد لابويه كانت ولادته عادية بعد فترة حمل طبيعيه.وكانت عملية ارضاعه تتم بطريقة سهلة وطبيعية خلال فترة الرضاعة،كما تم انتقاله بعد فترة الرضاعة الى تناول الاطعمة الصلبة بدون اية مشاكل تذكر . وكان نومه طبيعيا.لقد كان والداه مسرورين لهدوئه وسهولة العناية به.هذا الطفل بدا يجلس بدون مساعدة عندما بلغ عمره ستة أشهر وعقب ذلك بدا يحبو بحيوية ونشاط جعلت والديه يعتقدان بانه عنيد وذو شخصية مستقلة الا ان جدته كانت محتارة حيال نزعته الاستقلالية حيث لاحظت انه يفضل الوحدة كما لو كان يفتقد للرغبة فى التفاعل مع الاخرين من حوله.
وبدا الطفل يمشى مع اكتمال السنة الاولى من عمره ،الا ان نموه لم يتطور خلال العام الثانى كما كان متوقعا.وعلى الرغم بان الطفل بدا باصدار بعض الاصوات الا انه لم يتمكن من نطق الكلمات ، لقد كانت قدرته على التواصل محدودة حتى عند بلوغه سن ثلاث سنوات،فقد كانت والدته تلجا الى التخمين لمعرفة ماذا يريد كما لو كان اصغر من ذلك بكثير،وكان فى بعض الاحيان يمسك بيد والته ويصطحبها معه الى الثلاجه،ولم يحدث ان نطق بكلمه ماء،او شراب او ان اشار بيده الى الثلاجه.
لقد كان ذلك مصدر ازعاج لوالديه،اللذين بدا عليهما التخوف من النزعة الاستقلالية المفرطة لدى ابنهم،فعلى سبيل المثال لم يكن الطفل يذهب لوالديه بعد ان يتعثر او يسقط ليخبرهم بانه اذى نفسه،كما انه لم يكن يكترث عندما تخرج والدته من المنزل وتتركه عند الجيران او الاقارب ، الامر الذى جعل الوالدين يشعران بان ابنهما غير مهتم بهما او لا يحبهما.وكان الطفل يبدى اهتماما كبيرا باللعب بالمكعبات ويقضى ساعات طويلة فى صفها بطريقة رتيبه ومكررة ويرتبها حسب لونها بنفس الطريقة ولا يبدى اى اهتمام للاخرين من حوله .كما بدا التخوف لدى الوالدين على قدرة ابنهم على السمع وما اذا كان يعانى من اعاقة سمعية لا سيما عندما يناديان الطفل باسمه ولا يستجيب لهما،فى حين ان قدرة الطفل على السمع كانت تبدو حادة فى مواقف اخرى فمثلا كان الطفل يدير راسه لسماع صوت طائرة تحلق من فوق المنزل،او لمتابعة صافرة الانذار الصادرة من سيارة المطافئ التى تمر فى الحى الذى يسكنه حتى ولو كانت بعيدة، الامر الذى زاد من حيرة والديه وتخوفهما .
وفى الاسابيع التى تلت السنة الثالثة من عمر الطفل كانت حيرة وتخوف الوالدين فى ازدياد متصاعد على الرغم من طمانة الاخصائيين الطبيين لهما. فلم يكن الطفل قادرا على استخدام مفردات للتعبير عن ما يختلج نفسه،كما لم يكن يبدى اى اهتمام باللعب مع الاطفال الاخرين، وكانت ام الطفل تتعذب كثيرا لعلاقة ابنها بها والتى كانت تتسم بالبرود خصوصا عندما كان يمانع احتضانها له ويهرب منها ، ولم يكن يفضل اللعب الا اذا كان يتصف بشئ من الخشونة والتشقلب مع والده،لدرجة ان والدته بدات تشعر بالذنب والحزن الشديد لرفض ابنها لها بشكل متكرر.
عندما بلغ سن الطفل ثلاث سنوات ونصف وبناء على نصيحة طبيب العائلة تم عرض الطفل على اخصائى نفسى، الذى افاد والديه بان الطفل يعانى من اضطراب التوحد،واضاف ان قدرات الطفل ومهاراته المتعلقه بالمكان تدل على ان وظائفه العقليه طبيعيه، وان الوقت لا يزال مبكرا لمعرفة الطريقة التى سيتاثر بها نمو الطفل، الا ان هناك بعض المؤشرات التى تدل على ان الطفل سيكون افضل من كثير من الاطفال التوحديين الاخرين.واقتراح الاخصائى ان يلتحق الطفل بروضة لذوى الاحتياجات الخاصة تتوفر فيها خدمات علاج النطق ، كما قام الاخصائى النفسى بزيارة العائلة فى منزلها ووضع لهم خطة تساعد فى تطوير قدرة ابنهم على التواصل ، وتقلل عدد وتكرار نوبات الغضب لدى الطفل.
وعندما بلغ الطفل سن اربع سنوات وبشكل مفاجئ ،بدا يتكلم بجمل مكتملة ومفيدة،وكان ذلك سببا فى ارتياح الوالدين اللذين اعتقدا لبعض الوقت ان ابنهما قد تجاوز اعاقته،قبل ان يلاحظا ان طريقة كلام ابنهما غريبة بعض الشئ،فقد كان الطفل يعيد ما يسمعه من ابويه كلمة كلمة.فعلى سبيل المثال عندما تساله امه هل تريد ان تشرب؟ يجيب الطفل "تريد ان تشرب" وفى مواقف اخرى تصدر عن الطفل عبارات مفاجئه،فتسمعه على سبيل المثال يقول"انك انسان مزعج"بنفس نبرة الصوت التى سمع بها صديق العائله يستخدم هذه العبارة قبل بضعة ايام .كما كان يلاحظ ان معظم كلامه وعبارات الاخرين التى كان يرددها لم تكن منسجمه مع الموقف وتقتقر لمعنى واضح مفهوم .
لقد كانت الفترة من سن اربع الى ست سنوات فترة عصيبة جدا وجلسات علاج النطق،فعلى الرغم من الحاقه ببرنامج تربوى خاص وجلسات علاج النطق التى خضع لها فقد كان مقدار التحسن فى تطور قدراته محدودا.ونشا لديه خلال هذه الفترة تعلقا وحبا بالمكنسة الكهربائيه،وباع مدة انارة الشوارع،فاصبح يرسمها دائما وبشكل متكرر.وتجده يقفز عاليا وبشكل مثير كلما اخرجت والدته المكنسة الكهربائيه ويبدا يصفق بيديه ويطقطق باصابعه بالقرب من عينيه .كما استحوذ عليه اهتمام كبير بالانوار، فتجده يركض من غرفة لاخرى داخل المنزل يضئ الانوار ويطفيها. ومن جهة اخرى كان الطفل يسبب ازعاجا لاهله كلما قرروا الخروج من المنزل باصراره على ان يسلك الاهل نفس الطريق دون تغيير ليتسنى له عد اعمدة الانارة فى الشوارع وكان يقوم بهذه المهمة دائما دون كلل او ملل.
وكان سلوك الطفل غريبا فى نواح اخرى فلم يكن الطفل ينظر الى من حوله بشكل مباشر فاما ان يسترق النظر الى اخرين او انه لا ينظر اليهم على الاطلاق وعلى الرغم من ذلك كان الطفل يلاحظ كل شئ حوله وبالتفصيل فعلى سبيل المثال كان يقود دراجته على اكثر الارصفه ازدحاما دون ان يصطدم باحد وكان يلاحظ لوحات السيارات التى تحتوى على الرقم (4) قبل غيره كما كان يقوم ببعض التصرفات التى تخجل والديه كان يخطف قطعة الساندوتش من صحن شخص غريب فى المطعم وياكلها مما اضطر والديه الى عدم الذهاب الى المطاعم.
وفى سن المدرسة وجد الطفل صعوبة فى تعلم القراءة والكتابة فى حين كان مستواه جيدا فى الرياضيات وكان يشعر بسعادة كبيرة وهو يتعلم جدول الضرب كما كان يجيد تركيب الالغاز المصورة ( Puzzles) بسهولة فعندما كان عمره ست سنوات تمكن من تركيب لغز يتكون من 200 قطعة دون مساعدة وتمكن من تركيب لغز يتكون من 100 قطعة مقلوبا (دون ان ينظر الى الصور) اما على الصعيد الاجتماعى فلم يكن الطفل قادرا على تكوين صداقات مع غيره من الاطفال وكان يلعب بطريقة مختلفة الامر الذى ادى الى تجاهل الاطفال له فتجده وحيدا معظم الوقت يفضل ان يشغل نفسه بواحدة من هواياته التى يحبها مثل عد اعمدة الانارة بدلا من اللعب مع الاطفال الاخرين .
عند سن السابعة التحق الطفل بمدرسة خاصة للاطفال التوحديين وبدا يهتم بوالديه فكان على سبيل المثال يسارع الى امة بعد ان يقع او يؤذى نفسه ليريها ما حدث له اضافة الى انه بدا يظهر بعض الارتياح عندما تحضنه والدته كما بدا فى اظهار بعض الاهتمام بوالده عندما يعود الى البيت من عمله كما كان يترقب عودة والده من العمل الا ان والديه لم يكونا متاكدين عما اذا كان الطفل يسر لعودة ابيه الى البيت ام انه مجرد تاكد من ان الا قد عاد من عمله تماما عند السادسه مساء
وقد استمر نمو الطفل فى المدرسه وتطورت قدراته وبلغ سن التاسعة عشرة ولم يعد يردد الكلام الذى يسمعه بل اصبح قادرا على كلام المفهوم وبامكانه تجاذب اطر اف الحديث مع الغير فى الموضوعات التى تهمه كما ان بمقدوره قراءة الكتيبات الصغيرة على الرغم من الصعوبة التى تعترضه فى متابعة مجريات القصة ولذلك فان اهتمامه بالقراءة والكتابة لا يزال محدودا وتجده يفضل الانشغال بهواياته الجديدة التى من بينها تجميع اغطية الزجاجات والاستماع الى الاغانى فهو لا يمل مشاهدة برامج الاغانى فى التليفزيون ويشعر بسرور غامر وهو يتابع اخبار احدث الاغانى واكثرها انتشارا فتجده يحفظ تلك القوائم عن ظهر قلب او يكتبها باهتمام وباستطاعته معرفة قوائم العشرين اغنيه الاكثر شهرة لفترات متلاحقه فى السنوات التى مضت وعلى الرغم من حدوث بعض التحسن فى مهاراته الاجتماعيه الا انه لا يزال يواجه صعوبة فى التفاعل مع مجتمعه وكثيرا ما يفضل الابتعاد عن اقرانه حيث لم يتمكن من تكوين علاقات صداقه معهم على الرغم من رغبته فى ذلك وقد سال والديه اكثر من مرة كيف يمكنه تكوين صداقات مع اقرانه وكان امرا محزنا وصعبا على والديه ان يجيبا على تساؤله فيما يتعلق بهذا الموضوع الذى يحدث لغيره من الاطفال بشكل عفوى وطبيعى.
وقد انتهى المطاف بالطفل فى ورشة عمل محمية يقوم فيها بتركيب مكونات الراديو وينظر اليه المشرفون على الورشه على انه عامل مثابر ومتمكن الا انهم لم يستطيعوا تكليفه باعمال اخرى اكثر مسؤولية لانه غير قادر على تطوير مهاراته الاجتماعيه مع زملائه فى العمل وعملائه وهو يشعر بان لديه قصور فى قدرته على تفهم الاخرين وعلى الرغم من ذلك فان لديه تطلعات غير منطقيه بالنسبه للمستقبل فهو يتطلع الى ان يتزوج وان يكون له اولاد…. ولكنه لا يدرك بشكل جيد تبعات ذلك .