الاكتئاب المزمن عند الأطفال والمراهقين
سجى رياض صالح
هذا البحث يتعرض إلى:
♦ تعريف الاكتئاب.
♦ أعراض الاكتئاب.
♦ أسباب الاكتئاب.
♦ تشخيص الاكتئاب.
♦ العلاج.
♦ دور الأهالي في العلاج.
♦ دور المدرسة في العلاج.
♦ المنهج النبوي الشريف للوقاية من الاكتئاب وأعراضه.
قد كثرت الدراسات والبحوث عن الاكتئاب عند البالغين في هذا العصر، وبدرجة أقل عن الاكتئاب الذي يصيب الأطفال أو المراهقين. ربما يعزو هذا الأمر إلى كون مرحلة الطفولة وبالأخص مرحلة المراهقة قد يرافقها بعض المشاعر الإحساس السلبية مثل الحزن، والقلق، والغضب، وعدم الثقة بالنفس، وغيرها، فكيف نميز ما بين الاكتئاب الطبيعي والاكتئاب المرضي المزمن؟ الفرق هنا أننا لا نتكلم عن فقط مشاعر حزن، أسى، أو قلق فحسب وإنما عن مشاعر ذات مستوى أكبر من ناحية الحزن والقلق الذي قد يصل إلى درجة الجزع، ومشاعر تمتد لفترة أطول وتؤثر بالسلب على حياة الطفل او المراهق الشخصية والأكاديمية والاجتماعية فتصبح الحياة صعبة وقاسية ومريرة إلى أبعد الحدود بالنسبة للشخص المصاب ولمن حوله من الأهل والمدرسة والأصدقاء.
فما هو الاكتئاب؟
الاكتئاب حسب ما تعرفه الرابطة الأمريكية لعلم النفس (DSM-IV) على أنه اضطراب رئيسي وكآبة مزمنة تسبب عدم الاهتمام، أو إيجاد المتعة في الفعاليات اليومية أو الروتينية، وهذا يحدث كل يوم، على أن يستمر لمدة لا تقل عن أسبوعين على الأقل.
يؤثر الاكتئاب على حياة الشخص تأثيرًا كبيرًا، فيصاب بالقلق والخوف والغضب والأسى في فترات طويلة قد يصاحبها نوبات من البكاء أو انسحاب شديد من الأهل والمحيط.
ويعرف المعهد الأمريكي للصحة العقلية الاكتئاب على أنه "خلل في سائر الجسم يشمل الجسم والأفكار والمزاج ويؤثر على نظرة الإنسان لنفسه ولما حوله من أشخاص، وما يحدث من أحداث بحيث يفقد المريض اتزانه الجسدي والنفسي والعاطفي".
أعراض الاكتئاب:
• الحزن والأسى الشديد بدون أي سبب ملحوظ، وبشكل مستمر.
• البكاء والنحيب.
• الانعزال والانسحاب عن العائلة والمجتمع.
• عدم الاهتمام بالفعاليات التي قد كان الطفل / المراهق يتمتع بها سابقًا؛ كالرياضة أو السباحة، أو القراءة، أو الذهاب إلى النادي أو المسجد، فتجد الطفل أو المراهق غير قادر على إيجاد أي رغبة في ممارسة أي من هذه النشاطات.
• مشاعر سلبية حول الذات قد تصل إلى إهانة الطفل أو المراهق نفسه، بوصفها صفات مهينة ومحتقرة، هذه السلبية قد تكون واضحة في عدم الثقة بالنفس والإحساس بعدم أهمية الشخص.
• الإحساس بالذنب.
• انعدام الطاقة وعدم الرغبة في عمل أي شيء.
• النوم الكثير أو العكس.
• التشكي الشديد أو المتكرر من الآلام جسدية؛ مثل: الصداع، وأوجاع في البطن.
• زيادة ملحوظة في الوزن أو العكس.
• قد يصاحب الاكتئاب غضب شديد وعصبية، وانفعال تجاه الشخص والآخرين.
• سوء الأداء الدراسي، بسبب عدم اهتمام الشخص من جهة ومن جهة أخرى بسبب عدم القدرة على التركيز والانتباه.
• قد يدفع الاكتئاب الطفل وخاصة المراهق إلى التدخين، والإدمان على المخدرات والعقاقير أو غيره.
• التفكير المتواصل في الموت، وفي حالات الاكتئاب المزمن قد يصل الحال إلى التفكير في الموت، أو التفكير في طرق متعددة لكيفية الانتحار، (إذا وصل الاكتئاب إلى هذه الدرجة، فهذا ناقوس خطر يجب على الأهالي أن ينتبهوا ويجب مراجعة الطبيب الفورية من أجل هذا الأمر)، أو محاولة الانتحار. أسباب الاكتئاب:
ما زالت أسباب الاكتئاب عند الأطفال والمراهقين غير مفهومة على الوجه الأمثل، ولكن هناك ثلاث أمور قد تكون أحد المسببات:
تشخيص الاكتئاب:
1- بعض الأدوية والعقاقير لها أعراض جانبية قد تسبب تغييرات في هرمونات وكيميائية الجسم؛ مما يؤدي إلى الاكتئاب.
2- أحداث معينة؛ (كفِقدان عزيز، أو الانتقال من البيت أو المنزل إلى حي أو بلد آخر، أو حدوث الطلاق، العنف العائلي).
3- عامل الوراثة.
ينصح المختصون الأم والأب بمراجعة طبيب نفسي متخصص لعلاج الاكتئاب، الطبيب المعالج هو الذي سوف ينظر إلى المرض من ناحية أعراضه، أسبابه، وما هي الطريقة الأنجع في التعامل معه.
العلاج:
• العلاج بأدوية مضادة للاكتئاب، ويُنبه الأطباء الأهالي أنهم قد يحتاجون إلى أن يجربوا أكثر من نوع من الأدوية والجرعات؛ حتى يتوصلوا إلى الدواء المناسب لحالة طفلهم، وفي العادة ينصح بالانتظار ما بين أسبوع إلى ثلاث أسابيع لمعرفة إن كان الدواء ذا نفع أم لا.
• غالبا ما يصاحب العلاج بالأدوية علاج نفسي وسلوكي، هذا العلاج قد يقدم من خلال خبير مختص بالعلاج السلوكي، ويتم من خلال جلسات على فترات مختلفة يتم فيها تعليم الطفل كيفية التعامل مع مشاعر الاكتئاب، وما يرتبط به من مشاعر الإحباط، والحزن، والغضب، والإجهاد، والضغط أو التوتر النفسي.
دور الأهالي في العلاج:
مما لا يخفى على أي احد، دور الأم والأب في علاج ولدهم أو ابنتهم بغض النظر عن نوعية المرض أو الإعاقة، ولعل أول نقطة يجب التطرق إليها في هذا المجال هو اعتراف الوالدين أن ولدهم يحتاج إلى مساعدة متخصصة، وأنه لا عيب في كون ولدهم أو مراهقهم يعاني من الاكتئاب الذي هو جزء من الصحة النفسية والعقلية، وبكل أسف، تُشكل مجتمعاتنا العربية والشرقية نظرة سلبية لمن يعاني من هذه الأمراض، وينظر عامة الناس - (وخاصة غير المثقفين منهم) - إلى الأمر على أنه قلة تربية أو صرامة من قِبَل الأم والأب.
الاكتئاب مرض وليس اختيار وهو أمر ليس من الممكن لنا أن نقول للطفل أو المراهق: "لا تحزن"، أو "قل للحزن لا" ونتوقع أن يشفى لحاله.
إن حال الشخص المصاب بالاكتئاب المزمن هو حال من يعاني من مرض الربو أو السكري، فليس الاكتئاب هو رغبة من المريض، وإنما هو ابتلاء من رب العالمين، وأنه كما أننا نسعى لشراء دواء البخاخة لصاحب الربو، ونعطي إبرة الأنسولين لمريض السكري، هنا أيضًا يجب علينا أن نبحث مع المختص على الطريقة الأمثل للعلاج.
متى ما تمكنت هذه القناعة - (وهي أن الاكتئاب مرض وليس اختيار) - في ذهن الوالدين، يمكن لهم أن يعينوا ولدهم أو ابنتهم على التعامل مع الاكتئاب من خلال الإرشادات التالية:
• قبل كل شيء مراجعة الطبيب النفسي أو المتخصص في هذا المجال.
• إعلام المدرسة بما يجري في البيت؛ حتى تعمل المدرسة والبيت كفريق واحد؛ (انظر دور المدرسة في العلاج).
• عدم الخوض في مشاعر اللوم؛ سواء تجاه الذات، أو الطفل المراهق المصاب.
• تكلم مع طفلك أو المراهق - (حسب العمر ودرجة الفهم والإدراك) - حول ما يحدث، كثير من الأطفال يصابون بخوف شديد من الأعراض المصاحبة للاكتئاب، فتراهم ينعزلون أكثر وأكثر، حاول أن تشجع ولدك على أن يفتح قلبه لك، ويشاركك أفكاره وهمومه، ومع هذه الصراحة، لا بد من التنبيه على أهمية عدم الهجوم، أو التسخيف، أو الاستهزاء، أو التقليل من أهمية ما يشكو منه، فلا تجرحه بالكلمة، فلا يفتح صدره وقلبه لك في المستقبل، تخيَّر الوقت المناسب للكلام، وحاول أن تسمع قبل أن تكلمه بأسلوب بسيط وسهل بعيدًا عن المحاضرات والانتقادات اللاذعة.
• تمالك أعصابك، خاصة في بداية الأزمة.
• ثقف نفسك وولدك.
• راقب أجراس الخطر: وهنا أعني عندما يتكلم طفلك حول الموت أو طرق الموت أو تفكيره في الانتحار، هذه الأمور تعتبر أجراس خطر، وتحتاج إلى تصرف عاجل جدًّا: كلِّم الطبيب حالًا!
• ذكر ولدك أنك تُحبه، هذه النقطة هامة جدًّا، فقد يظن البعض أن الشخص المكتئب لا يكترث بمشاعر الآخرين، وقد يكون هذا الأمر فيه وجه من الصحة، لكن مع تأكيدك لمحبته يومًا بعد يوم، وأن محبتك لن تتغير مهما تغيرت الظروف، ومع الأيام سوف ترى أن الحب والحنان في تلك الأيام الأولى العصيبة، سوف يترك أثرًا طيبًا مباركًا.
• شارك عائلتك مائدة الطعام أو جلسة المساء، ولا بأس ببعض المزاح الحلال، فلقد أثبتت العديد من الدراسات أهمية الضحك لصحة الإنسان العقلية والنفسية.
• ركز على الإيجابية في التعامل، فمثلاً إن رأيت ولدك يقرأ في كتاب أو يسمع أغنية، أو يمارس الرياضة، امدح هذا التصرف في حين حدوثه.
• ساعد ولدك أن يُحب الحياة والفعاليات، فكر في الاشتراك في النادي والذهاب إلى النادي للرياضة، فلقد أثبتت الأبحاث والدراسات العلمية أن ممارسة الرياضة تساعد الجسم على إفراز "الإندورفين"، وهو إنزيم مساعد على تهدئة الأعصاب.
• اقرأ القرآن الكريم وتمعَّن في خطاب الله تعالى إليك: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، وفكر في نفسك وقُل لولدك: "ما هي القوة الموجودة في داخلي أو داخلك حتى اختارنا الله تعالى لهذا الابتلاء؟".
• ابحث عن نقاط القوة واستغلها.
• علِّم ولدك كيف ينظم ويخطط ويستغل اليوم واللحظة.
• علِّم ولدك كيف يوازن في الأكل والشرب، والنوم، والدراسة، والترفيه، والدين، والرياضة... إلخ. هذه الموازنة هي التي سوف تخلق نوعًا من الروتين الإيجابي في حياة الطفل أو المراهق.
• شجِّع ولدك أن يكون حلقة من الأصحاب الإيجابيين؛ حتى يكون عنده القدرة على مواصلة التواصل الاجتماعي، والعبرة هنا في النوعية لا في الكمية، فيمكن لصديق واحد أن يعطي من الدعم الاجتماعي ما لا يمكن لأشخاص متعددين أن يقدموه.
• عُد نعم الله تعالى التي لا تحصى: وهنا أنصح أن تكون هذه الفعالية شيئًا تعمله العائلة سوية؛ حيث وأنتم جالسين على مائدة الطعام، أو في السيارة، أو قبل النوم بقليل، يمكن لكل شخص أن يذكر نعمة تمتع بها اليوم على ألا يكرر شخص نعمة ذكرها الشخص الذي قبله، هذه الفعالية سوف تزيد من التعاطف والتآلف الأسري، وتزيد من شكر الله تعالى الذي بشكره تزيد النعم.
• خُذ كل يوم بيومه ولا تتعجل النتائج.
• كُن صبورًا، قل في قلبك: "ربي إني صبرت كما أمرتني، فبشِّرني كما وعدتني!".
• ثق بالله، فإن الذي خلقك لن يتركك؛ "ومن يتوكل على الله فهو حسبه".
دور المدرسة والمُدرسة في العلاج:
قد تلاحظ المدرسة أو تميز علامات الاكتئاب عند الطفل أو المراهق خاصة، من خلال مراقبة تصرفات الطالب، فالطالب الذي يعاني من الاكتئاب تراه:
• قليل القدرة على التركيز والانتباه.
• يحصل على علامات قليلة.
• عديم الاهتمام بإنهاء الواجبات المدرسية وتقديمها في الموعد المحدد.
• قد يكون شديد الحساسية لكل نقد من قبل المدرسة أو الطلبة الآخرين.
• قد ينعزل عن الطلبة من حوله.
• قد يدخل في مشاجرات ومشاحنات مع طلبة آخرين لأسباب تافهة، أو حتى بدون سبب.
• قد يبدو غير قادر على السيطرة على مشاعره، فتراه عصبيًّا، غاضبًا، حزينًا، أو متوترًا.
• قد يبدو مُتعَبًا، وقد ينام في الفصل.
• بشكل عام يبدو كئيبًا حزينًا غير مهتم بمستقبله أو بتأثير تصرُّفاته على الآخرين.
قد تكون المدرسة هم أول من ينبهون الأهالي إلى وجود مشكلة ما، خاصة عندما يكون التعامل مع العوائل ذوي الدخل المحدود أو ذوي التعليم المتدني، ومن هنا تجدر الإشارة إلى دور المدرسة في تثقيف الأهالي وإرشادهم إلى ما يجب عليهم فعله.
يمكن للمدرسة أن تعين الطالب الذي يعاني من الاكتئاب من خلال بعض الاقتراحات التالية:
• على المدرسة أن تتعلم فن الإصغاء، وهنا لا أعني به فقط أن تكون مستمعة لما يقوله الطالب، وإنما أيضًا فهم ما يعنيه.
• تفهم أن كل طالب مختلف عن الطالب الآخر؛ من حيث المشكلة والحلول، فلا يمكن وضع قالب واحد وتطبيقه على كل حالة.
• تفهم ما إذا كان الطالب يعاني من أي إعاقة، فمن البديهي أن مساعدة الطالب الذي يعاني من الاكتئاب وحده، هو مختلف عن الطالب الذي يعاني أيضًا من صعوبات التعلم، التوحد، الوسواس القهري أو غيره.
• تعلم اهتمامات الطالب ونقاط القوة والضعف في قدراته الصفية واللاصفية.
• تخفيف كمية ونوعية الواجبات الدراسية في فترة الأزمة.
• إعطاء النقد الإيجابي للطالب ودعمه وتقوية ثقته بالذات، وينصح أهل التربية باستخدام المزحة من أجل التعليم؛ (هناك فرق بين المزح الخفيف الهادف، وبين الاستهزاء الجارح والمؤذي).
• تعليم الطالب تقبل عمل الأخطاء، وأنه لا بأس أن يخطئ في حل مسألة ما، وهنا أيضًا يدخل تعليم الطفل عدم لوم الذات الخارج عن إطار المألوف، ومن الطرق الناجحة تعليم الطفل طمأنة النفس في هذه الحالات بأن يقول الطالب لنفسه: "لا بأس أني لم أحل هذه المسألة على الوجه المطلوب، أنا حاولت وهذا هو المهم".
• عمل جدول مرن للطالب يتح للمدرس أو المدرسة أن تكون مرنة في التعليم، أيضًا تعليم الطالب كيفية تنظيم وتخطيط جدوله الدراسي، يمكن للمدرسة أن توفر للطالب دفترًا أو أجندة تسجل فيها المهام الدراسية والمدة الزمنية المتاحة لإنهائها.
• تعليم الطالب كيفية حل المشكلات التي يواجهها؛ حتى يتغلب على حالة الإحباط والإحساس بالفشل.
• تعليم الطالب بعض الإستراتيجيات التي تساعده على التغلب على مشاعر الحزن، والغضب، والإحباط؛ مثال ذلك: قراءة القرآن الكريم، أو الدعاء والصلاة، السباحة، الركض، الكتابة في مفكرة شخصية، التحدث مع شخص يوثق به...، وغيره.
• تعليم الطالب بناء الأهداف على أنها تكون أهداف معقولة وقابلة للتحقيق في مدة زمنية معينة.
• مراقبة تصرفاته، وخاصة ما إذا لاحظت المدرسة أي رغبة أو محاولة في إيذاء الذات.
• مراقبة تصرفات الطلبة المحيطين بالطالب.
• تشجيع التواصل الاجتماعي الإيجابي مع الطالب المصاب بالاكتئاب.
• العمل مع العائلة ومشاركة العائلة بأي معلومات قد تفيدهم في التعامل مع طفلهم؛ سواء من ناحية توفير الكتب، والمقالات المتعلقة، أو إرشادهم إلى من يمكن أن يقدم لهم المزيد من الخدمات كالمراكز المتخصصة في هذا المجال.
المنهج النبوي الشريف للوقاية من الاكتئاب وأعراضه:
يقول الله عز وجل في محكم كتابه: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4] ، فالشقاء والتعب والمجاهدة مكتوب على المسلم، وعلى الرغم من ذلك يأمرنا الله تعالى بعدم الحزن؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139].
إن رؤية متابعة لحياة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام تتيح لنا أن نتفكر أنه توفرت له كل الأسباب التي قد تؤدي إلى الحزن والقلق من كونه ولدًا يتيم الأب، ومن ثم فقده لحنان الأم في أول عمره إلى شبابه وكفاحه، ومن ثم المعاناة والمجاهدة التي استمر بها منذ أن نزل عليه الوحي إلى آخر عمره، لكننا نرى خلال ثلاث وعشرين عامًا من الدعوة رسولًا كريمًا وإنسانًا قويًا لم يدع للحزن أو الخوف إلى قلبه سبيلا، فكيف حصل هذا الأمر؟ وكيف لنا أن نقتدي برسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام في هذا الأمر الرائع.
دعونا نتأمل الأسباب التي جعلت الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام يعيش حياة بعيدة عن القلق والاكتئاب (والله أعلم):
1- الإيمان وتقوى الله والتشبث به؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة 277].
2- القرآن الكريم: كان أعظم مثبت للرسول صلى الله عليه وسلم بما فيه من شفاء للصدور، وتقوية للمجاهدة والاستمرار على الطريق المستقيم، إلى قصص الأنبياء والصالحين وما مروا به من هموم وغموم وابتلاءات وامتحانات؛ قال تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود:120]، وإن كان القرآن الكريم سلوى للرسول الذي نزل عليه، فإنه قرآن ما زال بين أيدينا علينا دراسته وتعلُّمه والاستفادة من كل التجارب التي ذكرت فيه.
3- أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم: دعونا نتأمل في كلمات خديجة رضي الله عنها عندما عاد الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام من غار حراء، قال لها: ((إني خشيت على نفسي))، فأجابته على الفور بثقة مطلقة: "كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين عَلَى نوائب الحق"، فجمعت له صفات الصدق والوفاء وعمل الخير؛ كأكبر دليل على صدق نبوته وتثبيته بألا يشكك فيما أكرمه الله به من الرسالة، وصدق الله العظيم عندما وصفه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
وتعددت الأحاديث التي يأمرنا فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بالأخلاق ومكارمها، فمثلاً قوله: ((ليس المؤمن بطعّان ولا لعّان ولا فاحش ولا بذئ))، و((لا تغضب))، و((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا))، وغيرها من الأحاديث، فهذه الأخلاق تأتي في مساندة الشخص عندما تقع به الأزمة فتراه واقفًا في ظل تيار المحنة لا ينحني، وهذا الأمر مساند ليس فقط للشخص المصاب بالاكتئاب وإنما حتى المحيطين به، فمن تشبث بحبل الله، فإن نصر الله آت لا محالة وأن بعد العسر يُسر.
4- خلق العفو والتسامح: لنا في رسول الله عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة، فبعد أن عاداه قومه وآذوه وحرضوا عليه القبائل وقاتلوه، قال لهم عند دخوله فتحه مكة: (( يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟))، قالوا: "أخ كريم وابن أخ كريم"، قال: ((فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوانه: ﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ﴾ [يوسف: 92]، اذهبوا فأنتم الطلقاء))، سبحان الله العظيم، إن لخلق التسامح تأثيرًا كبيرًا على شخصية الإنسان، فالفرق ما بين الإنسان المتسامح عن غيره، أن المتسامح يعيش بنفس صافية نقية، أما الذي يحمل الضغينة في قلبه ويبحث عن طرق الانتقام وشفاء الغليل، تراه لا يضر إلا نفسه.
5- عدم اليأس: تأمل في المحاولات المتكررة التي حاول فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو قومه وغيره إلى الإسلام في بداية الدعوة، انظر كم من الأقوام والقرى حاول أن يطلب منهم أن يساندوه في الدعوة بعد أن رده قومه قريش، إلى أن أكرم الله تعالى بني يثرب/ المدينة أن شُرفوا به مهاجرًا إلى مدينتهم.
6- الصلاة: سواء من الناحية الروحانية والنفسية، أو الناحية التربوية، أو الناحية التنظيمة ليوم المسلم..، كان صلى الله عليه وسلم إذا أهمه أمر جزع إلى الصلاة، فوجد فيها السلوى والزاد لمواجهة ما ألمه!
7- أذكار الصباح والمساء، وهنا أحب التركيز على دعاء: ((اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، واصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت))، وقد أوصانا عليه أفضل والصلاة والسلام بأن يكون لساننا رطبًا بذكر الله، والإكثار من هذه الدروع الواقية: حسبي الله ونعم الوكيل، إنا لله وإنا إليه راجعون، وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد، ولا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وغيرها من الأدعية المطمئنة للقلب التي إن استشعرها المسلم المؤمن، أحس فعلاً بقرب الله تعالى إليه، ومن كان هذا إحساسه، فلا وجود للحزن أو الوحدة في قلبه.
8- الدعاء واللجوء إلى الله تعالى: تأمل في الأدعية التالية واجعلها في جدول دعائك ودعاء ولدك اليومي:
• عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكثر من هذا الدعاء: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وقهر الرجال))؛ رواه البخاري، والمتأمل فيما استعاذ منه الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام يجد أنها من أكبر أسباب القلق والاكتئاب: الهم والحزن، العجز والإحساس بالشلل الحركي أو النفسي عن تغيير أمور في حياة الإنسان لا قدرة له عليها، الكسل وعدم العمل واستغلال الطاقات، الجبن والخوف، ثقل قضاء الدين، وقهر الرجال وتسلطهم. صدق رسول الله، اللهم إني أعوذ من ذلك كله.
• دعاء الكرب: ((لا إله إلا الله الحليم الكريم لا إله إلا الله العلي العظيم لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم))، ((اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي، فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤالي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي، اللهم إني أسألك إيمانًا يباشر قلبي، ويقينًا صادقا، حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبته علي، ورضِّني بما قسمته لي يا ذا الجلال والإكرام)).
• دعاء الحزن: ((اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي)).
9- الاستغفار: فقد روي عنه أفضل الصلاة والسلام: ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب))، وذكر عنه أنه كان يستغفر في اليوم الواحد أكثر من سبعين مرة.
10- الثقة بالله: تأمل في كلمات رسول الله صلى الله عليه عندما طمأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهما في الغار هاربين من مكة، قال: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين ثالثهما الله))؛ قال تعالى: ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40]، ما أروعك يا رسول الله، وما أكرمك وأعزك عند الله عز وجل.
11- التوكل على الله سبحانه وتعالى: وأن من يتوكل عليه فهو حسبه؛ أي: يكفيه هم ما أهم أمره، ومع التوكل يأتي الثقة أن الله يعلم ما هو الخير لك، فيكون الرضا والقناعة بما كتب الله عليه، وهنا يمكن لنا أن نستحضر قضية صلح الحديبية، وكيف أن الظاهر فيها هو انهزام وتراجع للمسلمين، ولكن الله وهو العالم بكل شئ جعلها بداية لنصرة المسلمين وتقوي شوكتهم وتجمعهم على الحق.
12- التأمل في أجر الصابر على الألم والمرض والحزن: قال صلى الله عليه وسلم: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) رواه البخاري، فإذا كان أجر الشخص الذي يصاب بشوكة تكفيرًا له، فما بالك بالأم والأب وهما يران فلذتا ولدهما وهو أو هي تصارع الاكتئاب بكل مشاكله وهمومه.
13- الرُقية الشرعية: كان الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام يرقي الحسن والحسين، فيقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)) إلى غيره من حرصة على الأذكار اليومية وقراءة أم الكتاب والمعوذات كطريقة للشفاء وعلاج الآلام والأمراض.
14- القضاء على الفراغ: لقد كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم في شغل دائم، حتى إنه قال: ((من استوى يوماه فهو مغبون))، ففكر كم يدعونا هذا الحديث إلى أن يكون عملنا في اليوم أحسن وأكبر من اليوم الذي سبقه.
15- مساعدة الناس والمحتاجين: كان دأب رسول الله صلى عليه وسلم أن يكون مع المساكين، وأن يقدم العون للفقير، سبحان الله هناك قوة عجيبة، بل سحرية في تأثير مساعدة الآخرين على النفس ورُب دعوة فقير دفعت هموم وغموم ورزقتك خيرات وأبعدت عنك مصائب لا يعلم بها الا الله.
16- الصحبة الصالحة؛ سواء من حيث الأصحاب؛ كأبي بكر وعمر، وعلي وعثمان، وغيرهم رضوان الله عليهم، أو الصحبة الصالحة من ناحية الزوجات اللواتي شجعنه ووقفن بجانبه بدأ من خديجة رضي الله عنها وإلى غيرها من أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن جميعًا.
17- التركيز على اليوم واللحظة: هذه النقطة أساسية في قضية التعامل مع الاكتئاب؛ حيث نرى من المصابين، تدور هموهم حول المستقبل الآني أو القادم؛ قال صلى عليه وسلم: ((من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا)) فجمع هنا الأمان، والعافية، وعدم الجوع كأحد أسباب اجتماع الدنيا للمرء، وهنا أقول لمن يقول: إن أمر العافية التامة مفقود فيمن عنده الاكتئاب المزمن، وإن كان هذا الأمر صحيحًا، إلا أنه لا بد للمسلم أن يفكر أن الله ابتلى وخفَّف، وأن المرض رغم سوئه، إلا أن هناك الكثير من الأمراض المزمنة الأشد وطئًا على الإنسان.
18- الابتسامة: فقد وصف الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام بأنه بشوش الوجه كثير الابتسام، وورد عنه في الحديث المشهور: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة))، وأمرنا بالسلام على من نعرف ومن لا نعرف، فإذا تأملنا هذين الأمرين (التبسم والسلام)، وجدناهما عاملين مهمين في نشر المودة والرحمة ما بين الناس، وعاملاً أكبر في طرد الإحساس بالوحدة والانعزال: (أحد أسباب وأعراض الاكتئاب)!
19- الثبات عند الأزمات: وما أكثرها من أزمات مر بها حبيبنا عليه أفضل الصلاة والسلام، من الدعوة وهمومها وثقل أمانتها على أكتافه، إلى تكذيب قومه له وتعذيبهم لأصحابه، إلى هجرته من مكة الحبيبة، إلى محاولات قتله والقضاء على دعوته، إلى فقده لكل أولاده البنين... إلخ، ومع ذلك نراه واقفًا صلبًا مؤمنًا بما قسمه الله، فما أعظمك وأروعك من قدوة لنا!
20- الأكل من غير إسراف واللياقة البدنية: فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم توجيهاته إلى أمته بالحرص على الأكل باعتدال وعدم الإسراف؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنفَسه))، أما من ناحية العناية باللياقة البدنية، فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بأن نعلم أولادنا الرماية والسباحة وركوب الخيل، وهذه المهارات الرياضية من الأمور التي تساعد الجسم على الحفاظ على اللياقة والصحة البدنية والنفسية.
21- الموازنة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: دعونا نتأمل في خبر الثلاثة في عهد الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام؛ حيث قال أحدهم: "إني لا أتزوج النساء"، وقال الثاني: "إني أصوم ولا أفطر"، وقال الثالث: "إني أقوم ولا أنام"، فجاء رد الرسول عليه الصلاة والسلام: ((ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، وإني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني))؛ رواه البخاري، فحياته عليه أفضل الصلاة والسلام قائمة على مبدأ الموازنة ما بين وقت للنفس ووقت لله، ووقت للناس..، فلا يطغى جانب على آخر.
وختامًا:
لقد تطرقنا في هذه المقالة حول الاكتئاب، تعريفه، أسبابه، تشخيصه، أعراضه، وطرق تعامل الأهل والمدرسة مع الطفل أو المراهق المصاب، وختمنا بعرض لمثال لأحسن شخص عرفته الأمة توفرت له كل أسباب الاكتئاب، لكنه نجا منه بسبب حفظ الله تعالى له ولتطبيقه لعديد من الإرشادات والمهارات التي حفظت شخصه ونفسه من الهموم والأحزان والكروب.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفينا ويشفي كل مريض، وأن يبعد عنا الهم والحزن.
المصادر:
1. Help Guide: Teen Depression: A Guide for Parents
http://www.helpguide.org/mental/depression_teen.htm
2. Responding to a Student’s Depression
http://www.ascd.org/publications/educational-leadership/oct10/vol68/num02/Responding-to-a-Student's-Depression.aspx
3. Instant Help for Children and Teens with Depression
http://www.childswork.com/
4. Resources for Teachers: Teaching Students with Mental Disorders
https://www.bced.gov.bc.ca/specialed/docs/depression_resource.pdf
5. The Balanced Mind
http://www.thebalancedmind.org/learn/library/facts-about-teenage- depression
رابط الموضوع: http://67.205.92.7/Social/0/67344/#ixzz2vxqlKZlS