قلوبٌ تفيض- أبي
بقلم : أم الرجال - سهير عبد الحفيظ عمر
يأبى قلمي إلا أن تكون باكورةَ ثمر امتنانه وتقديره لقلوبٍ زاهرة ؛ من أرضها استمد وجوده ، بفيض محبتها نما ، وبعطائها استمر ؛ وتأتي كلماته الأولى عنها ..ومع القلم تبدأ الحكاية ...
البداية بزواج ( عبد الحفيظ ) الابن الأصغر للشيخ ( عبد الجواد أبو عمر ) إمام مسجد قرية ششتا بمحافظة الغربية بوسط دلتا نيل مصر من ابنة صديقه الشيخ( محمد عبد العال) ، وبارك الله الأسرة الصغيرة بتقوى أصولها الطيبة ، ثم بجهد راعيها وصبر رفيقته ، والآن .. و بعد أكثر من أربعين عاما تمتد مظلة ( الحاج عبد الحفيظ ) لتشمل من الأبناء ثلاث بنات وأزواجهن وابن واحد وزوجته ، و من الأحفاد عشر ، ومابين البداية والآن تتوارد الذكريات .
ويحتار القلم ُ..فمن أين يبدأ ؟ وعن ماذا يكتب ؟
أيكتب عن أب ٍلم يعقه ضعفٌ سمعيٌ عن عطاء يمتد ليشمل كلّ فردٍ تحت مظلته ؟
أم يكتب عن جميل رعاية أ ُمِ جعلت من عيونها مرآة كل حلم لأبنائها ، ومن وجودها الظل كلما اشتد الهجير ؟
هل يكتب عن تجديفِ أبٍ صارع كلّ موجٍ ليصل بسفينة الأبناء إلى شاطيء يحتضن وجودهم ؟؟
أم عن صبر ومساندة أم كانت مثالا للعربية المسلمة ؟
أيكتب عما أرسياه من أسس إيمانٍ كانت سبلا إلى الثبات وقت َ الشدة ؟
أم عما غرساه من قيمةٍ للعلم والخلق لا تزال ثمارها يانعة ؟
ويأتيه الجواب : لن يكتب عن عطاء ِأمومةٍ وأبوةٍ قد يراها القاريء طبيعية وفق ما أودعه الخالقُ الرحيمُ في كل بني البشر ..
ولكن حين ينهمك الجدُّ في مشكلات أحفاده- وبخاصة ذوي الاحتياجات السمعية الخاصة - لدرجةٍ تدفعه للتقاعد المبكر حرصاً على مرافقة حفيده - ذي الضعف السمعي العميق - في رحلات تعلم اللغة والكلام في مدينة نائية ..وحين يقضي ما قبل النوم كلَّ ليلةٍ متواصلا مع حفيده بعد - أن يخلع كل منهما سماعته - بالشفاه أو الكتابة ، ويسبحان معا في عالم يهدهد الصغير قبل نومه ، يجد القلم في بعض هذا الفيض حدثا يستحق التسجيل ، وبخاصة في حياة أسرة تضم فردين من ذوي الاحتياجات السمعية الخاصة ، هي أسرة ابنة الحاج عبد الحفيظ الكبرى ..
إنه أبي ...وهذه أمي ..وتلك أسرتي التي شملتني ورجالي بمحبتها ورعايتها وعطائها والتي أدركت حاجة أسرتي الصغيرة الخاصة لكل نقطة من أنهار دعمها ففاضت تمنح رواء وتهب عطاء .
لازلت أعي كيف كان أبي يسخر بدعابةٍ من محنةِ ضعف السمع ، ويراها منحةً تبتعدُ به وأحبته عن صخب الحياة ولغوها ، و لازلت أحيا مع صغاري نجاح أبي في خلق ذكرياتٍ سعيدة في حياة ولدي الأكبر - ذي الضعف السمعي العميق - تظل الأكثر تأثيرا في حياته بعد مرور سنواتٍ طويلة ، وربما لعمره كله ..
تنجح قدرةُ أبي الخاصة على خلق ابتسامة من أشد المواقف إيلاما في عبور لحظة الألم برضا ؛ ناداني ذات ليلة وهو يضحك رغم انهمار دموعه ( تعالي شوفي ابنك عاوز ينام بالنظارة ليه؟ ) وببراءة أجابني طفلي الثاني_ ذو الضعف السمعي الحاد الذي يرتدى نظارة طبية أيضا ويخلعهما معا قبل نومه -: ( عاوز أشوف جدو ونتكلم قبل مانام ) ، ويحتضن أبي صغيري ضاحكا ، ويظل يحرص على اقترابه من سرير الصغير قبل نومه ؛ ليتمكنا من تواصل لعله بالأرواح والقلوب قبل الشفاة والأقلام .
لقد شكَّل وجودُ الأسرةِ الممتدة ِداخل حدود لوحةِ أسرةٍ ذات احتياج ٍخاص أجملَ خطوطِ العطاء ، وأنقى ألوانِ البذل ، فمنحها روعةً تستحق التأمل ، و أصالةً جديرة بالتقليد .
ويظل بعض واجب القلم الدعاء لأصولنا الطيبة بدوام فيض العطاء بصحة وسلام ، وأن يثيبهم الله خير الجزاء .