إساءة معاملة الأطفال ذوي الإعاقة خطوات للوراء
السلط نيوز - كتب الدكتور جمال محمد الخطيب و الدكتورة منى صبحي الحديدي الجامعة الأردنية-
نبدأ مقالتنا هذه بإدانة تلك السلوكيات المثيرة للاشمئزاز التي شاهدناها في التقارير الإعلامية التي أعدّتها الصحفية حنان خندقجي وتلفزيون ال bbc العربي حول إساءة معاملة بعض أطفالنا ذوي الإعاقة ونطالب بإيقاع العقاب المناسب بحق كل من ارتكبها. فالاعتداء على الأطفال ذوي الإعاقة اعتداء على مسيرة التربية الخاصة الأردنية الطويلة الحافلة بالإنجازات، ومساس بهيبتها، وإساءة لسمعتها.
وننوّه إلى أن عدة تقارير دولية أشارت إلى أن إساءة المعاملة قد تكون سبب حوالي 25% من الإعاقات لدى الأطفال. ألا يكفي هؤلاء الأطفال ما يلاقونه من معوقات وما يواجهونه من صعوبات نتيجة ضعف لم يختاروه بإرادتهم لنزيد من شدة إعاقتهم بدلاً من أن نخففها! ألا يدعونا ديننا الحنيف إلى التعامل برحمة مع ضعفائنا والعطف على صغارنا؟
إن الممارسات المذمومة التي شاهدناها في بعض مراكز التربية الخاصة في الأردن، كما قال جلالة الملك، مرفوضة بالمطلق ولا يمكن قبولها أو تبريرها. فلا الصعوبات التي ينطوي عليها تعليم بعض الأطفال ذوي الإعاقة تبررها، ولا ظروف العمل القاسية، ولا تدنّي الرواتب، ولا الإدارات الظالمة، ولا أي عامل آخر. وقد خفّف من إحساسنا بالإحباط أن استجابة جلالة الملك جاءت فورية حيث وجّه جلالته رسالة سامية للحكومة الأردنية يوم الاثنين الموافق 14 أيار عبّر فيها عن استيائه الشديد من تعرّض هذه الفئة العزيزة لإساءات وانتهاكات. وأكّد جلالته أن كرامة الإنسان خط أحمر وفوق كل اعتبار. ووجه جلالته الحكومة لتشكيل لجنة تحقيق ولتقييم عمل المراكز الخاصة والعامة، وأكد على ضرورة اتخاذ إجراءات فورية وحاسمة لتحويل كل من يثبت تورطه بارتكاب تجاوزات وانتهاكات إلى القضاء.
التربية الخاصة ليست عملاً لمن لا عمل له، بل هي مهنة ذات رسالة إنسانية نبيلة ولها مدونة سلوك مهني وأخلاقي من أكثر المدونات رقياً. فكوادر التربية الخاصة تلتزم بتطوير قدرات الأشخاص ذوي الإعاقة إلى الحد الأقصى الممكن، وتسهم في الأنشطة التي تعود بالفائدة عليهم وعلى أسرهم، وتحرص على الدفاع عنهم وعلى تحسين القوانين التي تنظم عملية تقديم الخدمات لهم، ولا تشارك في ممارسات غير أخلاقية أو غير قانونية. هذه هي التربية الخاصة التي تعلّمها ويؤمن بها ويمارسها السواد الأعظم من معلمينا.
نعم إننا نرى في ما حدث فرصة لإعادة التفكير وتجويد نظام التربية الخاصة في الأردن لا ليبقى كما عهدناه وإنما ليتحسن ويكون دوماً في المقدمة وليبقى فيه الكوادر المتميزة فقط. فالأردن استحق بجدارة لقب رائد التربية الخاصة العربية، وبذل جهوداً حثيثة في العقود الثلاثة الماضية للإرتقاء بالخدمات والبرامج الخاصة للأشخاص ذوي الإعاقة، وُمنح جائزة روزفلت عام 2005 لتميزه في الدفاع عن حقوق هؤلاء الأشخاص على مستوى الشرق الأوسط، وكان من أولى الدول العربية التي بادرت إلى إنشاء برامج دراسات عليا في التربية الخاصة، وأصدرت قانوناً لرعاية المعوقين، وصادقت على الاتفاقية الدولية لحماية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.
ولكن لنتذكر أن من أساء للأطفال هي تلك الفئة المسيئة وليس نظام التربية الخاصة الأردني الذي نعتز به والذي كان ولا يزال له فضل كبير على التربية الخاصة في الدول العربية الشقيقة كافة. وذلك قولهم أكثر مما هو قولنا. ونذكر بأن الإساءة لنظام التربية الخاصة الأردني ليست أقل سوءاً من الإساءة للأطفال الذين يخدمهم. فالمشكلة في أولئك الذين ركبوا موجة التربية الخاصة وليست في التربية الخاصة نفسها. ولا يجوز الحكم على النظام كله رداً على تصرف بعض الخارجين عن مبادئه لأن في ذلك ظلماً وإجحافاً بحقوق الأكثرية الغالبة. ولا ينبغي أن يدفع ما شاهدناه من صور مفجعة البعض إلى التعميم الخاطئ عن نظام التربية الخاصة في الأردن. وكما قال المتنبي: "فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ...... فأفعـاله اللائي سررن أُلـوف".
فتوفير بيئة إنسانية آمنة، وإيجابية، ومتقبلة، وصحية هو حجر الأساس في تعليم هؤلاء الأطفال. وليس لمن أساءوا أن يدّعوا أن تصرفاتهم غير الإنسانية هي أساليب لتعديل السلوك فعلم تعديل السوك والتربية الخاصة منهم براء. ونذكّر الجميع أن التربية الخاصة لم تكن يوماً عملاً سهلاً ولا يتقنها إلا من كان متخصصاً وذا خبرة. وندعو كل من لا يقبل أو يفهم هؤلاء الأطفال أو يعجز عن تعليمهم بشكل فعال أن يبحث له عن مكان آخر يسقط فيه إخفاقاته وإحباطاته. وفي الوقت ذاته، ندعو خفافيش الظلام أن لا يترزقوا على مآسي الأطفال ذوي الإعاقة وأسرهم في أية دولة من دول العالم.
ألا يعرف "المسؤولون والمتخصصون" أن الأطفال ذوي الإعاقة في العالم كله عرضة لإساءة المعاملة؟ لماذا لم يتوقعوا حدوثها فيخططوا للوقاية منها، ويطورا آليات عملية لرصدها والتبليغ عنها، ويتخذوا إجراءات قانونية رادعة بحق من يثبت ارتكابه لها؟ ليس مقبولاً أن يقولوا:من يصدّق أن من توكل إليهم مسؤولية رعايتهم هم الذين ينتهكون حقوقهم ويتسببون في تفاقم مشكلاتهم وتدهور صحتهم النفسية؟ ألا يعرفون أن أحد مسوغات الاتفاقية الدولية لتعزيز وحماية الأشخاص ذوي الإعاقة تمثل في الاعتراف بأن هؤلاء الأشخاص غالبا ما يواجهون خطراً أكبر في التعرض للعنف أو الإصابة أو الاعتداء أو الإهمال أو المعاملة غير اللائقة وسوء المعاملة أو الاستغلال. ألم يطّلعوا على عشرات التقارير التي أشارت إلى أن الأطفال ذوي الإعاقة في العالم يتعرضون لأنواع شتى من العنف والإساءة لأن ضعفهم يجعل البعض يرى فيهم هدفاً سهلاً. ألم يطّلعوا على التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة التي قدّمت أرقاماً مفزعة عن تعرض هؤلاء الأطفال لإساءة المعاملة في كل دول العالم. ألا يعرفون أن إساءة معاملة هؤلاء الأطفال قد تحدث في كل من البيت، والشارع، والمركز أو دار الرعاية. ألا يدركون أن النقص في أعداد الكوادر وضعف تأهيلها، وتدني رواتبها، وتعدد مسؤولياتها، واكتظاظ دور الرعاية، وقلة الإشراف، وغياب إجراءات المساءلة، وعدم فهم خصائص الأطفال ذوي الإعاقة، وعوامل عديدة أخرى قد تكمن وراء مثل هذه الممارسات غير الأخلاقية وغير الحضارية؟
ما حدث يفرض علينا أن نطرح العديد من الأسئلة عن التربية الخاصة. فمن الذين يعلّمون أطفالنا ذوي الإعاقة؟ وماذا يعلّمونهم؟ وهل هذا التعليم ذو معنى وفائدة حقاً؟ ولا نريد أن يقتصر الاهتمام على إساءة المعاملة أو على المراكز التابعة لوزارة التنمية الاجتماعية فقط. وبالرغم من قناعتنا بأن ما تداولته التقارير الإعلامية لا يمثّل التربية الخاصة الأردنية، علينا التحلي بالجرأة وإعادة التفكير بأمور كثيرة. فلنمنع من لا يريد أو لا يستطيع أن يعلّم هؤلاء الأطفال شيئاً من دخول ميدان التربية الخاصة. ولنبذل مزيداً من الجهود لتطوير الاتجاهات نحو الأشخاص ذوي الإعاقة في مجتمعنا. ولنعترف بأن تغيير اسم القانون من "قانون رعاية المعوقين" إلى "قانون حقوق الأشخاص المعوقين" لم يحلّ كل مشكلاتنا.
لنعد تنظيم هيكلة التربية الخاصة في الأردن. فتعدد الجهات المسؤولة وغموض أدوارها وتداخله نجم عنه خلل يجب إصلاحه حيث أصبحت كل جهة ترمي الكرة في ملعب الأخرى. ويجب أن نعالج المشكلات الناجمة عن تعدد المرجعيات وأساليبها في الترخيص والإشراف وعدم فهم مضامين قانون حقوق الأشخاص المعوقين رقم 31 لسنة 2007 بسبب عدم تفسير مواده ووضع أسس وأليات عمل واضحة تضمن حسن التطبيق وتعريض المخالفين له للمساءلة.
ولنبدأ بإجراءات فورية لتنظيم مزاولة مهنة التربية الخاصة في الأردن وإصدار تراخيص مهنية وتجديد هذه التراخيص دورياَ وفق آليات مساءلة متطورة ليتم التخلص من الوهن الذي أصاب جسم التربية الخاصة. فالشهادة الجامعية بذاتها ليست ضمانة لممارسة جيدة في الميدان، وقد تكون اتجاهات المعلم وتوقعاته من الأشخاص ذوي الإعاقة أكثر أهمية من الشهادة التي يحملها. علينا إعادة النظر في برامج التربية الخاصة في جامعاتنا ليصبح الخريجون أكثر قدرة على التصدي للتحديات الميدانية. وعلينا أن نعيد النظر في خططنا الدراسية في الجامعات. فلا نظن أن أية جامعة من جامعاتنا تدرّس مادة عن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة أو عن أخلاقيات مهنة التربية الخاصة. ولعلنا أيضاَ نحتاج إلى تدريس مادة عن ضغوط العمل في التربية الخاصة وسبل التعامل معها، وأخرى عن الاتجاهات نحو الأشخاص ذوي الإعاقة. ونرجو أن يذكّرنا ما حدث بأهمية تكثيف الجهود الموجهة نحو أسر الأطفال ذوي الإعاقة وبإقامة علاقات تشاركية معها وكحد أدنى أن نعرّفها بحقوق أبنائها بكافة الوسائل الممكنة وأن نوضح لها دورها وندعمها في حماية هذه الحقوق.
ولنعط اهتماماً أكبر ببرامج التنمية المهنية المستمرة للمعلمين في الميدان، وبمعنوياتهم وبتحسين ظروف عملهم. ولنعترف أن العمل مع الأشخاص ذوي الإعاقة عمل إنساني نبيل ينطوي على قدر كبير من المكافآت المعنوية، إلا أنه أيضاَ عمل قد يقود إلى الاستنفاد النفسي والجسدي. فقد أشار تقرير حديث نسبياً إلى أن متوسط العمر الوظيفي لمعلمي التربية الخاصة في أمريكا وكندا يبلغ خمس سنوات. علينا أن نعي هذه الحقائق فنتخذ الإجراءات الوقائية والعلاجية المناسبة.
ولنعد النظر في آلية ترخيص مراكز التربية الخاصة، ومتابعتها، والإشراف عليها. فلا ينبغي أن يسمح لمن ليس لديه مؤهل علمي متقدم في التربية وخبرة واسعة في العمل مع الأشخاص ذوي الإعاقة أن يدير مؤسسة للتربية الخاصة حتى لو كان هو مموّلها. ولا ينبغي أن يسمح بالتحايل على القانون بتعيين مديرين على الورق فقط. ولا بد من رقابة حقيقية على برامج التربية الخاصة وفق أسس متطورة بدلاَ من الاكتفاء بتقارير مكتوبة تعدّها المراكز والمؤسسات. كما أن الحاجة ماسة لإعادة النظر في التعيينات في هذه المراكز. وندعو أيضاً إلى إعادة النظر في دور وزارة التنمية الإجتماعية وعلاقتها بالتربية الخاصة. فإبقاء مسؤولية تعليم الأطفال ذوي الإعاقة العقلية بعيداً عن السلطة التربوية الوطنية ليس قراراً صائباً. فالغالبية العظمى من الأطفال ذوي الإعاقات العقلية لديهم إعاقات بسيطة ويستطيعون تلقي كل أو معظم تعليمهم الذي هو حق لهم يكفله القانون الأردني في مدارس نظامية.
وليصبح حجم الدعم المالي الحكومي للمراكز متوقفاً على نوعية الخدمات المقدمة للأشخاص ذوي الإعاقة وعلى تقييم موضوعي للتقدم الذي يحرزونه من قبل لجان علمية متخصصة لا بناء على تقارير قد تكون مفبركة تعدّها هذه المراكز. ونذكّر بأن المباني مهمة لكن ما هو أكثر أهمية منها البرامج، والمناهج، وأساليب التدريس، والوسائل والمعدات. ونحن بحاجة إلى معلمين متخصصين في كل فئة من فئات الإعاقة، وإلى معلمين مستشارين ومتنقلين ذوي حبرة يعملون في الميدان وليس في مكاتبهم. وقد يقول قائل أن الدمج هو الحل، وذلك قول سهل لكن طريق الدمج لم يكن يوماَ مكللاً بالورود. فلنعرف أن الدمج يفرض تحديات جمة وليكن دمجنا دمجاً مخططاً له ومنفذاَ وفق معايير الجودة والممارسات المناسبة.
عذراَ يا جلالة الملك فقد أغضبوك. وعذراً لأولئك الأطفال الأعزاء الذين رأيناهم يصرخون مذعورين مستغيثين ولم يكن أحد إلى جانبهم يحميهم. وعذراً لأسرهم الكريمة ولمعلمي التربية الخاصة المحترمين، وما أكثرهم في بلدنا العزيز، الذين نجزم أن تلك المشاهد خذلتهم كما خذلتنا.
وأخيراً، ولغايات تطوير الوعي بخطورة المشكلة وأهمية الوقاية منها وعلاجها وليس تبريراً للسلوكيات المشينة، ندعو الصحفية حنان خندقجي وفريق تلفزيون ال bbc العربي إلى التحقيق بنفس الأسلوب في إساءة معاملة الأطفال ذوي الإعاقة في أي من الدول النامية أو الدول المتقدمة. وندعوهم للاطلاع على تقرير سكرتير عام الأمم المتحدة عام 2005 المعنون "العنف ضد الأطفال المعوقين" وغيره من عشرات التقارير المنشورة على شبكة الانترنت. وسنكون بانتظار تقاريرهم وتحليلاتهم.