الاعلام وتنمية العنف والسلوك العدواني
المـــقدمـــــة..
يشكل الإعلام في عصرنا الحاضر القوة الأكثر تأثيراً في حياتنا بسبب التطور والتقدم التكنولوجي، ولكن هذه التكنولوجيا ورغم قوتها وفعلها المؤثر وقدرتها على تسهيل حياة الإنسان وشؤونه، فإنها جلبت معها الآفات والكوارث والمآسي النفسية والاجتماعية والتربوية والتغير القيمي، فالظواهر التي كانت تتميز بها الشعوب، وتمثل خاصية تتصف بها دون غيرها مع الصعوبة في الانتقال والاتصال، باتت سهلة الانتقال بفعل التحديث السريع الذي حول العالم إلى قرية صغيرة.
إن تأثير شبكات الاتصال ومكونات التكنولوجيا الحديثة، أبرز قوة الإعلام كأحد نتاجات هذه التكنولوجيا مما زاد من أهميته، كما تعددت وسائله في الاتصال والتأثير إلى درجة أصبحت معها سهلة المنال لكل من يطلبها، فنقلت لنا تجارب الشعوب القديمة والحديثة (الحية).
لقد اشتملت تلك التجارب على كل دقائق حياة المجتمعات، وتفاصيل شؤونها السلبية والإيجابية، ومنها القتل والعنف والكراهية والسلوك العدواني، بغض النظر عن اختلاف الثقافة والأصول الحضارية وأساليب التنشئة، فبات التغير قاب قوسين أو أدنى من أن يعصف بالمجتمعات رغماً عنها، وهذا ما أطلق عليه بالعولمة الثقافية، ثم تتبعها العولمة السياسية والاقتصادية، وفي الأخير ربما تصل إلى العولمة الاجتماعية التي تشمل العولمة القيمية التي تمتد لتغير قيم الشعوب بمرور الزمن.
● التلفزيون وتغيرات السلوك الاجتماعي:
يرى الإمام الشيرازي أن الدعاية السيئة تلبس الحق بالباطل، وتزيف الحقائق وتستفيد من جهل الناس، فتحملهم الأباطيل في صورة حقائق (2 :162) وتؤدي إلى تغيرات فعالة في السلوك الاجتماعي، لا سيما أنها تخترق حياة الناس في أدق تفاصيلها وتؤثر فيهم، حتى ليكاد التلفزيون الذي يعد الأداة الأكثر فاعلية في الإعلام المرئي عموماً، أن يحدث المشاجرات والانفعالات والشد العصبي بين أفراد الأسرة الواحدة، لما ينقله من أنباء وخطاب وتفاصيل مثيرة عن العالم، بعد فبركتها بقصد الإثارة، فباتت الدعاية السيئة محور التزييف والتشويه للحقائق، وبات سلوك العنف المنقول عبر الشاشة الصغيرة، هو السلوك البطولي الأكثر سيطرة على المتلقي، ونقل السمات المكتسبة للأطفال بوساطة هذا الجهاز، في الوقت الذي يكون الأب منشغلاً عن أبنائه في معظم اليوم خارج الأسرة؛ وقلة حضوره وتواجده، أدى إلى أن يصبح (التلفزيون) الأب البديل للطفل بما يقدمه من مادة إعلامية مغلفة بالحلوى والشكولاته، بانتظار أن يلطعها الأطفال لا شعورياً مع إنشداد نفسي غير اعتيادي، فكانت اللغة السائدة للتفاهم هي لغة حوار العنف بواسطة أفلام (الكارتون) أو عبر المسلسلات الاجتماعية الداعية إلى أن يكون البطل أكثر قساوة في القتل وتصفية أعدائه، أو إظهار التهريب والمتاجرة بالمخدرات والممنوعات بمظهر السلوك الاجتماعي الطبيعي، فالتلفزيون ينطوي على نوع فطري من التحيز كامن في داخله إزاء تصوير أي صراع فيما يتعلق بالوحشية التي يمكن إبصارها (3 :371) لذا نجد مآسي الإنسان في هذا العصر أكثر من مآسيه في أي عصر مضى (2 :161) خاصة مع قدرته العالية والفعالة (أي التلفزيون) في تحريك آليات الحياة وديناميتها وتفاعلها مع الموجودات الحية ومكونات الحياة عموماً، وإن هذه القوة (التلفزيون) يتأثر بها الإنسان ويتفاعل معها وتكاد توجهه وتغير اتجاهاته وميوله نحو موضوع حيوي في حياته، و إزاء موقف أو قضية ما فعالة بشكل لا يطاق، و هذه القوة باتت تتعدى نطاق السيطرة عليها أو على قوة تأثيرها ووجودها الذي يتسرب بشكل لا انفكاك منه للأسرة... فكأن التلفزيون هو الضيف الذي يدخل دون استئذان على الأسر والبيوت في أي وقت، وفي أي مكان، ومن ثم يتم تعلم كل التصرفات والسلوك العدواني من خلال المشاهدة المنظمة لمنفذي أعمال العنف تماماً مثلما يتعلم الأطفال المهارات الاجتماعية والمعرفية من خلال مراقبة آبائهم، وإخوانهم أو رفاقهم وغيرهم وأكثر من ذلك فقد أصبح واضحاً أن المدى الذي يحرض الطفل على محاكاة فاعل العنف يتأثر تأثيراً كبيراً بالتعزيز الذي يتلقاه الطفل من الفاعل، فإذا كوفئ الفاعل على سلوكه العدواني أمام مرأى الطفل وحصلت الإثابة (الثواب) فإن من المحتمل أن يقلد الطفل هذا السلوك، لذا فإن الأطفال الذين يشاهدون سلوكيات عدوانية بحجم كبير في التلفزيون، بمقدورهم خزن هذه السلوكيات ومن ثم استعادتها وتنفيذها وذلك حالما تظهر المؤثرات الملائمة لإظهار هذه الاستجابة السلوكية العدوانية، وإن تذكر السلوك العدواني الذي يقدم حلاً لمشكلة يواجهها الطفل قد يؤدي إلى إطلاق هذا (المكبوت) من السلوك العدواني، ويصبح المفهوم العدواني مقترناً مع النجاح في حل مشكلة اجتماعية (4 :48) ويظل التلفزيون الوسيلة الفعالة في قوة التأثير إعلامياً... حتى قيل إن معظم المشاكل التي تواجه الآباء مع التلفزيون لا تتصل مباشرة بالتلفزيون ذاته، بل بالسيطرة عليه (1 :226).
● إعلام الحرب ونتائج العنف:
تعد الحرب بكل أشكالها قهراً لإنسانية الإنسان، مهما كانت نتائجها بالنسبة للطرفين المتحاربين، وهذه النتيجة مسلمة يؤمن بها الرجال منذ فجر التاريخ، إلا أن مصالحهم الشخصية الضيقة وطموحاتهم المرضية تتغلب على الجوانب الإنسانية بكل تفاصيل الحياة، من حيث المجد والشهرة وإشباع النزعات المرضية الخفية التي تحرك رجالات الحرب.
فآلة الحرب بكل ما تحمله من أجهزة ومعدات مصاحبة لها، إنما هي في جوهرها تبادل منظم للعنف، والدعاية في جوهرها عملية إقناع منظمة، وهي إحدى أجهزة الحرب وآلياتها، فبينما تهاجم الأولى الجسد، فإن الثانية تنقض على العقل، الأولى حسية والثانية نفسية، وفي زمن الحرب تهاجم الدعاية والأعمال الحربية النفسية جزءاً من الجسد، لا تستطيع الأسلحة الأخرى أن تصل إليه، في محاولة للتأثير في طريقة أداء الأطراف المشاركة في ميدان القتال، حتى أن الدعاية للحرب قديمة قدم الحرب ذاتها، وإن الذخائر التي ينتجها العقل والتي توجه إلى العقل، هي أسلحة أثبتت أنها لا تقل أهمية عن أي من الأسلحة التي ابتكرها الإنسان حتى الآن بهدف محو وجود اخوته في الإنسانية، وقال (البيركامي): (على اتساع خمس قارات خلال السنوات المقبلة سوف ينشب صراع لا نهاية له بين العنف وبين الإقناع الودي... ومن هنا سيكون السبيل المشرف الوحيد هو رهن كل شيء في مغامرة حاسمة مؤداها أن الكلمات أقوى من الطلقات)(3 :30) وتحققت في إعلام الحرب السيادة على الأعداء، ولكن بقيت آلة الحرب بكل إمكاناتها تعمل خفية، ولكنها توجهت للدماغ، فكان من نتائجها الحرب على الدماغ، وتسييره نحو حرب جديدة، وهي سياسة الدول المنتصرة في الحرب، وتسخير كل الشعوب لها، ولو بوسائل تختلف كلياً عما كان يمارس زمن الحرب، ولكن تبقى أداة الحرب المتمثلة في العنف الفردي والسلوك العدواني هي النتيجة المحققة في زمن السلم، بحيث أصبحت الكلمات أقوى من الطلقات لا سيما أن أدوات الدعاية والإعلام أخذت مفعولها في التأثير بشكل لا يرد، ولا يمكن إيقافه كحرب مستمرة، وهي امتداد طبيعي للحرب.
إن العنف المتعلم واقعياً من الحرب، والمنقول من جبهات القتال لسنوات أو أشهر، ، يشكل بحد ذاته سلوكاً يطغى على تصرفات الشخص المشارك في الحرب أو العنف، بالإضافة إلى الإعلام والدعاية المصاحبة لهما و إظهار صورة النصر البراقة كإيقاع حتمي في النتيجة، مما يضفي على سلوك أفراد المجتمع هذه المسحة الملفوفة بالعنف، رغم أن التلفزيون والسينما والصحافة التي ما زالت تذكر الناس بالانتصارات المتحققة في الحرب والمباهاة الزائدة بحق الشعوب بالزهو فيها وتمنحها دفعات قوية من الانفعالات، كذلك محاولة مزج صورة العنف الدموي وصور القتل كبديهية لا بد من قبولها واقعاً متحققاً، فينشأ لدى معظم الناس الإعداد النفسي مع التهيؤ الملائم لقبول العنف والسلوك العدواني كحقيقة واقعية وسلوك طبيعي، ويمكن تفسير مشاهد العنف والسلوك العدواني من خلال:
1- التعلم الرصدي الذي من خلاله ترتسم السلوكيات العدوانية وتوصف في التلفاز ويتم تعلمها من قبل المشاهد.
2- التفريغ الانفعالي الذي من خلاله يجنح المشاهد إلى الانسياق وراء دوافع السلوكيات العدوانية ويؤدي ذلك إلى تناقص هذا الدافع نتيجة مشاهدة الفاعلين وهم يتصرفون تصرفاً عدوانياً.
3- حدوث تغيرات في الإثارة الفسيولوجية أو العاطفية وفي الاستجابة، والتي تتجسد بمشاهدة العنف، وبعاطفة العدوان.
4- تبدلات الموقف التي يترتب عليها التعرض إلى مشاهد العنف و ظهور عاطفة العدوان، أي تأثيراتها على السلوك.
5- عمليات التبرير الصادرة عن الأولاد العدوانيين الذين يرقبون ويشاهدون أفلام العنف لأنها تزودهم بالغرض لتبرير سلوكهم العدواني على أساس كونه عادياً(4 :46).