** التصدي للعنف العائلي:
تساؤلات كثيرة تتعلق بمنطلقا التصدي لظاهرة العنف عموما والعنف العائلي على وجه الخصوص، فهل العنف سلوك طبيعي في الإنسان؟ أم هو سلوك مكتسب (متعلم) وهل يمكن السيطرة على العنف عموما وعلى العنف العائلي خصوصا في إطار خصوصية كل مجتمع على حدة كالمجتمع العربي مثلا أم أن العنف العائلي يمثل ظاهرة عالمية لا يمكن التعامل معها إلا بشكل شمولي ومن منظور عالمي؟
منذ القدم أشار العلاّمة عبد الرحمن ابن خلدون في مقدمته وبالتحديد في الفص السابع والثلاثين منها بقوله: " اعلم أن الحروب أنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ براها الله وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض … وهذا أمر طبيعي في البشر لا تخلو منه أمة ولا جيل وسبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة ومنافسة وإما عدوان وإما غضب لله ودينه ".
ويؤكد فرويد وجود النزوة العدوانية، كما يؤيد كل من جاك لاكان وميلاني كلاين وبيار مارتي فطرية هذه النزوة وأن العدوان والعنف قد بدأ منذ أن قتل هابيل أخاه قابيل، بينما يرفض فكرة القول بنزوة عدوانية فطرية علماء من أمثال اريك فروم وزعماء المدرسة السلوكية المحدثة والظواهرية (الفينومينولوجية) من أمثال كارل روجرز و ألبرت باندورا.
وفي كل الأحوال فإننا لسنا بصدد مناقشة النظريات المفسرة لظاهرة العنف والعدوان داخل نطاق الأسرة أو جارجها بقدر ما أوردنا هذه المقدمة لتكون هاديا لنا في اقتراح أساليب التصدي لظاهرة العدوان والعنف العائلي.
وينطلق أسلوب التصدي للعنف العائلي من بعدين رئيسيين أحدهما وقائي والآخر علاجي.
أولا: البعد الوقائي:
1. يرتبط البعد الوقائي بعمليات التنشئة الاجتماعية والتطبيع الاجتماعي حيث ينبغي أن تهتم الأسرة وغيرها من المؤسسات الاجتماعية بتنشئة الفرد وتربيته تربية سوية متوازنة.
إن نمو السلوك العدواني وتعلمه يرتبط كما تشير ميلاني كلاين في تحليلها للأطفال بنوعية التواصل بين الطفل والوسط الذي يعيش فيه فإذا ساد هذا التواصل علاقة الحب والفهم والاطمئنان نشأ الطفل ميالا للتسامح والمحبة مبتعداً عن الضغينة.
في عملية التنشئة الاجتماعية والتعليم يمكن كما يقول هارتمن كريس ولوفنغشتين تحييد الطاقة العدوانية، وهنا يدعو هذان العالمان إلى ضرورة تمكين الطفل وتزويده بالمهارات والخبرات التي تزيد من قوة تحمله وضبط غضبه بحيث تقود التربية والتنشئة إلى تنظيم نفسي متوازن تتيح للفرد أن يملك عتبة تحمل مرتفعة أمام مواقف الغضب والإحباط، كما يصبح أكثر قدرة على تأخير التعبير عن هذه المشاعر، وقوي لا يفقد بسهولة توازنه السيكولوجي، كما يرى كل من بيشوت Pichot ودانجون Danjon ولا يلجأ بسهولة إلى العدوان، وهذه الوضعية كما يشير د. فاردت مجذوب في بحثه حول (دينامية المجال العدواني) عند الإنسان تخفف حدة ما يسمى بالمجال العدواني عند الفرد وذلك بمعنى أن حسن التنظيم النفسي يؤدي إلى تخفف حدة ما يسمى بالمجال العدواني عند الفرد وذلك بمعنى أن حسن التنظيم النفسي يؤدي إلى التخفيف من تواتر وتنشيط الحواجز الداخلية أمام الحواجز الخارجية، وهنا كما يؤكد د. مجذوب تصبح العلاقة بين الذات والآخر بعيدة عن تفجير نرجسيته وهو التفجير الذي يكون عادة مصدراً للشعور بالإحباط ومن ثم العدوانية بأنماطها المختلفة، في مقاربة عمليات التنشئة والتربية الأسرية في علاقتها بتداعيات العنف العائلي تبرر أهمية الجو العائلي في دعم وتأكيد مشاعر الهدوء والاطمئنان والرضا عن النفس الذي ينمو نتيجة التواصل السوي بين الطفل وأبويه، إن تنمية مشاعر الطفل في هذا الاتجاه هو أساس التوازن النفسي والتوافق الاجتماعي وتقبل الذات التي هي أساس لتقبل الآخرين ولا يلغي دور الأسرة في هذا المجال دور المؤسسات والوسائط الاجتماعية الأخرى في الحد من الملكيات العدوانية في اتجاهها الوقائي.
2. ويدخل في إطار الوقاية زيادة وعي أفراد الأسرة بخطورة العنف العائلي وتزويدهم بالمعارف و المعلومات التي تؤدي إلى تطوير إطارهم المرجعي و مخزونهم المعرفي بشكل إيجابي بعيدا عن مظاهر العنف والعدوان.
3. كما أن للإعلام بوسائطه المختلفة في إبراز أهمية علاقات المحبة والعطف وفي عدم نشر أشرطة العنف التي تساعد على نمو مشاعر الكره وترغب في ممارسة العنف
4. ترسيخ وتعميق فهم أفراد الأسرة لمبادئ الدين الإسلامي الحنيف التي تؤكد على نبذ العدوان انطلاقا من قوله تعالى في سورة البقرة الآية 263: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم ) .
وقوله في سورة آل عمران الآية 134: ( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ عن الناس والله يحب المحسنين).
وقوله في حسن معاملة الوالدين في سورة الإسراء الآيتين 23و24: ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما (23) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا (24)).
وقوله تعالى في سورة آل عمران الآية 159: " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر…).
وفي القرآن الكريم تحريم للظلم والعدوان وحث على حسن المعاملة وطيب الخلق.
وجاءت السنة النبوية الشريفة شارحة ومبينة ومرشدة للمسلمين وداعية لهم إلى احترام الأبوين وإيثار ذي القربى حقه وضاربة لهم المثل الحسن في العفو عند المقدرة وفي التسامح وطيب المعشر وتحريم الاعتداء على المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم (كل مسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)، وهكذا فإن الأخلاقيات الفاضلة التي جاء بها ديننا الإسلامي الحنيف والمتجسدة في تجنب الظلم والعدوان، وفي طيب العشرة وإيتاء ذي القربى حقه واحترام الوالدين والرحمة والابتعاد عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن كلها مظاهر تجعل المسلم الملتزم بها محصناً عن ارتكاب الأفعال العدوانية في حق الآخرين، وهنا يمكن الاستشهاد بما أوردته د. عائشة بلعربي من أن العنف لا يستند إلى أية شرعية في الإسلام وخاصة في الحياة الزوجية وذلك لأن العلاقة بين المرأة والرجل في الإسلام تقوم على التفاهم والاحترام المتبادل والحب والتعاون.
5. مراجعة القوانين والتشريعات المضادة للعنف والجريمة وتفعيل الاتفاقيات والمواثيق الدولية من أجل وقاية أوسع واشمل من مظاهر العنف العائلي.
6. ورد في تقرير صندوق الأمم المتحدة للسكان تحت عنوان (القضاء على العنف ضد المرأة) ضمن التقرير الشمل، دور جديد للرجال، أن البحوث الانتوغرافية والانثروبولوجية (الإناسية) تشير إلى التوجهات التالية في مجال الوقاية من جرائم العنف العائلي:
أ. زيادة التكاليف الاجتماعية للاعتداء فعندما يحمل المجتمع المعتدين جزاءات اجتماعية قاسية لعدم الدخول في علاقات معهم أو نبذهم فإن لهذه العقوبة المجتمعية أثر وقائي كبير حيث يخشى كل من تسوّل له نفسه ممارسة العنف ضد أفراد عائلته من ردة الفعل الاجتماعية المضادة له.
ب. القضاء على مبدأ التقبل الثقافي لاستخدام العنف لتسوية النزاع والخلاف.
ج. إيجاد مصادر دخل مستقلة للمرأة وتعزيز نفوذها ومكانتها داخل الأسرة.
د. تغيير الأسباب الثقافية المتأصلة لمشكلة العنف العائلي بما في ذلك الطريق التي ينظر بها إلى المرأة.
هـ. تحرير النساء والأطفال من مظاهر الخوف من العنف.
و. تأكيد دور كبار السن والقياديين الاجتماعيين كملاذ لحل المشاكل العائلية بطرق غير اللجوء إلى العنف.
ز. توعية المرأة والرجل بالصحة الإنجابية وبخطورة الزنا والحمل البكر على صحة المرأة وجنينها.
ثانيا: البعد العلاجي:
يقتضي علاج العنف توفر استراتيجيات قابلة للتطبيق ولها طابع الشمولية للقطيعة مع العنف أو كما تقول الأستاذة فاطمة المرنيسي (9: 1993) إحداث قطيعة مع تقليد العنف الممارس ضد الأشخاص بصفة عامة والأطفال والنساء بصفة خاصة، استراتيجية تضمن أمن وسلامة جميع الأفراد أينما وجدوا وكيفما كانوا، وإن أول خطوة في العلاج الجدي لظاهرة العنف العائلي قليلها مرصود وكثيرها مسكوت عنه، وهنا يمكن الإشارة إلى ما جاء في توطنه بحث (النساء والعنف) من أن العمل المحموم على إخفاء ظاهرة العنف أو تبريرها لمختلف التبريرات والذرائع التي تخفي جوهرها أمر لا يؤدي إلا إلى تأصيل أو تعطيل كل إمكانية للعلاج، ومهما كانت أسباب العنف العائلي فإن العلاج ينبغي أن يستهدف بالإلغاء والرفض لفكرة أن صيرورة العنف نمطاً ثقافياً يتناقله الأبناء عن الآباء ويصبح كنوع من القدر المحتوم غير قابل للتغيير أو الإلغاء لأن العنف لا يولد إلا العنف فعندما يمارس الآباء العنف ضد أبنائهم يمارسه هؤلاء ضد غيرهم حتى يصير هذا العنف جزءا من نظام الحياة والتفكير له تواصله عبر الزمان والمكان.
ويرتبط البعد العلاجي بأساليب علمية تنطلق من مبدأ الدراسة والتشخيص لمظاهر العنف العائلي من أجل فهم أسبابه وخصائصه وتداعياته وبالتالي اقتراح الأساليب العلاجية له.
ومن هنا يمكن الإشارة إلى بعض الأبعاد ذات العلاقة بعلاج العنف العائلي والتخفيف من حدة آثاره وذلك على النحو التالي:
1. يقتضي البعد العلاجي مراجعة تقييم النظام القضائي والتشريعي في مجال تجريم العنف العائلي ففي المجتمع العربي الليبي قد يتطلب الأمر مراجعة التشريعات المتعلقة بالجرائم ضد أفراد الأسرة وكيانها وأخلاقياتها في إطار ما يشهده المجتمع من تطور وفي إطار إقرار الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان، وصدور قانون تعزيز الحرية، وكذلك استرشاداً والتزاماً بالاتفاقيات التي صادقت عليها الجماهرية و على الأخص اتفاقية منع كافة أشكال التمييز ضد المرأة واتفاقية حقوق الطفل.
2. توظيف أساليب العمل الاجتماعي المهني وإنشاء مكاتب للخدمة الاجتماعية بالمحلات تكون مهمتها النظر في حوادث العنف العائلي وإجراء الدراسات اللازمة والمتابعة المستمرة وتعطي لها صلاحيات الضبط القضائي.
3. علاج الآثار المترتبة عن العنف العائلي وعلى الأخص تلك المتعلقة بالصحة الإنجابية للمرأة المعتدى عليها وكذلك الاهتمام بالجوانب النفسية والاجتماعية لضحايا العنف العائلي.
4. قد يتطلب علاج العنف العائلي سلب ولاية الأسرة عن أبنائها و وضعهم مؤسسات متخصصة أو لدى أسر كفيلة ترعاهم بدلا عن أسرهم التي تسيء معاملتهم، وقد نصت المادة (36) من القانون رقم (17) لسنة 1992 بشأن تنظيم أحوال القاصرين ومن في حكمهم على سلب الولاية عن ولي النفس وجوبا في الحالات التالية:
أ) إذا فقد أحد الشروط المبينة في المادة (34) من هذا القانون.
ب) إذا ثبت ارتكابه لجناية أو جنحة ضد المولى عليه-
ج) إذا حكم عليه بصفته أحد الوالدين أكثر من مرّة وبالنسبة لغيره من العصبة مرّة واحدة في إحدى الجرائم التالية:
1. جريمة التقصير في الواجبات العائلية.
2. جريمة سوء استعمال وسائل الإصلاح والتربية.
3. جريمة إساءة معاملة أفراد الأسرة.
4. جريمة إيداع طفل شرعي معترف به في ملجأ اللقطاء أو ما في حكمه.
5. جريمة الزنا أو المواقعة بالقوة أو بالتهديد أو الخداع.
6. جريمة هتك العرض.
7. جريمة تحريض الصغار على الفسق والفجور.
8. جريمة الخطف لإتيان أفعال شهوانية.
9. جريمة الخطف لمن هو دون الرابعة عشر.
1.. جريمة التحريض على الدعارة.
11. جريمة الإرغام علىالدعارة.
12. جريمة استغلال المومسات.
13. جريمة اتخاذ الدعارة وسيلة للعيش والتكسب.
14. جريمة الاتجار بالنساء على نطاق دولي.
15. جريمة تسهيل الاتجار بالنساء.
ونصت المادة (37) من نفس القانون فيما يتعلق بسلب الولاية كعلاج لمشكلة إساءة معاملة القاصرين و ارتكاب جرائم عنف ضدهم على أنه " يجوز سلب الولاية عن ولى النفس كلياً أو جزئياً ، دائما أو مؤقتاً في الأحوال التالية :
أ) إذا قيدت حرية الولي وكان من شأن ذلك الإضرار بمصلحة القاصر.
ب) إذا أساء الولي معاملة المولى عليه أو قصر في رعايته أو كان قدوة سيئة له على نحو يعرض سلامته أو أخلاقه أو تعليمه للخطر.
ويجوز للمحكمة في الأحوال المتقدمة أن تعهد بالقاصر إلى أحد المعاهد أو المؤسسات الاجتماعية المعدة لذلك.
وأشارت المادة (38) فيما يتعلق بسلب الولاية إلى أنه يجوز للمحكمة من تلقاء نفسها أو بناء على طلب جهة التحقيق، أن تعهد مؤقتا بالقاصر إلى شخص مؤتمن أو إلى معهد خيري أو مؤسسة اجتماعية إلى أن يبث في موضوع الولاية.
هكذا يكون سلب الولاية حلاً لمشكلة العنف العائلي الممارس ضد القاصرين بالأسرة وإبعادهم عندما يتعرضون لمظاهر العنف العائلي وتصبح الأسرة مكانا غير صالح لبقائهم، عن طريق سلب الولاية إذ يجد القاصر من يحميه ويمنع عنه العنف والإساءة بشكل قانون ملزم وواجب.
5) إيجاد مصحات أو مراكز علاج نفسي اجتماعي يلجأ إليها ضحايا العنف العائلي.
6) عدم التهاون في معاقبة مرتكب العنف العائلي خاصة ذلك العنف المقصود حتى يكونون عبرة لمن يعتبر أو حتى يتحقق الردع الخاص والردع العام.