رؤية معاصرة لإعداد معلم التربية الخاصة العربي
د.منى عماد الدين ـ عمّان :
تنطلق هذه الورقة من فلسفة تربوية مفادها أن كل طفل لديه القدرة والرغبة والاستعداد للتعلم، وله الحق في الحصول على فرص متكافئة للتعلم والتقدم في تعلمه وفقًا لميوله وقدراته واستعداداته وإمكاناته، وعلى النظام التربوي أن يتبنى نهجًا يتمحور حول المتعلم وينوع في برامجه وسياساته واستراتيجياته التعليمية التعلمية، ويطور في مناهجه وخطط وآليات إعداد معلميه، بحيث يلبي الاحتياجات المتنوعة لمختلف فئات الطلبة وينسجم مع أنماط تعلمهم وسرعة تعلمهم، ويسهم في إتقانهم لنتاجات التعلم المنشودة. وعلى الدول التي تسعى للتميز أن تطور نظمها التربوية بما ينسجم مع تنوع الاحتياجات ويواكب المستجدات وبمشاركة مجتمعية واسعة من الجهات المعنية كافة. وتتضمن الورقة نظرة استشرافية شمولية لملامح الرؤية المعاصرة لبرامج التربية الخاصة بالتركيز على التوجه نحو الدمج أو التعليم الجامع بصورة مدروسة مخططة ومبرمجة، ولملامح إعداد المعلم العربي في عصر اقتصاد المعرفة بعامة، وذلك كمنطلقات لاستعراض ملامح الرؤية المعاصرة المتعلقة بإعداد معلم التربية الخاصة بشكل خاص.
أولًا- الرؤية المعاصرة لبرامج العناية بالطلبة ذوي الاحتياجات الخاصة:
لقد مرت مسيرة تطور رعاية الطلبة ذوي الاحتياجات الخاصة بمراحل هي: مرحلة الرفض والعزل، ومرحلة الرعاية المؤسسية، وأخيرًا مرحلة الدمج أو الإدماج التي تعتبر المنطلق الرئيس للتفكير في صياغة هذه الورقة ومحاورها الرئيسة، باعتبارها من أحدث الاتجاهات العالمية المعاصرة في مجال تقديم الخدمات التربوية للطلبة ذوي الاحتياجات الخاصة.
يستهدف الدمج في التعليم تحسين التعليم والتعلم المدرسي وكافة الخدمات التعليمية الرامية إلى توسيع نطاق الالتحاق لجميع المتعلمين وزيادة مشاركتهم في التعليم، وهو يرسي الأسس لنهج يؤدي إلى تغيير المدارس ونظام التعليم ذاته، وتطوير تعليم ذي نوعية جيدة للجميع.
وتتضمن فلسفة الدمج الشامل تدعيم التوجه نحو تلقي جميع الطلبة تعليمهم وتعلمهم في غرف الدراسة العادية في الحي، مع اعتبار الاختلافات والفروق الفردية فيما بينهم عامل قوة يمكن استثمارها لتطوير نوعية التعليم في هذه المدارس، ويتم تعديل طرق التعليم والتعلم وأساليبهما واستراتيجياتهما لمواجهة هذه الاحتياجات، ويعمل المعلمون معًا لتلبيتها، مثلما يعمل الطلبة سواء العاديون أم المعوقون بجد ونشاط للمشاركة الفاعلة في العملية التعليمية التعلمية.
بيان سلامنكا وإطار العمل في مجال ذوي الاحتياجات الخاصة:
- يبدأ البيان الذي صدر عام 1994 بالتزام بتوفير التعليم الجميع، ويعترف بضرورة توفير التعليم لجميع الأطفال والنشء والكبار في إطار التعليم العادي.
- يستهدف توفير تعليم جيد للمتعلمين، والتعليم للجميع في المجتمعات المحلية.
- يعد هذا البيان أوضح دعوة إلى التعليم الجامع.
- يعزز الأفكار الواردة في الصكوك الدولية الأخرى.
- يحدد هذا الحدث خطة السياسة العامة للتعليم الجامع على الصعيد العالمي.
- يعد صكًا فعالًا للتجديد الميداني في شتى مناطق العالم.
- يشكل تحديًا لجميع السياسات والممارسات الاستبعادية في مجال التعليم.
- يقوم على أساس توافق آراء دولي متنام حول حق جميع الأطفال في تعليم موحد في أماكن وجودهم، بغض النظر عن خلفياتهم أو مستوى تحصيلهم أو عجزهم.
- يتضمن إطار عمل سلامنكا المحاور الرئيسة التالية: السياسة والتنظيم، والعوامل المدرسية، وخدمات الدعم، والموارد المتاحة، والشراكة مع الآباء والمجتمع المحلي، إضافة إلى إعداد وتدريب العاملين وهو محور الاهتمام الرئيس لهذه الورقة.
السياسة العامة والتشريع في إطار الدمج والتعليم الجامع:
- إن الانتقال إلى التعليم الجامع ليس مجرد تغيير فني أو تقني أو تنظيمي، ولكنه حركة تحول شاملة في اتجاه فلسفي واضح.
- بالرغم من أن جميع الدول تواجه تحديات التنوع بين المتعلمين، فلم يتمكن سوى العدد القليل منها من التحول من سياسة العزل وفصل الخدمات التعليمية إلى سياسة الدمج الكلي.
- الدمج في التعليم ينبغي أن يصبح جزءًا من إصلاح النظام التعليمي ككل، وأن يتم ربطه بإصلاح أوضاع المعوقين والفئات المهمشة الأخرى وتحقيق الاندماج الاجتماعي، مثلما ينبغي ربطه بالإصلاحات الديمقراطية الأساسية في المجتمع.
- ينبغي ألا يفهم الدمج على أنه مجرد حضور الطلبة المعوقين في الصفوف المدرسية، بل هو محاولة لتغيير المدرسة العادية وتشجيعها لتبني أساليب أكثر تطورًا وأكثر حساسية وتمكينها من تقديم هذه الأساليب إلى الغالبية العظمى من الطلبة.
- إن الانتقال إلى التعليم الجامع يهدف إلى تحسين جودة التعليم ونوعيته للجميع، كونه يتطلب طرق تدريس غير نمطية ومناهج وأساليب تقويم مرنة تراعي نتاجات تعلم الطلبة وفقًا لفروقهم الفردية، إضافة إلى دور المدرسة القيمي والأخلاقي والاجتماعي.
- إن تطبيق التعليم الجامع لا يعني إلغاء كليات ومعاهد التربية الخاصة، إذ إن هنالك حاجة ماسة لها ولما تملكه من خبرات وإمكانات مادية وبشرية دامجة، لتكون مراكز مصادر للتعلم والتعليم والتدريب المستمر للمعلمين.
- وأخيرًا، إن عملية التحول إلى تعليم جامع لا يمكن حدوثها فجأة أو بين ليلة وضحاها، بل هي عملية تدريجية تعتمد على مبادئ مترابطة، وبناء أفكار جديدة، وخلق قيم وثقافات دامجة، وحشد موارد مادية وبشرية وبناء شراكات فاعلة.
المدارس المرحبة:
هي المدارس التي تسعى للوصول إلى جميع المتعلمين، وتشكل المدارس المرحبة جزءًا أساسيًا ضمن جهود التربية للجميع باعتبارها مسيرة ينطلق فيها الجميع ويتعلم بعضهم من بعض خلالها. وتسعى المدارس المرحبة إلى دمج الطلبة المعوقين في المدارس العادية، بتبني منهاج مرحب واعتماد صفوف مرحبة وإعداد معلمين مرحبين.
عناصر أساسية في التحول نحو المدارس المرحبة:
- الاستثمار الأفضل للموارد والخبرات والمعارف المتاحة لدعم عملية التعلم.
- النظر للتنوع والاختلافات كفرص للتعلم والنمو والتطور والتفاعل مع المحيط.
- التأكيد على بناء الشراكات مع جميع المعنيين من أطفال ومعلمين وإدارة وأولياء أمور ومجتمع محلي.
- تطوير لغة مشتركة تساعد على تطوير الرؤية والمواقف والتشارك في الأفكار.
- بناء مناخ داعم وتجذير ثقافة مدرسية تعزز المبادرة والابتكار والإبداع.
خصائص فريق الدمج الفعال:
من أبرز الخصائص التي تميز فريق الدمج الفعال، والتي ينبغي تمكين جميع الأطراف وتأهيلهم لاكتسابها:
- بناء رؤية عامة مشتركة.
- إعادة التفكير بالمهمة التي سيتم إنجازها، وإدخال التغييرات والتحسينات عليها.
- تشجيع الحرية الفردية في التعبير عن الآراء والمواقف والمشاعر.
- اتخاذ القرارات بعد الاستماع لمختلف وجهات النظر ذات العلاقة.
- إدراك أهمية تعرف آراء جميع أعضاء الفريق ومعارفهم وخبراتهم.
- تقبل الفروق والاحتياجات والاهتمامات والتوقعات الفردية.
- استثمار القدرات والمهارات والكفايات الخاصة لكل عضو في الفريق.
- مواجهة المشكلات وإجراء ما يلزم من تعديلات للحد منها.
- التعامل مع الصراع وإدارته بأسلوب إيجابي بناء.
- الاعتراف بمسؤولية النجاح كإنجاز لجميع الأعضاء.
ثانيًا- الرؤية المعاصرة لإعداد المعلم العربي في عصر اقتصاد المعرفة:
ماذا نعني باقتصاد المعرفة؟
اقتصاد المعرفة هو: «الاقتصاد الذي يدور حول الحصول على المعرفة، والمشاركة فيها، واستخدامها، وتوظيفها، والمساهمة في ابتكارها وإنتاجها، بهدف تحسين نوعية الحياة بمجالاتها كافة، من خلال الإفادة من خدمة معلوماتية ثرية، وتطبيقات تكنولوجية متطورة، واستخدام العقل البشري كرأس مال معرفي ثمين، وتوظيف البحث العلمي، لإحداث مجموعة من التغييرات الاستراتيجية في طبيعة المحيط الاقتصادي وتنظيمه ليصبح أكثر استجابة لتحديات العولمة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وعالمية المعرفة، وأكثر انسجامًا مع متطلبات التنمية المستدامة بمفهومها الشمولي التكاملي».
ما مواصفات الموارد البشرية التي يتطلبها اقتصاد المعرفة؟
يتطلب اقتصاد المعرفة موارد بشرية مؤهلة تتصف بمزايا رئيسة أبرزها: مستوى عال من التعليم والتدريب، وإعادة تدريب وفق المستجدات، ودرجة عالية من التمكين، والحرص على النمو المهني والتعلم الذاتي المستمر، والقدرة على التواصل والإبداع وحل المشكلات واتخاذ القرارات، إضافة إلى المرونة والقدرة على التحول من مهنة إلى أخرى، والتعامل مع الحاسوب وتوظيف التقنية بنجاح.
ما دور النظم التربوية في تهيئة طلبتنا لمجتمع اقتصاد المعرفة؟
يتوقع من النظم التربوية العربية أن تمارس دورًا فاعلًا متعدد الأبعاد متنوع المجالات في إعداد طلبتنا وتهيئتهم لمجتمع اقتصاد المعرفة، وتمكينهم من الكفايات الضرورية لتحقيق التعايش الفاعل فيه ومواكبة مستجداته وتقنياته وتحدياته. ومن أبرز ملامح هذا الدور وأبعاده التي يتوخى أن تنعكس إيجابًا على الفرد والمجتمع، ما يلي:
- تنمية القدرة على التعلم واكتساب المعرفة وتوظيفها وإنتاجها وتبادلها.
- تنمية القدرة على البحث والاكتشاف والابتكار.
- اكتشاف قدرات الفرد ورعايتها وتعظيمها.
- تمكين الفرد من تحمل مسؤولياته.
- تنمية القدرات العقلية والإبداعية دعمًا للتفوق والتميز والإنجاز.
- تمكين الفرد من توظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
- تعزيز القدرة على المشاركة والعمل في فريق والتعايش معًا.
- تنمية القدرة على الفهم المتعمق والتفكير الناقد والتحليل والاستنباط والربط.
- تعزيز القدرة على إحداث التغيير والتطوير.
- تعزيز القدرة على الحوار الإيجابي والنقاش الهادف وتقبل آراء الآخرين.
- تمكين الفرد من الاختيار السليم الذي يحقق رفاهيته في ظل مجتمع متماسك، وتوسيع الخيارات والفرص المتاحة أمامه.
- كسر حواجز الزمان والمكان لتحقيق الذات في الإطار المجتمعي.
واستجابة للتحديات التربوية الرئيسة ومواكبة للمستجدات في مختلف مناحي العملية التربوية، فإن الإطار الاستراتيجي المقترح لتطوير النظم التربوية بمفرداتها كافة: مدخلات وعمليات ومخرجات، ينبغي أن يتضمن ملامح بارزة للتغيير التربوي المنشود يمكن إيضاحها في مسارات رئيسة على النحو الآتي:
أ- تجديد كفايات المعلم وأدواره في عصر اقتصاد المعرفة:
يُعنى هذا المسار بتجديد كفايات المعلم وأدواره في عصر اقتصاد المعرفة، ويتضمن ذلك التأكيد على الأدوار الجديدة للمعلم باعتباره الصديق الداعم والناقد، والقائد الفذ، والمبدع والمبتكر، والمحاور والمناقش، والمراقب والموجه للتعلم، والأنموذج والمستشار. مثلما يتضمن الخصائص والمواصفات المتجددة للمعلم باعتباره متفردًا وغير نمطي، يعد اختلافه مع الآخرين مصدر ثراء معلوماتي له، كما أنه مسهل للتعلم وميسر له، وممارس فعلي للتفكير الناقد والتعلم الذاتي الشامل والمستدام. كما وتشمل الكفايات والقدرات المطلوبة من المعلم في عصرنا هذا قدرات ومهارات أكاديمية عالية، وخصائص وجدانية راقية، إضافة إلى مهارات التحدي والإبداع والتميز، والقدرة على قيادة الصف والعدالة في الممارسات والنمو المهني المستمر.
ب- إحداث تحول نوعي في دور الطالب:
وذلك بالانتقال من الدور التقليدي الذي يتلخص في اعتبار الطالب متلقيًا ومشاركًا مشاركة محدودة في العملية التعليمية، يقتصر دوره في حفظ المعلومات الواردة في المناهج والكتب المدرسية المعتمدة وتخزينها في الذاكرة واستدعائها وقت الامتحان، بالانتقال إلى الدور الإيجابي للطالب باعتباره مشاركًا فاعلًا وخلاقًا، يناقش ويحاور بفاعلية، ويعرض أفكاره بجرأة وحرية، وينتقد أفكارًا قائمة ويعرض أخرى بديلة، كما يتصف بأنه قادر على التفاعل الفاعل مع تكنولوجيا العصر، واستخدام الحاسوب بمهارة فائقة، ويجيد اللغات الأجنبية ويوظفها، ويستطيع اتخاذ قراراته ذاتيًا، كما يكتسب مهارات التفكير والإبداع ويوظفها، ويسهم في إنتاج المعرفة وتشاطرها وتطويرها.
ج- إحداث نقلة نوعية في الاستراتيجيات والسياسات والأساليب التعليمية - التعلمية:
وذلك بالتحول من التعليم إلى التعلم كمحور للاهتمام، والذي يتضمن الانتقال من التعليم اللفظي الحرفي إلى التعلم بالمعنى والعمل والتطبيق، ومن الحفظ والتلقي إلى اكتساب الخبرات والقدرات والكفايات للتعامل مع الموارد البشرية والمالية والتقنية، ومن تعليم أحداث الماضي إلى تعلم المهارات المناسبة للمستقبل، ومن التعليم بالكتاب إلى التعلم الإلكتروني (بوساطة الحاسب وتقنياته)، ومن التعليم بالمفهوم المحلي إلى التعلم بالمفهوم العالمي والانفتاح على الثقافات العالمية وتبادل المعرفة عالميًا، ومن التعليم وفق المناهج التقليدية والكتب المدرسية الموحدة إلى التعلم وفق المناهج والوسائط المتعددة (كتب محوسبة، برمجيات إثرائية، مشاريع، أنشطة عملية، أشرط...)، ومن السعي إلى تخريج عمال وموظفين مستسلمين للواقع يلتزمون بحرفية القواعد واللوائح إلى العمل على تهيئة وتمكين مبدعين ومبتكرين ومخترعين يتحدون الأمر الواقع ويطورونه، إضافة إلى الانتقال من دور المعلم كمسيطر وملقن ومصدر معلومات وحيد إلى دوره كقائد وميسر ومسهل ومناقش لتعلم الطلبة يعمل على إطلاق طاقاتهم وتنميتها، ومن قياس التحصيل الأكاديمي للطالب إلى التقويم الشامل المتكامل لجوانب شخصية المتعلم وطاقاته وإبداعاته، ومن التركيز على سياسة التبرير إلى اتباع المنهجية العقلانية والمنطق الرشيد، ومن استهلاك التقنية إلى ابتكارها وإبداعها، ومن التعليم كمسؤولية تنفرد بها وزارات التربية والتعليم إلى التعلم كمسؤولية مجتمعية مشتركة تنفذ من خلال بناء شراكات فاعلة، وأخيرًا، من المدرسة المنعزلة إلى المدرسة باعتبارها جزءًا رئيسًا من شبكة مؤسسات مجتمعية تربطها علاقات تشاركية فاعلة.
ثالثًا- الرؤية المعاصرة لإعداد معلم التربية الخاصة:
إن التوجه نحو اعتماد سياسة الدمج أو التعليم الجامع يعتمد التعلم كأساس، ويعتمد المتعلم كمحور للعملية التعليمية التعلمية، والمقصود بالتعلم ضمن هذا الإطار «عملية تفاعلية تبادلية بين مجموعة من العوامل، من أبرزها المتعلم والمعلم ونظام التعليم ومناهجه وطرائقه وأساليبه...، وجميعها تؤثر على نجاح الطالب وعلى قدرته على إتقان التعلم والتقدم فيه».
وفيما يتعلق بتأهيل المعلمين في ضوء تبني منحى الدمج للتعامل مع التنوع في احتياجات الأطفال داخل الصفوف، فعوضًا عن التخصص في برامج التأهيل الأكاديمية حسب الفئة المستهدفة، معلمي تربية عادية مثلًا أو معلمي تربية خاصة، من الأفضل البدء بإعطاء قواعد ثقافية عامة للجميع، ومن ثم يتبعها الاختصاص مثلما يحدث بالنسبة لحقول اختصاصات أخرى كالطب والهندسة.
مجلة المعرفة - العدد 152