ماهو وضع الطفل بالتحديد؟
الطفل حساس تجاه الكلام الذي يوجه إليهوحساس أيضاً إزاء طريقة معاملة الكبار له، فإن خوطب كما يخاطب الشخص الراشد، أيباتزان، رد بالمثل، وإن عومل معاملة الشخص الذي لا يعي شيئا، تحول إلى طفل مغناجدائم يفقد أي رغبة بالقيام بجهد لتخطي رغباته ونزواته.
فاحترام الطفل هو احترام رغبته فياللعب وحاجته إليه وليس القبول برغبته في امتلاك كل الألعاب التي يراها أو التي تقعيده عليها، فإن حاز على كل الألعاب التي يطالب بها خسرت هذه الدمى قيمتها، وتحولتعملية المطالبة بلعبة جديدة إلى لعبة بحد ذاتها... إنها لعبة ابتزازية يتقنها الطفلاتقانا تاما ولكن خطورتها تكمن في كونها تحوله إلى طاغية صغير مستبد وإلى كتلة منالأنانية الجوفاء.
ان يعتاد الطفل على رؤية الكباريتسارعون إلى تلبية رغباته، تنمو لديه انانية تشكل خطرا على شخصيته ومحيطه الآنيوالمستقبلي، وهذا يمنعه من تعلم لذة مشاركة الآخرين بالمسؤولية،و كما يحرمه من لذةالاستمتاع ببساطة الأشياء والقدرة على خلق لعبة ترضيه وتغني خياله وتفتق طاقاتهالابداعية.
فقد يتفاقم هذا الوضع إلى حد فقدانالقدرة على الاحساس برغبة ما.. من هنا تأتي اهمية ان يستحق الولد ما يطالب به، انالاستحقاق هو بذل الجهد اللازم للتوصل إلى ارضاء الرغبات، فمن لا يتاح له الاحساسبالعطش لا يتعرف على لذة الشرب، ومن لا يبذل جهدا للتوصل إلى قمة الجبل لا يعطيجمال المناظر المحيطة به حق قدرها.
لولا افتقار الطفل إلى حضور امه كلماابتعدت عنه، لما احتاج إلى نطق كلمة (ماما) يناديها بها، إنه يسترجعها بوساطة هذاالرمز اللغوي الذي يعوض عن خسارته لالتحامه بأمه. وهنا لا بد لنا لا بد من الحديثعن حالة الكآبة والحزن التي يلاحظها علماء النفس والمربون عند الطفل قبيل نطقهبكلماته الأولى، ويفسر الاختصاصيون كـ (إيديت جاكسون) و (ميلاني كلاين) وغيرهماظاهرة تعلم الكلام كنتيجة لاجتهاد الطفل في تخطيه حالة القلق التي يخلقها غياب امهعنه. اما الأهل فيستشعرون هذه الحقيقة ولو بشكل غير واع ويبرز ذلك من خلال لعبةيمارسونها مع اطفالهم، وذلك منذ الأشهر الأولى بعد ولادته وهي لعبة رائجة في كثيرمن البلدان شرقية كانت أم غربية وتقوم على مبدأ الاختفاء عن ناظري الولد ولو للحظةثم الظهور مجددا أمامه.. إن الأولاد كافة يتجهون لهذه اللعبة، فهي تمكنهم من فهماالختفاء والظهور من جديد بشكل العوبة لا تقلقهم، ويكون سرور الطفل لظهور وجه امهاو وجه من يلاعبه مساويا لاستغرابه وقلقه من جراء غيابه عنه، فالنقص يولد الرغبةويولد الفرح الحقيقي في تحقيقها.
ويروي «فرويد»، أبو التحليل النفسي،كيف ان حفيده البالغ من العمر ستة أشهر ونصف، كانت له لعبة مفضلة، وهي عبارة عنبكرة خشبية يتدلى منها طرف خيط، فكان الطفل يرمي البكرة بعيدا عن سريره وهو مازالممسكا بطرف الخيط صارخا ما معناه «بح» (أي غابت)، ثم يشد الخيط اليه فتظهر البكرةمن جديد فيبهج له ويصرخ «هاهي».
كل رغبة لاتُلبى فور مطالبة الطفلبتحقيقها، تصبح حافزا له على الخلق والإبداع ابتداء من اللعب وانتهاء بالابداعالفني والعلمي، دون ان يعني ذلك حرمان الطفل من تحقيق رغباته. فواجبنا هو تأميناحتياجاته كلها وحثه على العمل قدما وبذل المجهود الكافي لتحقيق رغباته بنفسه فيكونله أن يتعرف على رغباته الحقيقية وعلى استحقاق الفوز بها فلا نلصق به رغباتناولانحققها من خلاله.
من هذا المنطلق نفهم قول المحللةالنفسانية «فرانسوا دولتو»: «يجب ان نميز بين رغبات الاهل ورغبات الطفل من جهة،وبين حاجاته هو من جهة اخرى، فالولد يرفض طعاما تقدمه له أمه يعبر بذلك عن عدمحاجته الى الاكل.
والأم التي ترغم ولدها على الاكل حينلايكون جائعا انما تحاول ارضاء رغباتها هي. وقد يكون رفض الاطفال للأكل في بعضالاحيان نتيجة لإحساسهم برغبة الأم الشديدة الى مناولتهم الطعام، لو كان الاكل حاجةأساسية لديهم.
وحين تساعد الأم ولدها على العيش فيثياب نظيفة ومحيط نظيف فهي تلبي حاجته الصحية الى النظافة. أما حين تمنعه عن اللعبأو عن الإتيان بأية حركة خوفا من اتساخ ثيابه فهي تلبي رغبتها بامتلاك ولد ألعوبةوتنسى انه كائن حي، وان الحركة واللعب بحرية من الحاجات الاساسية لديه».
وتعود «دولتو» الى التمييز بين الرغبةوالحاجة لدى الطفل فتقول بضرورة تحقيق حاجات الولد وبضرورة عدم تحقيق رغباته فورتعبيره عنها. «تختلف الرغبات عن الحاجات لكونها تستطيع ان تقال وان تحقق بطريقةرمزية وخيالية، بينما تكون الحاجات ضرورية للاستمرار في العيش وهي متعددة كالنظافةوالدفء والاكل والشرب». وهي تنصح الاهل بعدم ارضاء رغبة اولادهم بل حثهم علىالتعبير والكلام عنها وعلى محاولة تحقيقها بانفسهم وتعطي امثلة كثيرة على ذلك: «انظروا الى ولد يرغب في ألعوبة لايمتلكها، طائرة صغيرة مثلا ترونه يخترع اي شيء. فأي غرض أو أي طرف من غرض موجود أمامه يتحول الى طائرته التي يرغب فيها. أما اذاحققت رغبته بشراء الطائرة فورا فذلك يحول دونه ودون خلق أي شيء، إذ يبدأ بكسرألعوبته وبالمطالبة بطائرة اخرى لانه لم يعد قادرا على خلقها بنفسه.
فالابداع والخلق اشكال تتخذها الرغبةلتحقيقها وتخطيها لذاتها في آن معا، أي في تطور الرغبة في الرغبة والترميز والابداعوالخلق وغيرها».
غير ان «دولتو» لا تقول بعدم تحقيق أيةرغبة عند الطفل بل بضرورة الكلام مع الطفل عن هذه الرغبة وذلك بالدخول في تواصل معهحول رغبته وتحويل العالم أمامه الى عالم غني باللغة، عالم من الرموز والكلاموالمفردات ومن الوعود باللذة.
فالحديث مع الطفل عن رغبته في الحصولعلى قطعة حلوى أو على حبة «ملبس» يدعه ينفصل عن الرغبة بشكلها الآني، ويدخله فيتواصل ممتع مع من يحيط به حول هذه الرغبة فيحلم بالحصول عليها لاحقا.
أما اذا تحققت فورا فإنها تصبح مجردحاجة جسدية لإرضاء جهازه الهضمي وتدفعه الى الانعزال شيئا فشيئا عن أهله فيصبحونمجرد وسيط أو وسيلة لتحقيق رغباته..
في نهاية التحليل وكي تستقيم الامور فيمواجهة تخبطات الاساليب التربوية المسبقة الصنع لامناص من تجنيد مجموعة من الباحثينوالمفكرين وفي مختلف اختصاصات العلوم الانسانية حتى يتأتى التشخيص شاملا للمشكلاتوالتعقيدات التي يعاني منها اطفالنا وشبابنا اليوم. أقول ذلك لأن هلا أمل مأمون فيبناء استراتيجية تربوية نفسية اجتماعية مثمرة تعيد توظيف الطاقات المبعثرة لأجيالناالقادمة بما يخدم نهوض مجتمعنا العربي اذا لم تتم الاستعانة الجادة بالدراساتالفكرية والكشوفات العلمية المنبثقة عن واقعنا ومقتضياته الاجتماعية والاقتصاديةوالتاريخية.
بذلك نتمكن من تمهيد البيئة الآمنةللمربين والمرشدين النفسانيين والاجتماعيين للاطلاع بمهامهم وإقرار دورهم كمرشدينحقيقيين رسميين في مراكز الرعاية النفسية والاجتماعية وفي الروضات وفي المدارسوالمعاهد والجامعات والجمعيات وغيرها من المؤسسات لتزويد المعلمين والمعلماتوالاهالي بالاساليب التربوية الناجعة. هذه الاجراءات هي الكفيلة بتفعيل طاقاتالاجيال الحاضرة والمستقبلية وتوجيهها نحو البناء والصحة النفسية الاجتماعيةالمنتجة.
** د. غريغوار مرشو.. قسم الدراسات الفلسفية والاجتماع