زهرة الشمال
07-12-2011, 08:55 PM
الاساليب التربوية الخاطئة واثرها في تنشئة الطفل
أ.عبد الجواد البيضاني*عميد كلية الآداب جامعة أهل البيت
كل الأساليب التربوية نابعة من طبيعة الذات الإنسانية، وعلى الرغم من أنه قد بت لبعضهم أقطاباً متنافرة متباعدة لا تلتقي، إلا أنها في حقيقة وضعها روافد تصب في مسار واحد، هو العملية التربوية المقصودة وغير المقصودة، وإن اتخذت مسارات واتجاهات مختلفة.
فقد أظهر ((ستالونزي))- زعيم الاتجاه السلوكي- التربية بأنها نمو متزن لقوى الإنسان، وتطرّف ((هربارت)) عندما اعتقد بأنها بناء للأخلاق، وذهب ((فروبل)) إلى أن نقطة البداية في العملية التربوية هي قيمة الطفل وميوله.
فالمربي الأول أراد أن يحقق الهدف التربوي بوسائل خارجية تتصل بالإعداد المباشر للفضائل الخلقية، والمربي الثاني اتخذ التعليم والمعلم وسيلة لتحقيق استثارة الرغبات عند الاحتكاك بالوسط المعني فتتكون الأخلاق، أما المربي الثالث فيرى أن التربية تبدأ بالنشاط الذاتي لدى الطفل وتكوّن الميول الإرادية لديه مجموعة نزعات قيمية تربط بين نشاطه والوسط المعني، ويتضح مما ذكر أنهم استهدفوا بناء الأخلاق بسبل مختلفة، ويبدو أن تشتت اتجاهاتهم وتعدد وسائلهم حاصل عن اختلاف صورة النموذج الذي اعتمد عليه كل منهم، فضلاً عن خضوع هذا النموذج لتأثير الصراعات الدينية والسياسية من جهة والاتجاهات العلمية للثورة الصناعية من جهة أخرى، وتبعاً لما ذكر فقد تباعدت الاتجاهات والسبل المؤدية إلى العملية التربوية.
ومع بداية قرن العشرين برزت نظرية ((جون ديوي)) واستحوذت على عقول المفكرين والباحثين في حقل التربية، إذ نال هذا المربي لقب (نبي التربية الجديد) فقد أحدثت أفكاره تغييراً كبيراً لا يقل شأناً عن ذلك الانقلاب الذي أحدثه ((كوبر نيكس)) في علم الفلك، فلقد نقل محور الفلك من الأرض إلى الشمس، وكذلك ((ديوي)) حين أشار إلى مركز الجاذبية في أي عملية تربوية بقولهجدير بالتغيير الذي يطرأ الآن على التربية والتعليم في مدارسنا أن يمتد إلى مركز الجاذبية منه). فالطفل عنده ليس مركز جاذبية فحسب بل هو محور البداية والمركز والغاية المرجوة من العملية التربوية، وبمعنى آخر أن الطفل من وجهة نظره هو الشمس التي ينبغي أن تدور حولها سائر النظم التربوية بدءاً من القيم التربوية في العائلة إلى الظواهر السلوكية في المجتمع وما اكتسبه من مهارات واتجاهات شخصية.
يرى ((ديوي)) أن النشاط المدرسي يجب أن يكون مؤسّساً على نمو الأطفال وميولهم، وهذان العنصران لا يزرعان إلا في الرحم الثاني الطفل وفي مساحة المحيط المحدد بالأب والأم، إذ أن المربين حرصوا على أن يصطلحوا مصطلح الصف التأهيلي على عائلة الطفل الصغيرة، والأبوان هما المعلم الأول له، ومنها يتزود بالمهارات والأنماط السلوكية، وكذلك يمكن لهما استقراء نتائج تنشئتهما وتربيتهما على وفق المعايير السائدة إذا تجلّوا حقيقة الظواهر الثابتة لدى الكبار على أنها انعكاسات وردود لما تلقوه في مرحلة طفولتهم، وهذا ما أسفرت عنه بحوث السايكولوجيين، فلا مناص من اعتماد العائلة الصغيرة كمرحلة تربوية أساسية قبل المدرسة وعليها يقع عبء المسؤولية الأكبر في إعداد الطفل السوي إعداداً بدنياً وذهنياً، يؤمن له الاتزان أمام معترك المجتمع.
وعلى سبيل المثال، إن المدرسة تعلم الطفل قراءة اللغة وكتابتها، أما اكتسابها فيتم بصورة طبيعية في مرحلة سابقة لذهاب الطفل إلى المدرسة بسنوات معدودة وتلقي الطفل اللغة يتناسب مع نبوغه وتفوقه بها تناسباً طردياً مع مستوى تحصيله المعرفي من أبويه، فقد أثبتت الدراسات والأبحاث الميدانية أن تميز التلميذ في السنوات الأولى من المدرسة يعزى إلى حرص الأبوين على تزويد ابنهما بمهارات القراءة والكتابة والمعارف التي تصقل قدرته وتطور ميوله.
فالأسرة وفق هذا المفهوم تعدّ من أخطر المؤسسات التربوية وأعمقها أثراً في سلوك الأبناء ويلعب الأبوان الأثر الكبير والمهم في العملية التربوية لحرصهما المفرط على تقديم الطفل وتهيئتهِ تهيئةً مبكرة للتفاعل مع المجتمع على وفق أنماط سلوكية مقصودة، كما يزودانه بالاتجاهات والقيم والمعايير التي عليه أن يؤمن بها ويدافع عنها ويضحي من أجلها كقيم الشرف والوفاء والدفاع عن الوطن والذود عن حياض العائلة... الخ. فمثلاً عندما يتظاهر الطفل بالشجاعة والقوة فإنه في واقع الحال يعكس تشبثه ومن ثمَّ تقمصه شخصية أقرب الناس في محيطه الأسري يرمز في نظره إلى الشجاعة والقوة، وموقفه هذا ليس بدافع الإيمان بقيم الشجاعة والقوة، ويكفينا دهشة ما يقوم به الطفل في ارتداء ملابس الكبار أو تقليدهم في التصرف.
إن العملية التربوية التي تُمارَس داخل جدران البيت - المدرسة الأولى- ولاسيما في السنوات الأولى من عمر الطفل، لها وقع مهم في التأثير على تكوينه النفسي والاجتماعي وبناء شخصيته ومشاعره، فإذا كان أسلوب التربية البيتية قائماً على إثارة مشاعر الخوف والقلق وانعدام الأمن في نفس الطفل فالاستجابة لذلك الأسلوب تكون عادة باضطراب أنماط السلوك لديه وإعاقة نموه النفسي، ومن ثم تؤدي إلى التأخر في مجالات نموه الأخرى، وكذلك نجد أن انعدام التكيف السوي للطفل في المدرسة صادر عن وجود حالة صراع انفعالي دائم ما بين الأبوين استهدف بشكل غير مقصود الاستجابات الطبيعية لتكيف الطفل فأظهر بدلاً من ذلك مشاعر الانطواء والعزلة، وهكذا بقية أنماطه السلوكية.
إن الدراسات الحديثة والبحوث المتخصصة في علم النفس والاجتماع ولاسيما التحليل النفسي وجهت كل اهتماماتها إلى العلاقة القائمة بين تربية الأطفال أو أساليب معاملة والديهم لهم وبين انعدام التكيف السوي في حياتهم، إذ كشفت هذه الدراسات عن حقائق مهمة حول أثر ونوع التعاليم التي يتلقاها الطفل من الكبار المحيطين به ونوع وأساليب المعاملة التي يتعرض لها، وكيف تؤدي به أحياناً إلى الجنوح والانحراف.
على هذا، نخلص إلى القول بأن التربية الخاطئة تقف في مقدمة العوامل الأسرية التي لها صلة بجنوح الأحداث وارتكابهم للجرائم وأنها توجد بين المنحرفين بنسبة كبيرة عن وجودها بين غير المنحرفين، وفيما يأتي حصر لأخطر أشكال وأساليب التربية الأسرية غير السوية والتي تؤدي إلى كثير من الاضطرابات النفسية والانحرافات السلوكية والجنوح بحسب البحوث الميدانية والدراسات الاستقرائية الحديثة:
1- طموح الآباء المفرط
يعد طموح الآباء الزائد إلى حد الإفراط نوعاً آخر من أساليب التربية البيتية الخاطئة التي لها خطورتها وآثارها السيئة في التكوين النفسي للطفل وتكيفه الشخصي والاجتماعي السوي وتكمن درجة خطورته في أن بعض الآباء يحاولون تحقيق الكثير من طموحاتهم وأحلامهم - التي حرموا من تحقيقها- في شخص أبنائهم، خاصة إذا كان هذا النوع من الطموح الزائد مما لا يتحمله هذا الابن أو لا يتفق مع إمكانياته وقدراته أو قد لا يساير ميوله ورغباته، إن دفع الطفل لهدف ما دون إدراك ومعرفة ووعي لقدراته وإمكانياته يعرضه للفشل لأن الطموح أوسع من مستوى القدرات، وهذا الشعور المحبط له نتائجه الوخيمة وأضراره الكبيرة من أبرزها الشعور بالنقص العدواني أو السلوك الاعتدائي كالتخريب والقمع والهرب والمشاكسة... الخ، وفي هذه المظاهر السلوكية المنحرفة يكمن الخطر الكبير فيدفع الأطفال إلى حالات الاضطراب النفسي والقلق الشديد ومن ثم الانحراف السلوكي والجنوح، لأن من البديهي أن الطفل لا يتعلم إلا ما يريده ويميل إليه.
2- الإفراط في التسامح والتساهل
إن المبالغة في التسامح والتساهل من جانب الوالدين للطفل يستثير لديه الشعور بعدم المسؤولية واللامبالاة ويدفعه إلى هاوية التمادي في الخطأ. فقد يقال إن هذا التسامح هو نوع من الحب ولكن نجاح التربية يزداد بازدياد ما يتلقاه الطفل من حب وتقدير من أبويه إلا أن هذا الحب يجب أن يعطى بقدر معين، أما إذا جاوز الحب الحدَّ المطلوب فإنه يفقد أثره ويؤدي إلى نتائج عكسية، وهذا النوع من أساليب التربية الخاطئة والذي يقوم على الإفراط في التسامح له آثاره الخطيرة في تكوين شخصية الطفل وفي سوء تكيفه السلوكي مع المجتمع وانحرافه، لقيامه بألوان السلوك المضاد للمجتمع مما لا يقره القانون القيمي فيقع تحت طائلة العقاب والردع المستمر.
3- الإفراط في العقاب
يعتقد بعض الآباء بأن العقاب نوع من الأساليب التربوية المهمة تقتضيها عملية تربية الطفل وتعويده على السلوك السليم وهم في ذلك ينظرون إلى أن العقاب يحقق أكثر من هدف وبأسرع وقت وبأقل جهد والواقع أن العقاب كأسلوب من أساليب التربية تأتي خطورته من ناحيتين مهمتين هما: نوع العقاب ودرجته، فأما نوعه فإن كثيراً من الآباء يتجهون في أساليب عقاب الطفل إلى العقاب البدني القاسي كوسيلة قمعية تحول دون تكرار خطأ ما، بينما يميل بعضهم الآخر إلى العقاب النفسي الذي يقوم على حرمان الطفل من رغباته الملحة وتكبيل حريته برادع الخوف والقهر النفسي، ولابد من تحذير الآباء الذين يجمعون بين العقابين: البدني والنفسي، وأما من حيث درجة العقاب فإن بعض الآباء قد يفرط فيه ويصل في إفراطه إلى درجة قاسية جداً، إن العقاب غير العادل يعدُّ عاملاً مهماً في انحراف الأطفال وجنوحهم ويدفعهم باتجاه تعودهم على المماطلة والكذب كوسيلة يدرأ بها قسوة العقاب، فضلاً عن شعوره بمنح حضوره العائلي وسعيه إلى خلق كيان بديل له وغالباً ما يكون ذلك الكيان عدوانياً متمردا.
4-النبذ والإهمال
إن إهمال أحد الوالدين أو كليهما للطفل يمثل مظهراً من مظاهر أساليب التربية الخاطئة ويستفحل هذا الشعور لدى الطفل عند إحساسه بأنه منبوذ أو غير مرغوب فيه وعليه يزداد الاضطراب النفسي للطفل كلما زاد هذا السلوك أو تكرر ولاسيما في المراحل الأولى من عمره، والمعروف أن اعتماد الطفل في مراحله المتقدمة من عمره يكون على والديه إذ منهما يستمد العطف والحنان والحماية والتأييد، واستجابة الطفل لهذا السلوك الخاطئ تأخذ أشكالاً عدة يبتكرها الطفل كي يستثير عطف أمه أو حنان أبيه، فيلجأ إلى سرقة شيء مهم من متعلقاتهما كمحاولة لتعويض ما فقده من حب وحنان، وكثيراً ما يلجأ الطفل إلى ألوان مختلفة من السلوك يهدف منها توجيه نظر والديه إلى حاجاته المختلفة وقد تستفحل هذه الألوان السلوكية وتتحول إلى وسائل انتقامية موجّهة للوالدين، تعويضاً منه عن تقصيرهما في التمادي في إهماله فيلجأ إلى تخريب وإتلاف أدوات المنزل أو السرقة أو الهرب من البيت والاختفاء عن الأنظار، وأخطر آثار هذا اللون من السلوك هو ما يتمثل في قيام هؤلاء الأطفال بألوان السلوك التي تنم عن حقدهم على مجتمعهم، نتيجة استغراقهم في هذا النوع من السلوك الذي يؤدي بهم في النهاية إلى هاوية التمرد والحقد والجنوح.
5-الصرامة والجفاء
يتصف بعض الآباء بالصرامة البالغة والجفاء المقيت في تعاملهم اليومي تحت سقف البيت العائلي حيث تأخذ هذه الصرامة وهذا الجفاء مظاهر مختلفة منها الشدة المتناهية، والأوامر الصارمة، والمعارضة غير الواعية لرغبات الطفل، وكبت حريته وتحديد سلوكه على وفق ما يحبه الأب وما يكرهه، وخوفاً من مشاعر الغضب وعواقبه يتقمص الطفل الطاعة العمياء وهو يشعر بأن إرادته قد سلبت فيتنامى لديه الشعور بالانفجار والتحدي، إذ يأخذ هذا الشعور أنماطاً سلوكية مختلفة كالكره وتجنب المواجهة مع الأب والتمرد المستمر عند غياب الأب، ويدعي كثير من الآباء أنهم يقومون بما هو صالح لبناء شخصية أبنائهم المستقبلية متناسين أن التزمت والصرامة أساليب تربوية خاطئة تتقاطع مع إرادة الطفل ورغباته الخاصة، فضلاً عن أن هذه الأساليب التربوية الخاطئة تحجب عنه فسحة الوداعة وروح المرح والغبطة والتفاؤل.
أ.عبد الجواد البيضاني*عميد كلية الآداب جامعة أهل البيت
كل الأساليب التربوية نابعة من طبيعة الذات الإنسانية، وعلى الرغم من أنه قد بت لبعضهم أقطاباً متنافرة متباعدة لا تلتقي، إلا أنها في حقيقة وضعها روافد تصب في مسار واحد، هو العملية التربوية المقصودة وغير المقصودة، وإن اتخذت مسارات واتجاهات مختلفة.
فقد أظهر ((ستالونزي))- زعيم الاتجاه السلوكي- التربية بأنها نمو متزن لقوى الإنسان، وتطرّف ((هربارت)) عندما اعتقد بأنها بناء للأخلاق، وذهب ((فروبل)) إلى أن نقطة البداية في العملية التربوية هي قيمة الطفل وميوله.
فالمربي الأول أراد أن يحقق الهدف التربوي بوسائل خارجية تتصل بالإعداد المباشر للفضائل الخلقية، والمربي الثاني اتخذ التعليم والمعلم وسيلة لتحقيق استثارة الرغبات عند الاحتكاك بالوسط المعني فتتكون الأخلاق، أما المربي الثالث فيرى أن التربية تبدأ بالنشاط الذاتي لدى الطفل وتكوّن الميول الإرادية لديه مجموعة نزعات قيمية تربط بين نشاطه والوسط المعني، ويتضح مما ذكر أنهم استهدفوا بناء الأخلاق بسبل مختلفة، ويبدو أن تشتت اتجاهاتهم وتعدد وسائلهم حاصل عن اختلاف صورة النموذج الذي اعتمد عليه كل منهم، فضلاً عن خضوع هذا النموذج لتأثير الصراعات الدينية والسياسية من جهة والاتجاهات العلمية للثورة الصناعية من جهة أخرى، وتبعاً لما ذكر فقد تباعدت الاتجاهات والسبل المؤدية إلى العملية التربوية.
ومع بداية قرن العشرين برزت نظرية ((جون ديوي)) واستحوذت على عقول المفكرين والباحثين في حقل التربية، إذ نال هذا المربي لقب (نبي التربية الجديد) فقد أحدثت أفكاره تغييراً كبيراً لا يقل شأناً عن ذلك الانقلاب الذي أحدثه ((كوبر نيكس)) في علم الفلك، فلقد نقل محور الفلك من الأرض إلى الشمس، وكذلك ((ديوي)) حين أشار إلى مركز الجاذبية في أي عملية تربوية بقولهجدير بالتغيير الذي يطرأ الآن على التربية والتعليم في مدارسنا أن يمتد إلى مركز الجاذبية منه). فالطفل عنده ليس مركز جاذبية فحسب بل هو محور البداية والمركز والغاية المرجوة من العملية التربوية، وبمعنى آخر أن الطفل من وجهة نظره هو الشمس التي ينبغي أن تدور حولها سائر النظم التربوية بدءاً من القيم التربوية في العائلة إلى الظواهر السلوكية في المجتمع وما اكتسبه من مهارات واتجاهات شخصية.
يرى ((ديوي)) أن النشاط المدرسي يجب أن يكون مؤسّساً على نمو الأطفال وميولهم، وهذان العنصران لا يزرعان إلا في الرحم الثاني الطفل وفي مساحة المحيط المحدد بالأب والأم، إذ أن المربين حرصوا على أن يصطلحوا مصطلح الصف التأهيلي على عائلة الطفل الصغيرة، والأبوان هما المعلم الأول له، ومنها يتزود بالمهارات والأنماط السلوكية، وكذلك يمكن لهما استقراء نتائج تنشئتهما وتربيتهما على وفق المعايير السائدة إذا تجلّوا حقيقة الظواهر الثابتة لدى الكبار على أنها انعكاسات وردود لما تلقوه في مرحلة طفولتهم، وهذا ما أسفرت عنه بحوث السايكولوجيين، فلا مناص من اعتماد العائلة الصغيرة كمرحلة تربوية أساسية قبل المدرسة وعليها يقع عبء المسؤولية الأكبر في إعداد الطفل السوي إعداداً بدنياً وذهنياً، يؤمن له الاتزان أمام معترك المجتمع.
وعلى سبيل المثال، إن المدرسة تعلم الطفل قراءة اللغة وكتابتها، أما اكتسابها فيتم بصورة طبيعية في مرحلة سابقة لذهاب الطفل إلى المدرسة بسنوات معدودة وتلقي الطفل اللغة يتناسب مع نبوغه وتفوقه بها تناسباً طردياً مع مستوى تحصيله المعرفي من أبويه، فقد أثبتت الدراسات والأبحاث الميدانية أن تميز التلميذ في السنوات الأولى من المدرسة يعزى إلى حرص الأبوين على تزويد ابنهما بمهارات القراءة والكتابة والمعارف التي تصقل قدرته وتطور ميوله.
فالأسرة وفق هذا المفهوم تعدّ من أخطر المؤسسات التربوية وأعمقها أثراً في سلوك الأبناء ويلعب الأبوان الأثر الكبير والمهم في العملية التربوية لحرصهما المفرط على تقديم الطفل وتهيئتهِ تهيئةً مبكرة للتفاعل مع المجتمع على وفق أنماط سلوكية مقصودة، كما يزودانه بالاتجاهات والقيم والمعايير التي عليه أن يؤمن بها ويدافع عنها ويضحي من أجلها كقيم الشرف والوفاء والدفاع عن الوطن والذود عن حياض العائلة... الخ. فمثلاً عندما يتظاهر الطفل بالشجاعة والقوة فإنه في واقع الحال يعكس تشبثه ومن ثمَّ تقمصه شخصية أقرب الناس في محيطه الأسري يرمز في نظره إلى الشجاعة والقوة، وموقفه هذا ليس بدافع الإيمان بقيم الشجاعة والقوة، ويكفينا دهشة ما يقوم به الطفل في ارتداء ملابس الكبار أو تقليدهم في التصرف.
إن العملية التربوية التي تُمارَس داخل جدران البيت - المدرسة الأولى- ولاسيما في السنوات الأولى من عمر الطفل، لها وقع مهم في التأثير على تكوينه النفسي والاجتماعي وبناء شخصيته ومشاعره، فإذا كان أسلوب التربية البيتية قائماً على إثارة مشاعر الخوف والقلق وانعدام الأمن في نفس الطفل فالاستجابة لذلك الأسلوب تكون عادة باضطراب أنماط السلوك لديه وإعاقة نموه النفسي، ومن ثم تؤدي إلى التأخر في مجالات نموه الأخرى، وكذلك نجد أن انعدام التكيف السوي للطفل في المدرسة صادر عن وجود حالة صراع انفعالي دائم ما بين الأبوين استهدف بشكل غير مقصود الاستجابات الطبيعية لتكيف الطفل فأظهر بدلاً من ذلك مشاعر الانطواء والعزلة، وهكذا بقية أنماطه السلوكية.
إن الدراسات الحديثة والبحوث المتخصصة في علم النفس والاجتماع ولاسيما التحليل النفسي وجهت كل اهتماماتها إلى العلاقة القائمة بين تربية الأطفال أو أساليب معاملة والديهم لهم وبين انعدام التكيف السوي في حياتهم، إذ كشفت هذه الدراسات عن حقائق مهمة حول أثر ونوع التعاليم التي يتلقاها الطفل من الكبار المحيطين به ونوع وأساليب المعاملة التي يتعرض لها، وكيف تؤدي به أحياناً إلى الجنوح والانحراف.
على هذا، نخلص إلى القول بأن التربية الخاطئة تقف في مقدمة العوامل الأسرية التي لها صلة بجنوح الأحداث وارتكابهم للجرائم وأنها توجد بين المنحرفين بنسبة كبيرة عن وجودها بين غير المنحرفين، وفيما يأتي حصر لأخطر أشكال وأساليب التربية الأسرية غير السوية والتي تؤدي إلى كثير من الاضطرابات النفسية والانحرافات السلوكية والجنوح بحسب البحوث الميدانية والدراسات الاستقرائية الحديثة:
1- طموح الآباء المفرط
يعد طموح الآباء الزائد إلى حد الإفراط نوعاً آخر من أساليب التربية البيتية الخاطئة التي لها خطورتها وآثارها السيئة في التكوين النفسي للطفل وتكيفه الشخصي والاجتماعي السوي وتكمن درجة خطورته في أن بعض الآباء يحاولون تحقيق الكثير من طموحاتهم وأحلامهم - التي حرموا من تحقيقها- في شخص أبنائهم، خاصة إذا كان هذا النوع من الطموح الزائد مما لا يتحمله هذا الابن أو لا يتفق مع إمكانياته وقدراته أو قد لا يساير ميوله ورغباته، إن دفع الطفل لهدف ما دون إدراك ومعرفة ووعي لقدراته وإمكانياته يعرضه للفشل لأن الطموح أوسع من مستوى القدرات، وهذا الشعور المحبط له نتائجه الوخيمة وأضراره الكبيرة من أبرزها الشعور بالنقص العدواني أو السلوك الاعتدائي كالتخريب والقمع والهرب والمشاكسة... الخ، وفي هذه المظاهر السلوكية المنحرفة يكمن الخطر الكبير فيدفع الأطفال إلى حالات الاضطراب النفسي والقلق الشديد ومن ثم الانحراف السلوكي والجنوح، لأن من البديهي أن الطفل لا يتعلم إلا ما يريده ويميل إليه.
2- الإفراط في التسامح والتساهل
إن المبالغة في التسامح والتساهل من جانب الوالدين للطفل يستثير لديه الشعور بعدم المسؤولية واللامبالاة ويدفعه إلى هاوية التمادي في الخطأ. فقد يقال إن هذا التسامح هو نوع من الحب ولكن نجاح التربية يزداد بازدياد ما يتلقاه الطفل من حب وتقدير من أبويه إلا أن هذا الحب يجب أن يعطى بقدر معين، أما إذا جاوز الحب الحدَّ المطلوب فإنه يفقد أثره ويؤدي إلى نتائج عكسية، وهذا النوع من أساليب التربية الخاطئة والذي يقوم على الإفراط في التسامح له آثاره الخطيرة في تكوين شخصية الطفل وفي سوء تكيفه السلوكي مع المجتمع وانحرافه، لقيامه بألوان السلوك المضاد للمجتمع مما لا يقره القانون القيمي فيقع تحت طائلة العقاب والردع المستمر.
3- الإفراط في العقاب
يعتقد بعض الآباء بأن العقاب نوع من الأساليب التربوية المهمة تقتضيها عملية تربية الطفل وتعويده على السلوك السليم وهم في ذلك ينظرون إلى أن العقاب يحقق أكثر من هدف وبأسرع وقت وبأقل جهد والواقع أن العقاب كأسلوب من أساليب التربية تأتي خطورته من ناحيتين مهمتين هما: نوع العقاب ودرجته، فأما نوعه فإن كثيراً من الآباء يتجهون في أساليب عقاب الطفل إلى العقاب البدني القاسي كوسيلة قمعية تحول دون تكرار خطأ ما، بينما يميل بعضهم الآخر إلى العقاب النفسي الذي يقوم على حرمان الطفل من رغباته الملحة وتكبيل حريته برادع الخوف والقهر النفسي، ولابد من تحذير الآباء الذين يجمعون بين العقابين: البدني والنفسي، وأما من حيث درجة العقاب فإن بعض الآباء قد يفرط فيه ويصل في إفراطه إلى درجة قاسية جداً، إن العقاب غير العادل يعدُّ عاملاً مهماً في انحراف الأطفال وجنوحهم ويدفعهم باتجاه تعودهم على المماطلة والكذب كوسيلة يدرأ بها قسوة العقاب، فضلاً عن شعوره بمنح حضوره العائلي وسعيه إلى خلق كيان بديل له وغالباً ما يكون ذلك الكيان عدوانياً متمردا.
4-النبذ والإهمال
إن إهمال أحد الوالدين أو كليهما للطفل يمثل مظهراً من مظاهر أساليب التربية الخاطئة ويستفحل هذا الشعور لدى الطفل عند إحساسه بأنه منبوذ أو غير مرغوب فيه وعليه يزداد الاضطراب النفسي للطفل كلما زاد هذا السلوك أو تكرر ولاسيما في المراحل الأولى من عمره، والمعروف أن اعتماد الطفل في مراحله المتقدمة من عمره يكون على والديه إذ منهما يستمد العطف والحنان والحماية والتأييد، واستجابة الطفل لهذا السلوك الخاطئ تأخذ أشكالاً عدة يبتكرها الطفل كي يستثير عطف أمه أو حنان أبيه، فيلجأ إلى سرقة شيء مهم من متعلقاتهما كمحاولة لتعويض ما فقده من حب وحنان، وكثيراً ما يلجأ الطفل إلى ألوان مختلفة من السلوك يهدف منها توجيه نظر والديه إلى حاجاته المختلفة وقد تستفحل هذه الألوان السلوكية وتتحول إلى وسائل انتقامية موجّهة للوالدين، تعويضاً منه عن تقصيرهما في التمادي في إهماله فيلجأ إلى تخريب وإتلاف أدوات المنزل أو السرقة أو الهرب من البيت والاختفاء عن الأنظار، وأخطر آثار هذا اللون من السلوك هو ما يتمثل في قيام هؤلاء الأطفال بألوان السلوك التي تنم عن حقدهم على مجتمعهم، نتيجة استغراقهم في هذا النوع من السلوك الذي يؤدي بهم في النهاية إلى هاوية التمرد والحقد والجنوح.
5-الصرامة والجفاء
يتصف بعض الآباء بالصرامة البالغة والجفاء المقيت في تعاملهم اليومي تحت سقف البيت العائلي حيث تأخذ هذه الصرامة وهذا الجفاء مظاهر مختلفة منها الشدة المتناهية، والأوامر الصارمة، والمعارضة غير الواعية لرغبات الطفل، وكبت حريته وتحديد سلوكه على وفق ما يحبه الأب وما يكرهه، وخوفاً من مشاعر الغضب وعواقبه يتقمص الطفل الطاعة العمياء وهو يشعر بأن إرادته قد سلبت فيتنامى لديه الشعور بالانفجار والتحدي، إذ يأخذ هذا الشعور أنماطاً سلوكية مختلفة كالكره وتجنب المواجهة مع الأب والتمرد المستمر عند غياب الأب، ويدعي كثير من الآباء أنهم يقومون بما هو صالح لبناء شخصية أبنائهم المستقبلية متناسين أن التزمت والصرامة أساليب تربوية خاطئة تتقاطع مع إرادة الطفل ورغباته الخاصة، فضلاً عن أن هذه الأساليب التربوية الخاطئة تحجب عنه فسحة الوداعة وروح المرح والغبطة والتفاؤل.