زهرة الشمال
03-17-2011, 07:41 PM
التفكك الأسري
د. أمينة الجابر
من الحقائق التي لا خلاف عليها بين علماء الاجتماع والتربية والفكر الإسلامي أن الأسرة عماد المجتمع، وقاعدة الحياة الإنسانية، وأنها إذا أسست على دعائم راسخة من الدين والخلق والترابط الحميم، فإنها تكون لبنة قوية في بنيان الأمة، أو خلية حية في جسم المجتمع، ومن ثم كان صلاح الأسرة هو السبيل لصلاح الأمة، وكان فسادها أو انحلالها مناط فساد المجتمع أو انهياره.
ولأهمية الأسرة البالغة كان الاهتمام الكبير الذي أولته التشريعات الإلهية والقوانين الوضعية لها، خاصة الشريعة الإسلامية التي بعث بها خاتم النبيين محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام للناس كافة . . فقد قرر الإسلام المبادئ والقواعد التي تؤسس عليها الأسرة، والتي تكفل لها حياة فاضلة تقوم على معاني المودة والرحمة والسكن والوئام والسلام، قال الله تعالى: (ومن ءايته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوآ إليها وجعل بينكم مودة ورحمةً إن في ذلك لأيتٍ لقوم يتفكرون ) (الروم:21).
وظلت الأسرة المسلمة عبر مراحل التاريخ الإسلامي تتمتع بقسط وافر من القيم الإسلامية، قيم الترابط والتراحم والتعاطف والتآلف والتكافل، وقيم الإحسان والتعاون على البر والتقوى، قيم احترام الكبير والعطف على الصغير، قيم الإيثار والمحبة والكلمة الطيبة، وصلة الرحم، ومن ثم كان لها دورها الفاعل في حياة الأمة والمجتمع وقوتها ونهضتها . . وكان لها القيادة والريادة والسبق الحضاري الذي أنار للغرب طريق العلم والتقدم.
وفي العصر الحديث هبت على الأسرة رياح التغريب، وساعد على ذلك تخلف العالم الإسلامي وخضوعه للاحتلال الغربي، ولم يكن هذا الاحتلال غزواً للأرض وانتهاباً للثروة، وامتهاناً للكرامة فحسب، وإنما كان إضافة إلى هذا غزواً للعقول والموروثات والتقاليد والأعراف، وسلباً للشخصية المسلمة، مما زحزح الأسرة عن خصائصها وقيمها . . ففقدت ريادتها للمجتمع، فلم تعد كما كانت تجمع بين أفرادها قيم الترابط والتراحم.
ومن هنا . . ظهرت مشكلة التفكك الأسري، التي باتت تنذر بشر مستطير إذا لم يسع أهل الفكر والذكر والعقلاء إلى وضع الحلول العملية لها، حتى تجتاز الأسرة المسلمة مرحلة التذبذب والحيرة بين القيم الإسلامية والقيم الوافدة بما تمثله من أعراف ومفاهيم غريبة تنأى بهذه الأسرة عن هويتها وأصالتها.
ونظراً لأن ظاهرة التفكك الأسري لها أبعادها المختلفة، ولأنه لا مجال لدراسة كل هذه الأبعاد، أقصر حديثي عن هذه الظاهرة فيما يلي:
أولاً: المنهج الإسلامي للحفاظ على الأسرة وعلاج مشكلاتها.
ثانياً: أسباب التفكك الأسري
ثالثاً: آثار التفكك الأسري.
أولاً: المنهج الإسلامي للحفاظ على الأسرة وعلاج مشكلاتها:
يتركب هذا المنهج من عدة دعائم، أهمها:
* الرغبة المتبادلة والاختيار المطلق والرضا الكامل، فالحياة الزوجية ينبغي أن تتحقق لها هذه الدعامة حتى يمكن أن تكون حياة مستقرة، يأنس كل طرف فيها إلى شريك حياته ورفيق عمره، ولهذا لا يجوز أن تزوج امرأة بغير رضاها، ولا يكره رجل إلى العيش مع امرأة ينفر منها ولا يميل إليها، وفي هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، وإذنها الصُمُوت ))(1).
ويؤكد ابن القيم ((المتوفى سنة 751هـ )) حق المرأة في الموافقة والرضا بقوله: ((إن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها في أقل شيء من ملكها إلا برضاها، ولا يجبرها على إخراج اليسير منه، فكيف يجوز له أن يتصرف فيها هي بدون رضاها، ومعلوم أن إخراج مالها بغير رضاها أسهل عليه من تزويجها بمن لا تريد؟! ))(2).
وإذا كان الرضا والرغبة المتبادلة في حياة زوجية أمراً مشروعاً فإن الرؤية مشروعة أيضاً ليكون هذا الرضا جدياً ومنبثقاً من شعور ورغبة وقائماً على حقيقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما ))(3)، أي فإنه أدعى إلى أن يبارك بينكما، فتجتمعا على وفاق وخير، وتتعاونا على ما فيه صلاح أمركما ومستقبلكما.
ولحرص الإسلام على أن تؤسس الأسرة على دعامة راسخة من الرغبة الصادقة كانت الخطبة مرحلة تمهيدية تسبق عقد الزواج، بحيث إذا آنس كل من الرجل والمرأة في هذه المرحلة من نفسه الاطمئنان إلى من يقترن به، قام عقد الزواج على دعامة متينة ترجى معها العشرة الحسنة، والحياة الزوجية الآمنة المطمئنة.
* القيم الثابتة عماد الاختيار:
يحض المنهج الإسلامي في اختيار شريك العمر على أن يكون عماد هذا الاختيار القيم الثابتة وعدم الاغترار بالقيم الزائلة، ولذلك كان الدين والخلق الطيب دعامة أساس في هذا المنهج، وكان ما سوى هذه الدعامة كالجمال والمال والحسب مساعداً له بعد توافر عنصر الدين والخلق . . فهذا العنصر هو الذي يحمي الحياة الزوجية من بوادر النشوز والإعراض، ولـه دوره الفاعل في التغلب على ما قد يعترض الأسرة من مشكلات تهدد أمنها واستقرارها، فضلاً عن أنه يهيئ الجو الصالح لتربية الأبناء تربية سليمة.
والآثار كثيرة في الحض على أن يكون الاختيار في الزواج مناطه الاعتصام بحبل الله . . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك )) (1) وقال: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض )) (2).
وقد حذر الرسول عليه الصلاة والسلام من الزواج من المرأة الحسناء التي لا تتمتع بالدين والخلق العظيم، لأنها نشأت في بيئة فاسدة، قال: ((إياكم وخضراء الدمن، قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء )) (3).
ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض ما يروى عنه أن الاهتمام بأعراض الحياة الدنيا في الزواج مجلبة للشقاء والتعاسة، فقد قال صلى الله عليه وسلم ((لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماء سوداء ذات دين أفضل )) (4).
ولا يعني دعوة الإسلام إلى أن يكون الدين والخلق قوام الحياة الزوجية أنه ينبذ المال والجمال وما إليهما، ,وإنما يعني أن يكون الدين والخلق الشرط الأساس لقيم علاقة مقدسة وميثاق غليظ . . المهم إسلامياً أن يتمتع الرجل والمرأة بالدين والخلق.
* مراعاة الكفاءة بين الزوجين:
ويقتضي الحديث عن حسن الاختيار وما يجب أن يتمتع به كل من الزوجين من الدين والخلق، والإشارة إلى موضوع الكفاءة، فلهذا الموضوع صلة وثيقة بحسن الاختيار وآثاره في منهج الإسلام في حماية الأسرة.
والكفاءة(1) يراد بها أن يكون بين الزوجين قدر من التقارب في أمور مخصوصة يعتبر الإخلاء بها مفسداً للحياة الزوجية.
ومع اختلاف آراء الفقهاء في الأمور المخصوصة التي ينبغي أن يكون بين الزوجين تقارب فيها وليس المساواة الكاملة، فإنهم متفقون على أن الدين والخلق والصلاح والتقوى أساس الكفاءة بين الزوجين، وأن ما سوى هذا من الحرفة والمال والحسب لا يراد بها التفريق بين الناس والحكم عليهم بأنه طبقات اجتماعية لكل منها منزلتها الخاصة، وإنما يراد بها أن يكون بين الزوجين قد من التقارب في المستوى الاجتماعي والمبادئ، فذلك أنفى للشقاق، وأدعى للوفاق والوئام، وأجدر أن يجعل من الزواج خير علاقة توثق عرى المصاهرة، وتوسع دائرة الأسرة .. فالعلاقة الزوجية ليست مجرد علاقة بين فردين، ولكنها مع هذا علاقة بين أسرتين.
فالفقهاء فيما صدر عنهم من آراء في موضوع الكفاءة والمعاني المعتبرة فيها لم يكونوا في غفلة عن أن الإسلام دين الأخوة والمساواة، وأن التفاضل بين الناس في هذا الدين مناطه تقوى الله عز وجل، ولكنهم توخوا مصلحة الأسرة وصلة المصاهرة، وراعوا مشاعر المرأة إذا ما تزوجت من دونها منزلة. فهي وإن رضيت به لا تسلم من نظرات النقد والتعيير، حتى ممن رضيت به زوجاً، فتضيق بحياتها مع هذا الزوج، وتبدأ مرحلة النفور منه وعدم النزول على مقتضى قوامته وسلطانه، وقد يستغل قوامته استغلالاً مسيئاً لها، فتضطرب الحياة الزوجية، ويسودها التفكك والشقاق، ويكون التفريق.
على أن الكفاءة ليست من شروط صحة العقد، وإنما هي شرط لزوم، فالعقد بدونها يقع صحيحاً نافذاً، ولكنه قابل للفسخ، إذ يجوز لولي الأمر أن يرفع الأمر إلى القاضي ليفسخ العقد لعدم الكفاءة، والقاضي يجيبه إلى طلبه بشرط ألا تكون المرأة قد حملت أو ولدت، محافظة على الولد.
* قيام عقد الزواج على التأبيد:
يمتاز عقد الزواج في الإسلام على سواه من العقود بأن موضوعه الإنسان، أكرم المخلوقات، ومن ثم كان هذا العقد من أهم العقود وأكرمها، ويتجلى ذلك في قيامه على التأبيد والدوام، فلا يعرف التأقيت أو التحديد، وهو أمر يتلاءم مع وظيفة الأسرة في المجتمع ورسالتها المقدسة في الحياة.
ولا تناقض بين جواز التفريق بين الزوجين في الإسلام مع قيام عقد الزوجية على الدوام، لأن الإسلام يريد لهذا العقد أن يكون تعبيراً عن علاقة زوجية تفيض بمعاني الاستقرار والسكن والمودة والرحمة، فإذا اضطرب جو الأسرة وساءت العلاقة بين الزوجين إساءة بالغة، وباءت كل محاولات الإصلاح والتوافيق بالبوار، فإن الإسلام يبيح انفصام هذا العقد تحت ضغط الضرورة الملجئة، لأن هذا خير من استمرار علاقة زوجية لا تعرف غير الشقاق والصراع، ولهذا كان الرأي الراجح أن الأصل في تشريع الطلاق هو الحظر وإنما يلجأ إليه عند الاضطرار والضرورة.
إن قيام عقد الزواج على التأبيد، وأن انحلاله لا يكون إلا بوفاة أحد الزوجين أو كليهما، يؤمئ إلى مسؤولية كل من الرجل والمرأة عن حماية هذا العقد، وتجنب كل ما يؤثر على رابطة العلاقة الزوجية، ومقاومة مشاعر الكراهية والنفور، قال تعالى: (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل اللهُ فيه خيراً كثيراً )
(النساء: 19).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يفرك ـ أي لا يبغض ـ مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر ))(1).
فإذا وقع خلاف بين الزوجين فإن الإسلام يحثهما على الاستقلال بإصلاح ما شجر بينهما من خلاف إن استطاعا، قال سبحانه: (وإن امرأةٌ خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلحُ خيرٌ ) (النساء: 128)، فإن عجزا بعث ولي الأمر من أهلها من يصلح بينهما، قال الله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلهآ إن يريدآ إصلحاً يوفق الله بينهمآ ) (النساء: 35).
فإن لم يجد كل ذلك في إصلاح ذات بينهما فقد تبين أنه لا مصلحة لأسرة ولا للأمة في هذا الارتباط، ومن ثم شرع الله الطلاق في أضيق الحدود دفعاً للمضار التي تنشأ من اجتماع الزوجين على بغض وكراهية.
وبهذا يتضح أن جواز الطلاق عند الضرورة لا يتعارض مع دعامة قيام الأسرة على الدوام.
د. أمينة الجابر
من الحقائق التي لا خلاف عليها بين علماء الاجتماع والتربية والفكر الإسلامي أن الأسرة عماد المجتمع، وقاعدة الحياة الإنسانية، وأنها إذا أسست على دعائم راسخة من الدين والخلق والترابط الحميم، فإنها تكون لبنة قوية في بنيان الأمة، أو خلية حية في جسم المجتمع، ومن ثم كان صلاح الأسرة هو السبيل لصلاح الأمة، وكان فسادها أو انحلالها مناط فساد المجتمع أو انهياره.
ولأهمية الأسرة البالغة كان الاهتمام الكبير الذي أولته التشريعات الإلهية والقوانين الوضعية لها، خاصة الشريعة الإسلامية التي بعث بها خاتم النبيين محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام للناس كافة . . فقد قرر الإسلام المبادئ والقواعد التي تؤسس عليها الأسرة، والتي تكفل لها حياة فاضلة تقوم على معاني المودة والرحمة والسكن والوئام والسلام، قال الله تعالى: (ومن ءايته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوآ إليها وجعل بينكم مودة ورحمةً إن في ذلك لأيتٍ لقوم يتفكرون ) (الروم:21).
وظلت الأسرة المسلمة عبر مراحل التاريخ الإسلامي تتمتع بقسط وافر من القيم الإسلامية، قيم الترابط والتراحم والتعاطف والتآلف والتكافل، وقيم الإحسان والتعاون على البر والتقوى، قيم احترام الكبير والعطف على الصغير، قيم الإيثار والمحبة والكلمة الطيبة، وصلة الرحم، ومن ثم كان لها دورها الفاعل في حياة الأمة والمجتمع وقوتها ونهضتها . . وكان لها القيادة والريادة والسبق الحضاري الذي أنار للغرب طريق العلم والتقدم.
وفي العصر الحديث هبت على الأسرة رياح التغريب، وساعد على ذلك تخلف العالم الإسلامي وخضوعه للاحتلال الغربي، ولم يكن هذا الاحتلال غزواً للأرض وانتهاباً للثروة، وامتهاناً للكرامة فحسب، وإنما كان إضافة إلى هذا غزواً للعقول والموروثات والتقاليد والأعراف، وسلباً للشخصية المسلمة، مما زحزح الأسرة عن خصائصها وقيمها . . ففقدت ريادتها للمجتمع، فلم تعد كما كانت تجمع بين أفرادها قيم الترابط والتراحم.
ومن هنا . . ظهرت مشكلة التفكك الأسري، التي باتت تنذر بشر مستطير إذا لم يسع أهل الفكر والذكر والعقلاء إلى وضع الحلول العملية لها، حتى تجتاز الأسرة المسلمة مرحلة التذبذب والحيرة بين القيم الإسلامية والقيم الوافدة بما تمثله من أعراف ومفاهيم غريبة تنأى بهذه الأسرة عن هويتها وأصالتها.
ونظراً لأن ظاهرة التفكك الأسري لها أبعادها المختلفة، ولأنه لا مجال لدراسة كل هذه الأبعاد، أقصر حديثي عن هذه الظاهرة فيما يلي:
أولاً: المنهج الإسلامي للحفاظ على الأسرة وعلاج مشكلاتها.
ثانياً: أسباب التفكك الأسري
ثالثاً: آثار التفكك الأسري.
أولاً: المنهج الإسلامي للحفاظ على الأسرة وعلاج مشكلاتها:
يتركب هذا المنهج من عدة دعائم، أهمها:
* الرغبة المتبادلة والاختيار المطلق والرضا الكامل، فالحياة الزوجية ينبغي أن تتحقق لها هذه الدعامة حتى يمكن أن تكون حياة مستقرة، يأنس كل طرف فيها إلى شريك حياته ورفيق عمره، ولهذا لا يجوز أن تزوج امرأة بغير رضاها، ولا يكره رجل إلى العيش مع امرأة ينفر منها ولا يميل إليها، وفي هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، وإذنها الصُمُوت ))(1).
ويؤكد ابن القيم ((المتوفى سنة 751هـ )) حق المرأة في الموافقة والرضا بقوله: ((إن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها في أقل شيء من ملكها إلا برضاها، ولا يجبرها على إخراج اليسير منه، فكيف يجوز له أن يتصرف فيها هي بدون رضاها، ومعلوم أن إخراج مالها بغير رضاها أسهل عليه من تزويجها بمن لا تريد؟! ))(2).
وإذا كان الرضا والرغبة المتبادلة في حياة زوجية أمراً مشروعاً فإن الرؤية مشروعة أيضاً ليكون هذا الرضا جدياً ومنبثقاً من شعور ورغبة وقائماً على حقيقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما ))(3)، أي فإنه أدعى إلى أن يبارك بينكما، فتجتمعا على وفاق وخير، وتتعاونا على ما فيه صلاح أمركما ومستقبلكما.
ولحرص الإسلام على أن تؤسس الأسرة على دعامة راسخة من الرغبة الصادقة كانت الخطبة مرحلة تمهيدية تسبق عقد الزواج، بحيث إذا آنس كل من الرجل والمرأة في هذه المرحلة من نفسه الاطمئنان إلى من يقترن به، قام عقد الزواج على دعامة متينة ترجى معها العشرة الحسنة، والحياة الزوجية الآمنة المطمئنة.
* القيم الثابتة عماد الاختيار:
يحض المنهج الإسلامي في اختيار شريك العمر على أن يكون عماد هذا الاختيار القيم الثابتة وعدم الاغترار بالقيم الزائلة، ولذلك كان الدين والخلق الطيب دعامة أساس في هذا المنهج، وكان ما سوى هذه الدعامة كالجمال والمال والحسب مساعداً له بعد توافر عنصر الدين والخلق . . فهذا العنصر هو الذي يحمي الحياة الزوجية من بوادر النشوز والإعراض، ولـه دوره الفاعل في التغلب على ما قد يعترض الأسرة من مشكلات تهدد أمنها واستقرارها، فضلاً عن أنه يهيئ الجو الصالح لتربية الأبناء تربية سليمة.
والآثار كثيرة في الحض على أن يكون الاختيار في الزواج مناطه الاعتصام بحبل الله . . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك )) (1) وقال: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض )) (2).
وقد حذر الرسول عليه الصلاة والسلام من الزواج من المرأة الحسناء التي لا تتمتع بالدين والخلق العظيم، لأنها نشأت في بيئة فاسدة، قال: ((إياكم وخضراء الدمن، قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء )) (3).
ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض ما يروى عنه أن الاهتمام بأعراض الحياة الدنيا في الزواج مجلبة للشقاء والتعاسة، فقد قال صلى الله عليه وسلم ((لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماء سوداء ذات دين أفضل )) (4).
ولا يعني دعوة الإسلام إلى أن يكون الدين والخلق قوام الحياة الزوجية أنه ينبذ المال والجمال وما إليهما، ,وإنما يعني أن يكون الدين والخلق الشرط الأساس لقيم علاقة مقدسة وميثاق غليظ . . المهم إسلامياً أن يتمتع الرجل والمرأة بالدين والخلق.
* مراعاة الكفاءة بين الزوجين:
ويقتضي الحديث عن حسن الاختيار وما يجب أن يتمتع به كل من الزوجين من الدين والخلق، والإشارة إلى موضوع الكفاءة، فلهذا الموضوع صلة وثيقة بحسن الاختيار وآثاره في منهج الإسلام في حماية الأسرة.
والكفاءة(1) يراد بها أن يكون بين الزوجين قدر من التقارب في أمور مخصوصة يعتبر الإخلاء بها مفسداً للحياة الزوجية.
ومع اختلاف آراء الفقهاء في الأمور المخصوصة التي ينبغي أن يكون بين الزوجين تقارب فيها وليس المساواة الكاملة، فإنهم متفقون على أن الدين والخلق والصلاح والتقوى أساس الكفاءة بين الزوجين، وأن ما سوى هذا من الحرفة والمال والحسب لا يراد بها التفريق بين الناس والحكم عليهم بأنه طبقات اجتماعية لكل منها منزلتها الخاصة، وإنما يراد بها أن يكون بين الزوجين قد من التقارب في المستوى الاجتماعي والمبادئ، فذلك أنفى للشقاق، وأدعى للوفاق والوئام، وأجدر أن يجعل من الزواج خير علاقة توثق عرى المصاهرة، وتوسع دائرة الأسرة .. فالعلاقة الزوجية ليست مجرد علاقة بين فردين، ولكنها مع هذا علاقة بين أسرتين.
فالفقهاء فيما صدر عنهم من آراء في موضوع الكفاءة والمعاني المعتبرة فيها لم يكونوا في غفلة عن أن الإسلام دين الأخوة والمساواة، وأن التفاضل بين الناس في هذا الدين مناطه تقوى الله عز وجل، ولكنهم توخوا مصلحة الأسرة وصلة المصاهرة، وراعوا مشاعر المرأة إذا ما تزوجت من دونها منزلة. فهي وإن رضيت به لا تسلم من نظرات النقد والتعيير، حتى ممن رضيت به زوجاً، فتضيق بحياتها مع هذا الزوج، وتبدأ مرحلة النفور منه وعدم النزول على مقتضى قوامته وسلطانه، وقد يستغل قوامته استغلالاً مسيئاً لها، فتضطرب الحياة الزوجية، ويسودها التفكك والشقاق، ويكون التفريق.
على أن الكفاءة ليست من شروط صحة العقد، وإنما هي شرط لزوم، فالعقد بدونها يقع صحيحاً نافذاً، ولكنه قابل للفسخ، إذ يجوز لولي الأمر أن يرفع الأمر إلى القاضي ليفسخ العقد لعدم الكفاءة، والقاضي يجيبه إلى طلبه بشرط ألا تكون المرأة قد حملت أو ولدت، محافظة على الولد.
* قيام عقد الزواج على التأبيد:
يمتاز عقد الزواج في الإسلام على سواه من العقود بأن موضوعه الإنسان، أكرم المخلوقات، ومن ثم كان هذا العقد من أهم العقود وأكرمها، ويتجلى ذلك في قيامه على التأبيد والدوام، فلا يعرف التأقيت أو التحديد، وهو أمر يتلاءم مع وظيفة الأسرة في المجتمع ورسالتها المقدسة في الحياة.
ولا تناقض بين جواز التفريق بين الزوجين في الإسلام مع قيام عقد الزوجية على الدوام، لأن الإسلام يريد لهذا العقد أن يكون تعبيراً عن علاقة زوجية تفيض بمعاني الاستقرار والسكن والمودة والرحمة، فإذا اضطرب جو الأسرة وساءت العلاقة بين الزوجين إساءة بالغة، وباءت كل محاولات الإصلاح والتوافيق بالبوار، فإن الإسلام يبيح انفصام هذا العقد تحت ضغط الضرورة الملجئة، لأن هذا خير من استمرار علاقة زوجية لا تعرف غير الشقاق والصراع، ولهذا كان الرأي الراجح أن الأصل في تشريع الطلاق هو الحظر وإنما يلجأ إليه عند الاضطرار والضرورة.
إن قيام عقد الزواج على التأبيد، وأن انحلاله لا يكون إلا بوفاة أحد الزوجين أو كليهما، يؤمئ إلى مسؤولية كل من الرجل والمرأة عن حماية هذا العقد، وتجنب كل ما يؤثر على رابطة العلاقة الزوجية، ومقاومة مشاعر الكراهية والنفور، قال تعالى: (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل اللهُ فيه خيراً كثيراً )
(النساء: 19).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يفرك ـ أي لا يبغض ـ مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر ))(1).
فإذا وقع خلاف بين الزوجين فإن الإسلام يحثهما على الاستقلال بإصلاح ما شجر بينهما من خلاف إن استطاعا، قال سبحانه: (وإن امرأةٌ خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلحُ خيرٌ ) (النساء: 128)، فإن عجزا بعث ولي الأمر من أهلها من يصلح بينهما، قال الله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلهآ إن يريدآ إصلحاً يوفق الله بينهمآ ) (النساء: 35).
فإن لم يجد كل ذلك في إصلاح ذات بينهما فقد تبين أنه لا مصلحة لأسرة ولا للأمة في هذا الارتباط، ومن ثم شرع الله الطلاق في أضيق الحدود دفعاً للمضار التي تنشأ من اجتماع الزوجين على بغض وكراهية.
وبهذا يتضح أن جواز الطلاق عند الضرورة لا يتعارض مع دعامة قيام الأسرة على الدوام.