زهرة الشمال
02-10-2011, 03:44 PM
التفكك الأسري الأسباب والعواقب والحلول
عبد المجيد بن مسعود
تمهيد:
سأحاول - مستعينًا بالله عز وجل - في هذا البحث المتواضع، أن أقف على ظاهرة التفكك الأسري، التي تتصدع لها بنى المجتمعات المعاصرة، التي باتت تجأر من هولها، وتتأذى من آثارها الممضة، وعواقبها الوخيمة. وسأعمل جهد المستطاع، في حدود المساحة المتاحة، أن استجلي أهم الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة المؤرقة، وما ينجم عنها من عواقب وآثار، وما يمكن أن يتصور لها من صيغ التجاوز والعلاج.
وأشير قبل ذلك إلى أن معالجة الموضوع ستأخذ بعين الاعتبار طبيعة العالم المعاصر، المتميزة بعبور وتلاطم التيارات الثقافية والفكرية، مصحوبة بنماذجها السلوكية، في سياق تنافس محموم، بل - وبتعبير أدق - في ظل محاولات شرسة لتنميط المجتمعات، ضمن ما أطلق عليه «العولمة»، في قالب ثقافي موحد يحمل طابع المدنية الغربية الغالبة في الوقت الراهن، ذلك أن واقع الأمور ينطق بشكل سافر بكون التغييرات التي تطرأ على بنية المجتمعات، ومن ثم على الأسرة التي تقع منها موقع القلب النابض والنواة الصلبة، من حيث ما هو مفروض، قد أصابت الأسرة في مقاتلها بما أحدثته في كيانها من خلخلة وتفكيك. فما هو المقصود بالتفكك الأسري؟
أولاً: تحديد المفاهيم
يقتضي الجواب على هذا السؤال بشكل موضوعي، تحديد جملة من المفاهيم من قبيل: مفهوم الأسرة، ومفهوم الزواج، الذي هو المدخل الطبيعي والشرعي إلى عالم الأسرة.
أ- مفهوم الزواج الاصطلاحي:
عرفته مدونة الأحوال الشخصية بأنه: «ميثاق ترابط وتماسك شرعي بين رجل وامرأة على وجه البقاء، غايته الإحصان والعفاف مع تكثير سواد الأمة بإنشاء أسرة تحت رعاية الزوج على أسس مستقرة، تكفل للمتعاقدين تحمل أعبائهما في طمأنينة وسلام وود واحترام»(1).
ب- مفهوم الأسرة:
يعرفها ابن منظور بقوله: «إنها الدرع الحصينة التي يحتمي بها الإنسان عند الحاجة ويتقوى بها»(1).
يتبين من خلال تعريف كل من الزواج والأسرة، أن هناك علاقة وطيدة فيما بينهما، بحيث لا تتحقق صفة الدرعية المذكورة في تعريف ابن منظور، إلا إذا توفرت الأركان وتـحققت المقاصد.. فالأسرة لن تكون درعًا إلا إذا تأسست على ميثاق بين الزوجين(2)، وهي إشارة إلى «الـميثاق الغليظ» الذي ورد في القرآن الكريم(3)، ولن يكون كذلك إلا إذا كان بنية التأبيد ونشدان الإحصان والعفاف، وحفظ النوع المتميز بالرسالية، وحفظ الأمانة، والخضوع لمقتضيات العقد وما يتطلبه من ضوابط تنظيمية كالقوامة، ومعنوية كالود والاحترام والسلام. وهذه الصفات والمقومات والأركان إن هي إلا تجسيد اختزالي لروح التوجيه القرآني المستفيض الذي ورد بخصوص هذا الموضوع(1)وما ورد في شأن بيانه من سنة نبوية شريفة تزخر بها كتب الحديث.
ولقد حرص الإسلام على توفير كل العوامل والشروط التي تؤمن المقاصد المتوخاة من إقامة مؤسسة الأسرة، بدءًا من حسن اختيار الزوج وما يستلزمه ذلك من تجنب فرض أي شكل من أشكال الحجر والإكراه(2)، مرورًا بوضع نسق متكامل من القيم والآداب والضوابط يلتزم به الزوجان، لينعم عش الزوجية في ظله بحكمة التدبير وحسن المعاشرة وعمق التفاهم، ونعمة الطمأنينة والأمان، كما يلتزم بها الأبناء الذين هم ثمرة هذا الزواج(3)، من أجل أن تتفتح أكمام الأسرة عن ثمار يانعة طيبة، وتؤدي رسالتها كاملة في تثبيت دعائم المجتمع، ومده بطاقات هائلة وقدرة موصولة على التجدد والنماء.
وجدير بالذكر هنا، أن الالتزام بالقيم والآداب والضوابط المذكورة، هو التزام طوعي، يتأسس على تشرب تربوي، يحوله إلى هيئة راسخة في السلوك، يندرج معه في مسمى العبادة، عبادة الله عز وجل وابتغاء وجهه ونيل رضاه.
ومما يميز منهج بناء الأسرة في الإسلام - حتى ينعم بالتماسك والبقاء - قيامه على الجمع في أسس ذلك البناء بين ما هو ذو صبغة عقدية روحية تتمثل في الاستجابة للنداء الرباني الداعي إلى عبادة الله العزيز الـجبار من خلال القيام بوظيفة الاستخلاف، وبين ما هو ذو صبغة وجدانية عاطفية تتمثل في إشباع أعمق حاجات الكيان الإنساني وأشواقه، يضاف إلى ذلك عامل الإشباع المادي المتمثل في إيتاء ذي القربى والوفاء بالحقوق المادية للأزواج والآباء والأبناء(1).
وفي هذا التلاحم العجيب بين الإشباع المادي والإشباع الروحي المعنوي، والتدبير التنظيمي، ما فيه من تعبير عميق عن واقعية الإسلام، وقدرة فائقة على تأمين قدر عال من التماسك والاستقرار والقوة والمنعة للكيان الأسري.
جـ- مفهوم التفكك الأسري:
إذا كان تماسك الأسرة يقاس بمدى نجاحها في أداء وظائفها، والوفاء بما هو منوط بها من اختصاصات، فإن تفككها يقاس بمدى ما تفقده أو تتخلى عنه من تلك الوظائف والاختصاصات.. وبناء على هذا المقياس الذي يكتسي في اعتقادي قدرًا مهمًا من الدقة والموضوعية، يمكن الحديث عن مستويات أو أنواع من التفكك الأسري تصنف درجتها في المقياس المذكور.
ومن ثم فلا مناص من إبراز الوظائف التي نيطت بها الأسرة حتى يكتسي حكمنا على الواقع الأسري بالتفكك أو بغير ه، طابعًا من الموضوعية والمصداقية. فما هي يا ترى وظائف الأسرة؟
بالرجوع إلى تعريف الزواج السالف الذكر، يتبين لنا أنه يحتوي على إبراز بعض تلك الوظائف.
فهناك وظيفة الإحصان والعفاف، التي تجسد حفظ كلية من الكليات الخمس، هي كلية العرض، وهي تؤدي في ذات الوقت وظيفة نفسية بما تشيعه العلاقة الزوجية في كيان الزوجية من شعور بالأمان والسكن والاستقرار. يقول الله سبحانه وتعالى: { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } (الروم:21).
أما الوظيفة الثانية المستقاة من التعريف، فهي الوظيفة التكاثرية، المعبر عنها بتكثير سواد الأمة(1)، وهي ذات صلة وثيقة بكلية أخرى من الكليات الخمس، إنها كلية حفظ النسل أو النوع.
وهناك وظيفة ثالثة تضمنها تعريف ابن منظور للأسرة، هي وظيفة تحقيق الأمن وإشباع الحاجة إلى الانتماء لدى أفراد الأسرة، على اختلاف مواقعهم، ولن يجد هذا الشعور عمقه وأبعاده الحقة إلا في ظل مناخ أسري يستبطن روح القيم والآداب والأحكام التي ارتضاها الإسلام سياجًا منيعًا يتحرك عبر مجاله أعضاء الأسرة؛ ويمارسون أدوارهم، بحسب ما هم مؤهلون وميسرون له.
والوظيفة الرابعة هي وظيفة التنشئة الاجتماعية، المتمثلة في تشكيل شخصيات الأولاد طبقًا للنموذج الثقافي الذي يتطابق مع ميراث الأمة الحضاري، ويعكس مطامحها في معترك التدافع من أجل إثبات الذات وتأصيل الوجود. وحتى نرتقي من التعميم إلى التدقيق في سياق المفهوم الإسلامي، نقول: بأن هذه الوظيفة الرابعة تتمثل في حماية الفطرة والحفاظ على كنوزها وإخراج مكنوناتها، وذلك من خلال تأمين البيئة السليمة التي تسمح بذلك. ويعكس هذه الحقيقة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء»(1).
عود على بدء: بعد هذا البيان الموجز لوظائف الأسرة نعود لنتساءل عن أنواع التفكك الأسري.. فما هي أنواع التفكك الأسري؟
د- أنواع التفكك الأسري:
لقد سبق القول: بأنه يمكننا التمييز في ظاهرة التفكك الأسري بين مستويات على سلم متعدد الدرجات.. وفي ضوء هذه الحقيقة يـمكننا أن نـتحدث عـن درجـات دنيا من التفكك لا يتعثر معها سير الأسرة، كأن تفـتر عاطـفة التواد بين قطبيها: الأب والأم، لأسباب عارضة، قد تكون ذات صبغة مادية ترتبط بحاجات بيولوجية أو غيرها، وقد تكون ذات صبغة معنوية فكرية، كأن ينشأ نزاع أو اختلاف حول شأن من شؤون الأسرة، ينجم عنه هزة خفيفة تلبد سماء عالم الأسرة لفترة من الزمن، مما يخلف بعض الرضوض على جسم الأسرة، قابلة للتضميد بواسطة جهد إقناعي يعقب استيقاظًا للوعي بأهمية الحوار كوسيلة ناجعة لفك العقد وحل المشاكل وفض النزاعات، وهذا في حالة الانطلاق من مرجعية واحدة محددة المقاصد والأهداف.
هذا النوع من أنواع التفكك يتميز بالبساطة، رغم إمكانية ترشحه للتفاقم والامتداد، في حالة تدخل عناصر خارجية تسعى لسبب أو آخر إلى إذكاء نار الخلاف بدلاً من العمل على إخمادها، استجابة لنداء الإصلاح.
كما يمكن أن يأخذ التفكك الأسري طابعًا أشد حدة، يتمثل في تمزق أوصال الأسرة وانفراط شملها، ولو في ظل استمرار عقد الزوجية قائمًا، وذلك بفعل التخلي عن واحدة أو أكثر من الوظائف المنوطة بها. فالتفريط في أمر التوجيه التربوي، لابد أن يستتبع جفاء بين أفراد الأسرة، ويجعل منهم جزرًا، وإن كانت متجاورة مكانيًا فهي متباعدة شعوريًا، بسبب التقصير في تعميق المرجعية الواحدة لدى أفراد الأسرة لتوحيد «شاكلتهم الثقافية».
وهذا النوع من أنواع التفكك الأسري يتسع نطاقه إلى حد بعيد، بفعل استقالة الآباء عن القيام بأعباء التنشئة الثقافية، أو بفعل الصدام والتعاند والتشاكس التام في أمر المرجعية المعتمدة لدى الأبوين داخل حمى الأسرة، أو بسبب عوامل شتى، سيأتي بيانها عند التطرق لأسباب التفكك الأسري بنوع من التفصيل.
ويمكن الحديث عن نفس الآثار السلبية في حالة ضمور الشعور بالانتماء لدى أفراد الأسرة، بسبب توقف الأسرة عن توفير الأجواء الباعثة على الأمـن، ســواء عـلى مـستـوى إشـباع الـحاجات الـماديـة أو النفسية.. أو الفكرية والروحية.
أما النوع الثالث: من أنواع التفكك الأسري، فهو ذاك الذي ينقض فيه الميثاق الغليظ وتنفصم عرى الزوجية بفعل الطلاق. فهذا النوع ينطبق عليه مفهوم التفكك بـمستوييه الـمادي والـمعنوي، وهو نتاج لدرجة قصوى من اختلال الوظائف والمهمات المسندة لمؤسسة الأسرة.
هـ- الأسرة بين خطر التفكك وخطر الاندثار:
إن من سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، أن الأمراض الاجتماعية والانحرافات التي تصيب الإنسان في تعامله مع نفسه ومع غيره، ومع المحيط الذي يكتنفه بعامة، لا تقف عند حد معين، ما لم تطوق جراثيمها، ويقطع دابرها من خلال استئصال أسبابها. وهذا هو السر وراء أخذ الإسلام بمبدأ سد الذرائع كمنهج وقائي فريد، يكفل تطبيقه تجنيب المجتمعات الوقوع في الكوارث والأزمات.
وتتمثل حقيقة هذا الكلام، ارتباطًا بالموضوع الذي نحن بصدده، في أن الاختلالات التي تعتري كيان الأسرة، من جراء تخليها عن بعض الوظائف كوظيفة الأمومة ووظيفة القوامة ووظيفة التنشئة والتهذيب وغيرها، يشكل بذورًا لاندثار الأسرة وموتها بشكل تام، ولو بعد حين.
فإذا أخذنا على سبيل المثال مسألة الأمومة، وقمنا بمعاينة الآثار المدمرة الناجمة عن إهمالها وتجفيف منابعها، وقفنا على أن خسائر فادحة قد تكبدتها الإنسانية نتيجة الانجراف وراء أنماط من الممارسات الشاذة عن الفطرة. إن إخراج المرأة إلى عالم الشغل ـ في غير ما ضرورة ـ تحت ذرائع شتى واضحة البطلان، يؤدي حتمًا إلى ضياع الأمومة كحاجة نفسية وبيولوجية ملحة من جهة، وكمقوم أساس لطفولة سوية ومتوازنة من جهة أخرى، وكل ذلك من مظاهر العدوان على الفطرة الذي لا يعدم عقوبته.
إننا نشاطر المفكر المسلم علي عزت بيكوفيتش في ما ذهب إليه من أن «كل درجة تطور في المجتمع يقابلها حيف بالأسرة بنفس النسبة، فإذا ما تم تطبيق المبدأ الاجتماعي بكل نتائجه ـ أي وصل إلى وضع الطوبيا ـ تلاشت الأسرة. إن الأسرة باعتبارها حاضنة العلاقات الرومانسية والشخصية الحميمة في تعارض مع جميع مبادئ الطوبيا»(1).
ويقول بيكوفيتش معبرًا عن نفس الحقيقة - في موضع آخر من الكتاب -: «إن الحضارة لا تقضي على الأسرة فقط من الناحية النظرية، وإنما تفعل ذلك في الواقع أيضًا. فقد كان الرجل أول من هجر الأسرة ثم تبعـته المرأة، وأخيرًا الأطفال. ونستطيع أن نتتبع القضاء على الأسرة في كثير من الجوانب. فعدد حالات الزواج في تقهقر متصل، مع تزايد في حالات الطلاق، وازدياد عدد النساء العاملات، والزيادة في عدد المواليد غير الشرعيين، وازدياد مستمر في عدد الأسر التي تقوم على أحد الوالدين فقط وهي الأم... إلخ»(2).
إن ما عبر عنه المفكر علي عزت بيكوفيتش من حقائق لَيعكسُ بجلاء الوجه المأسوي والبعد التدميري الرهيب للتطور. غير أنه لا بد هاهنا من تعقيب هام لاستكمال صورة الحقيقة، ويتعلق الأمر بالتنصيص على أن التطور الذي تحدث عنه علي عزت بيكوفيتش، والذي ترتب عنه ذلك الانتقال الـمأسوي من الأسـرة إلى اللاأسرة، إنما هو تطور منفلت من أي نسق من الضوابط الكفيلة بتسديد المسار... وهنا لا بد من التمييز بين تطور محكم مسدد بالوحي، وبين تطور أخرق ينساق وراء الغرائز والأهواء. ولربما تعلل بعض المتفائلين بأن هذه التحولات الخطيرة إنما هي مقصورة على المجتمعات الغربية التي ذهبت أشواطًا بعيدة في مضمار التطور، أما المجتمعات المتخلفة تكنولوجيًا فليست معنية بالنتائج الوخيمة لتلك التحولات!
والحق أن مثل هذا الفهم، إن وجد، يغفل طبيعة عالم يعيش في ظل عولمة كاسحة، تتذرع بأقوى الأساليب والتقنيات من أجل تنميط العالم وصبه عنوة في قالب موحد يمثل رؤية الغرب للحياة، مسخرة في ذلك مظلة المنظمات الدولية المنضوية في إطار الأمم المتحدة، ساعية إلى إعطائها طابع الشرعية والإلزامية.
ولقد استطاع الأستاذ المفكر عمر عبيد حسنه أن يجمل أهداف المحاولات الخطيرة والمحمومة، التي يقوم بها الغرب لنسف حصن الأسرة، الذي ما يزال يحتفظ ببعض قدراته على المقاومة والصمود.
يقول: «إن المحاولات اليوم مستمرة لتكسير حواجز الحياة، والقفز فوق الكثير من الضوابط والقيم الدينية الأخرى أيضًا، لينتهوا إلى أن مفهوم الأسرة بالمعنى الذي يشرعه الدين ليس إلا مفهومًا عقيمًا، وقيدًا على الحرية الشخصية، لأنه لا يتقبل العلاقات الجنسية الحرة بين مختلف الأعمار، ويشترط أن تكون بين ذكر وأنثى فقط، وضمن الإطار الشرعي، ولأنه لا يمنح الشواذ حقهم في تكوين أسر بينهم، ويتمسك بالأدوار النمطية للأبوة والأمومة والعلاقات الزوجية ضمن الأسرة، معتبرين أن ذلك مجرد أدوار وأشكال لا تخرج عن كونها مما اعتاد الناس ودرجوا عليه وألفوه، حتى دخل في طور التقاليد المتوارثة»(1).
ثانيًا: أسباب التفكك الأسري
ميزت في هذا المحور بين أسباب أو عوامل ذاتية وأخرى موضوعية. وأقصد بالذاتية ما له صلة بالتشكيل العقلي، وما يرتبط به من ممارسة وسلوك، وبالموضوعية ما له صلة بالأطر الخارجية التي تكتنف الأسرة وتؤثر في مسارها، وطبيعة وظائفها، ونوعية العلاقات فيما بين أعضائها.
أ ـ الأسباب الذاتية:
أبرزت في سياق هذا النوع من الأسباب ما له علاقة بالبعد التصوري، والبعد المعرفي، والبعد السلوكي.
1- البعد التصوري: يحتل هذا البعد مركز الصدارة، من حيث التحكم والتأثير في بناء الأسرة ونسيج علاقاتها وطبيعة سيرها، فهو يتعلق بالجهاز المفاهيمي التصوري، أو ما يسمى بالإطار المرجعي، الذي تحدد في ضوئه المواقف وأنماط السلوك الصادر من كلا الزوجين على حد سواء. فإذا كان توافق الزوجين في المرجعية الفكرية موجبًا للتماسك والانسجام، فإن الاختلاف فيها موجب للتنافر والانقسام.
ويدخل هذا الجانب فيما يسمى في الفقه الإسلامي بالكفاءة. فـ«الكفاءة» مفهوم علمي بالغ الأهمية، يعكس بعد نظرة الإسلام إلى مؤسسة الأسرة، وهو يتأسس على أبعاد معرفية علمية ونفسية واجتماعية واقتصادية، يتوجب مراعاتها عند تأسيس الأسر، مع الأخذ في الحسبان لكل حالة قدرها. وإذا كان هناك اختلاف بين الفقهاء حول إدراج بعض عناصر الكفاءة كالمال والنسب، فإن مقوم الدين يظل ثابتًا ضمن مقومات الكفاءة عند الجميع.
والحق أن استقراء الواقع الميداني للمجتمع يكشف لنا بأن الأسر التي تعرضت لخطر التفكك، ومن ثم إلى خطر الانهيار والزوال، قد أُوتيت من مقتل عدم إعطاء الكفاءة ما تستحقه من اعتبار. فما أكثر ما وقع من انزلاق كثير من الآباء أو أولياء الأمور إلى خطأ تزويج بناتهم المسلمات بأشخاص غير أكفاء لهن في الدين(1)، فأورثوهن معيشة ضنكًا وجحيمًا لا يطاق. ونفس الحكم ينسحب على رجال حجبت عنهم المظاهر الشكلية عند اختيار شريك الحياة، من جمال وغنى وحسب، خطورة الإقدام على الزواج بمن لسن ذوات كفاءة لهم في الدين، بفهم تعاليمه وتكاليفه فهمًا سليمًا، بالاستعداد النفسي الكامل، للإذعان والخضوع العملي لها، تمثلاً بقول الله سبحانه وتعالى: {فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (النساء:65).
ولــذلـك فـقـد حذر سيدنا رسول اللــه صلى الله عليه وسلم من مغـبـة الانـبهـار بالمعايير الزائفة عند الإقدام على الزواج، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تـزوجــوا النساء لـحسـنهن فـعسـى حسنهـن أن يرديـهـن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين»(1). وقــد ورد عــن النــبي صلى الله عليه وسلم قـوله: «إياكم وخضـراء الدمن، قالوا: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء»(2).
ويكفي أن نتمثل معنى الإرداء والإطغاء الواردين في الحديث لندرك سوء عاقبة ذلك على توازن الأسرة واستقرارها. فليس مع الانحدار الأخلاقي الناتج عن الغرور ،ولا مع الطغيان الناتج عن الغنى، إلا التنازع والصراع ثم الهلاك.
ويندرج تحت مفهوم الكفاءة، أو بتعبير أدق، يرتبط به، مفهوم آخر وهو مفهوم القوامة الذي يشكل الموقف السلبي لكلا الزوجين أو أحدهما منه أثرًا خطيرًا وساحقًا على تماسك الأسرة، فقد يقع مفهوم القوامة ضحية تعسف في الفهم والاستعمال من طرف الرجل، يحوله إلى أداة للقمع والطغيان.
وقد يقع المفهوم ضحية استهتار به من قبل المرأة (الزوجة) نابع من فهم سقيم للحرية، بفعل تأثير التيارات الليبرالية المنفلتة من أي ميزان، يتولد عنه رفـض بـات للقـوامـة، أو تخصيص الرجـل بـها، مـما يتحول معه بيت الزوجية إلى بؤرة للمشاكسة والنشوز والعناد.
ولمفهوم القوامة التقاء في بعض أبعاده بمفهوم الطاعة، الذي يشمل الزوجة كما يشمل الأولاد على حد سواء. فإذا كانت الطاعة في المعروف جالبة للخير والبركة والسلام، فإن التمرد والعصيان يجران الأسرة إلى أتون من الويلات والعذاب. وليست الطاعة أبدًا في ظل المنظومة التربوية الإسلامية مرادفًا للخنوع الذي يجرد شخصية الإنسان من خصائصها المميزة وقدرتها على الإبداع، بل إنها ذلك السلوك النبيل النابع من شعور مرهف بجملة من المعاني السامية التي لا يعقلها إلا العالمون. أما أصحاب القلوب القاسية، فقد حيل بينهم وبين ذلك المرتقى.. فعندما نقف مثلا أمام قوله سبحانه وتعالى في شأن علاقة الأبناء بالآباء: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} (الإسراء:24)، فإننا ندرك السر العميق والحكمة الكامنة من وراء هذا الأمر الرباني الجليل.
2- البعد السلوكي: إذا كان البعد التصوري المعرفي يعبر عن نفسه من خلال وعي الزوجين والأولاد، كل بموقعه ووظيفته في بنية الأسرة، وأن زيف هذا الوعي ينعكس سلبًا على تماسكها، فإن البعد السلوكي، على الرغم من علاقته الواضحة به، إلا أنه يملك قدرًا من الاستقلالية عنه، لأن السلوكات والممارسات لا تنتج بشكل تلقائي آلي عن المفاهيم والتصورات، فهي تحتاج إلى دربة وترويض تكتسب النفس من خلالهما أنماطًا من السلوك والمهارات، تصطحب معانيها ودلالتها بحسب اصطحابها للنية الخالصة والإرادة الحية الناضجة.
وهذه الحقيقة هي ما يفسر لنا كثيرًا من التناقضات التي يقع فيها كثير من الناس رغم اعتناقهم للإسلام، بسبب استخفاف يصدر منهم إزاء كثير من التشريعات، مما يدفعون ثمنه غاليًا من سعادة الأسرة وتماسك بنيانها. ومرد ذلك بلا ريب إلى الهوة العميقة بين التصورات والتصرفات، فضلاً عما تشكو منه التصورات عينها من تشوهات بسبب النقص على مستوى تحصيل المعارف الشرعية الهادية. وغير خاف على أولي الألباب ما يكمن وراء هذا الفصام النكد من غلبة موجات التغريب العاتية وما تمارسه من ضغوط للحيلولة دون استتباب الأمر لأي نموذج متكامل يحمل صفة الإسلام.
ولنضرب مثالاً على الفصام المذكور، أمرًا يتعلق بجانب من الجوانب التنظيمية المرتبطة بالأسرة في علاقته بأحد الضوابط الكفيلة بالمحافظة على حرمة بيت الزوجية، وبسد مداخل الشيطان التي تهب منها ريح السموم التي من شأنها أن تطيح بكيان الأسرة ولو بعد حين.
يتعلق الأمر بالاختلاط بين الرجال والنساء الأجانب، الذي حرمه الإسلام وحذر من مغبة سهامه القاتلة.. إن التساهل في أمر الاختلاط يشكل خرقًا خطيرًا تتسرب منه المياه إلى سفينة الأسرة، بسبب ما يؤدي إليه من تلوث لمناخ العلاقات بين الأسر، وما ينجم عنه من تفلتات، وفي أحسن الأحوال، من شكوك تلغم العلاقات الزوجية وتحولها إلى بؤرة من العذاب. وهذا فضلاً عن مثل السوء الذي يؤثر سلبًا في التشكيل الوجداني والنفسي للأطفال الذين يكتنفهم محيط الأسرة، ويتلقفون كل ما يجري فيه من سلوكات، شريرة كانت أم خيرة.
«لقد أحسست بفزع شديد وغثيان عارم وأنا أقرأ في عدد من جريدة «المسلمون» الغراء، بصفحة «المسلمات» عن مشكلة طرحتها إحدى النساء المتزوجات، تلتمس لها حلاً. وتكمن المشكلة في كون الزوجة الآثمة تشعر بميل جارف نحو زوج جارتها الذي يختلف كثيرًا - والتعبير لها- عن زوجها في الطموح والنجاح والبهجة والمرح، وتحسد زوجته عليه...! إن أول شيء نقرره هنا أن هذه المشكلة، وإن كانت تمثل نموذجًا صارخًا للتلوث الذي يعتري القلب فيصيبه بانفصام رهيب وازدواجية قاتلة، فإنها لا تمثل حالة نادرة في عصر سادته الفوضى واختلت فيه الموازين واخترقت فيه الحدود وديست القيم، فأصبحنا أمام خطر ماحق يهدد الأسر بالتفكك والمجتمع بالخراب»(1).
ولا يفوتني في تحليل هذه النقطة إبراز حقيقة في منتهى الخطورة والأهمية، كثيرًا ما يغفل عنها قطاع واسع من الناس، وهي أن مكر الماكرين وإصرارهم على تدجين الإنسان وتجفيف منابع الخير فيه، قد هداهم إلى أن المانع من كثير من الخبائث إنما هو خلق الحياء، فهو لب جهاز المناعة الواقي من الانحدار إلى أسفل سافلين، ومن ثم فإن سلب خلق الحياء من الكيان النفسي للإنسان يعد تدميرًا لذلك الجهاز النفسي في حياته، ومدخلاً واسعًا إلى الشرور والموبقات، فأحكموا خططهم(2)من أجل إنجاز هذه المهمة القذرة، ولا يزالون يجدّون ليل نهار من أجل تجريد الإنسان من آخر خيط في نسيج ستار الحياء، أحد شعب الإيمان التي أفردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر مع أعلاها، حيث قال عليه الصلاة والسلام: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعظمها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»(1).
ويعد هذا وجهًا من وجوه الإعجاز العلمي في مجال المعرفة بمداخل النفس وآليات الفعل التربوي، التي تزخر بها كنوز السنة النبوية الشريفة، فقد احتفت بهذا الخلق الرفيع بشكل لافت لأنظار أولي الألباب.
فإذا كان «الحياء لا يأتي إلا بخير»(2)، كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن فقدانه لا ينجم عنه إلا الشر، ومن أبرز هذا الشر، ذاك الذي يهاجم الأسرة، فيزرع في مفاصلها بذور التفكك والانحلال.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبـوة الأولى: إذا لم تستح فاصـنع ما شـئت»(3). وفيه تحذير بليغ من التفريط في الحياء، لأنه ليس بعد ضياعه إلا طوفان الفساد الذي يسلب الإنسان آدميته ويورده موارد الهلكة والبوار.
ب - عوامل موضوعية:
أميز في هذه العوامل بين ما ينتمي إلى الدائرة القريبة التي يمثلها محيط الأسرة الضيق، وبين ما ينتمي إلى الدائرة المتوسطة، أي المجتمع الصغير الذي يكتنف الأسر، وأخيرًا العوامل المتمثلة في مراكز التأثير والقرار الدولية، مع الإشارة إلى صعوبة الفصل بين هذه الدوائر، لأنها تشكل كتلة متراصة، على اعتبار أن جميعها رهين برؤى ثقافية واختيارات فكرية.
1 - الدائرة الصغرى: محيط الأسرة الداخلي: فإذا تناولنا الدائرة الأولى بالمعالجة، ألفيناها على قدر بالغ من الأهمية، لأنها تملك تأثيرًا مباشرًا على مجريات الأسرة وعلاقات أعضائها.
فغياب الأب أو الأم عن الأسرة بشكل غير عادي، أو لمدة أطول من المعقول، يخلف فراغًا نفسيًا وتربويًا تنعكس نتائجه السيئة على تماسك الأسرة ووحدتها والتحامها. فإذا كان غياب الأم بسبب العمل خارج البيت يتسبب في حرمان الأطفال من حقهم من العطف والحنان، فإن غياب الأب يترتب عنه علاوة على الحرمان من المدد العاطفي افتقاد الأسرة للمحور الجامع والراعي الأمين، الذي يمثل السلطة المادية والمعنوية التي تعمل على حفظ التوازن بين الرغبات، درءًا لحالة الفوضى والاضطراب، هذا في الحالة التي يكون فيها الأبوان في مستوى إدراك عظم المسؤولية تجاه الأبناء.
أما في الحالة المعاكسة، فإن الأبوين حتى مع وجودهما قد يكونان وبالاً على تماسك الأسرة واستقرارها، بسبب ما يحتدم بينهما من نزاعات تلقي بظلالها القاتمة على الأولاد، فيتراوح تأثير ذلك بين توريث هؤلاء الأولاد نزعة سوداوية تجاه الحياة قد تشكل خميرة لاستنساخ تجارب مريرة مماثلة أو أشد حدة، وبين أن يسقطوا صرعى لمظاهر من الانحراف السلوكي تزيد كيان الأسرة تفتيتًا وتفككًا. وقد تكون المعاملة غير العادلة من الآباء للأبناء مما ينتج عنه هزات عنيفة لكيان الأسرة بسبب ما يخلفه ذلك من ضغائن وأحقاد، وتكون تلك الهزات في شكل موجات محمومة من التوتر والقلق قد تفضي - إن لم تطوق في الوقت المناسب- إلى التنابذ والعداوة والشقاق.
ومن باب الاعتبار بما يقع للأقوام الآخرين من نكسات وانهيارات أسوق بعض ما أورده المؤلف الأمريكي ستيفن كوفاي في مؤلفه «العادات السبـع للعائلات الفـعالـة للغـاية»، حـيث يقـول: «إن 83% من الأسر في الولايــات المتــحدة تعمل فيها الزوجات خارج البيت مع إهمال كبير في غالب الأحيان لرعاية الأطفال، حيث يقضي الطفــل الأمريـكي يوميًا سبع ساعات أمام التلفاز، الذي يعرض الكثير من مشاهد العنف والـجنس والـخيانة الزوجـية. وتخلي الأبوين، والأم خاصة، عن التربية هو السبب الأساسي في الجنوح والإجرام»(1).
ومن العوامل التي تندرج تحت هذا الصنف الفرعي من العوامل الموضوعية ما يطلق عليه «صراع الأجيال». إن هذا العامل يتحول إلى مشكل فعلي يهدد الأسرة بالتفكك في الحالة التي يفتقد فيها الآباء عنصر الحكمة وحسن إدارة الاختلاف في الرؤى وفهم الأمور بينهم وبين أولادهم.
ويتعمق هذا المشكل تبعًا لعمق الهوة التي بين هؤلاء وهؤلاء على مستوى الثقافة والوعي، وكذلك في غياب تشرب الأولاد لقيم التربية الإسلامية الحاثة على طاعة الآباء والإحسان إليهم على كل حال.
2- المحيط المجتمعي: يساهم المحيط المجتمعي، بروافده السياسي والاجتماعي والثقافي والإعلامي والتعليمي التربوي، بشكل ملحوظ في توهين الوشائج المألوفة بين أعضاء مؤسسة الأسرة، في ظل تعميق النزعة الفردية. فتعدد الولاءات السياسية قد يجعل من أفراد الأسرة جزرًا متنافرة، كل يولي وجهه شطر ما يراه، معبرًا عن اختياراته الفكرية أو مصالحه المادية.
أما من الناحية الاجتماعية، فإن المفارقة بين فئات ممعنة في الترف وأخرى ممعنة في الفقر، تولد لدى الأولى دواعي الانحلال والانسلاخ من القيم الداعية إلى التماسك والائتلاف لحساب «الأنا» المنتفخة النزاعة إلى العبِّ من الشهوات حتى الثمالة. وتولد لدى الثانية أخـلاق القسوة واليأس وضيق الصدر، والنزوع إلى الصراع. ولا شك أن مستوى التماسك والتساند يتضرر في ظل الأسر المنتمية إلى هذين الصنفين من الفئات.
وعلى المستوى الثقافي، يشكل انسياق الفكر والثقافة في اتجاه منحرف عن هيمنة الإسلام وقيمه، كما يشكل الضخ الإعلامي العاتي وسيادة ثقافة الصورة وسحر التقنيات العالية الحبكة والإتقان، فتنة عمياء تسبب للناس ذهولاً عن بعضهم بعضًا، وتقذف بهم في غيبوبة بعيدة المدى.. ولا شك أن التماسك الأسري يتأذى من جراء هذه الوضعية الحرجة.
وقد التفت أحد المفكرين الغربيين إلى خطر العولمة على الأبنية والتضامن الاجتماعي، يقول سيرج لاتوش: «فمن خلال الإدماج الاقتصادي العالمي، ومن خلال العولمة الثقافية، ومن خلال ألف من القنوات المتباينة التي تتبادل تعزيز بعضها، تتسلل الفردية إلى كل مكان، وتتفشى بعمق متزايد دومًا في المجتمعات غير الغربية، على أن العقلية الفردية تمثل خميرة تحلل للعلاقة الاجتماعية، وهي تنخر في نسيج التضامنات التقليدية كسرطان»(1).
أما على الصعيد التعليمي التربوي، فتظل المناهج الدراسية الملغومة بأفكار وتصورات وقيم تعمل على استنساخ النموذج الغربي للعلاقة بين الرجل والمرأة بعامة، ولمفهوم الأسرة بخاصة، وكذلك للعلاقة بين الآباء والأبناء، تظل تلك المناهج تمثل معول هدم يفتك بعقول الناشئة الذين يراد منهم أن يشكلوا عوامل شرخ داخل حمى أسرهم بما يحملونه من أفكار تدعو للصراع بدل الوئام، وللفردية بدل الجماعية، وللإباحية بدل الالتزام بمكارم الأخلاق.
3- ثقافة حقوق الإنسان: قد يكون من دواعي الاستغراب أن تصنف ثقافة حقوق الإنسان ضمن عوامل المساهمة في تقويض دعائم التماسك الأسري! ومع ذلك فإن من الأكيد أن في المسألة وجهًا يعبر عن حقيقة هذا الحكم. ذلك أن ثقافة حقوق الإنسان بحمولتها الغربية والمتلبسة برؤية الإنسان الغربي للحياة وللإنسان، تقيم حواجز صارمة وجدرًا سميكة بين حقوق كل من المرأة والطفل، علاوة على عدم إيلاء أي اعتبار لحق الرجل (الزوج) وحق الأسرة وحق المجتمع.
هذا مع العلم أنه لا يمكن أن يتصور الإنسان العاقل حقوق هؤلاء منفصلاً بعضها عن بعض، فهي كل لا يقبل التبعيض.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري وهو يتحدث عن «العلمنة» الشاملة للأسرة والزواج، ما يتضمن تأكيدًا للحقيقة السالفة الذكر: «وتأخذ علمنة الأسرة شكل قيام الدولة بكثير من الوظائف التي كانت تضطلع بها الأسرة في السابق، مثل التعليم وتنشئة الأطفال، الأمر الذي يجعل الأسرة لا وظيفة لها، ثم يتحول أعضاء الأسرة بالتدريج إلى أفراد مستقلين، لكل حقوقه الكامنة فيه «حقوق الإنسان»، وتتحول الأسرة من أسرة ممتدة إلى أسر نووية، وتظهر بعد ذلك حقوق المرأة فحقوق الطفل، وبذا تبدأ الأسرة كوحدة متكاملة مبنية على التراحم في الاختفاء»(1).
ثالثًا: آثار التفكك الأسري
إن آثار التفكك الأسري، يتناسب حجمها وخطورتها مع حجم وخطورة موقع الأسرة من المجتمع باعتبارها النواة الرئيسة والشريان الحيوي الذي يختزن سر الامتداد الحضاري للبشرية. فبقدر ما تكون عليه من المنعة والتألق والعطاء، يكون حظ المجتمع من القوة والنمو المتوازن الذي يضمن سلامة الناس النفسية وتوازنهم الاجتماعي.. وبقدر ما تكون الصورة معكوسة، يكون حظ المجتمع بجميع مجالاته ومناشطه من التأزم والاضطراب واستنساخ الضعف والوهن. بل إن تداعيات التفكك الأسري، في حالة العجز عن محاصرتها وتحجيم جراثيمها، قادرة على الامتداد بآثارها إلى مكتسبات الحضارة الإنسانية والإجهاز عليها.
أ ـ آثار التفكك الأسري على شبكة العلاقات الاجتماعية:
إذا كان المجتمع في حقيقته كلاًّ مركبًا من جملة واسعة من التنظيمات الاجتماعية، فإن الأسرة تظل أبرزها من حيث ما هو موكول إليها من وظائف وأدوار، بل ومن حيث كونها تشكل المعين، الذي يتوقف على استمرار سيولته وقوته استمرار وقوة التنظيمات الاجتماعية الأخرى. ومن ثم فإننا نستطيع أن ندرك مدى التمزقات التي تتعرض لها شبكة العلاقات الاجتماعية، من جراء التفكك الذي تعاني منه مؤسسة الأسرة. لقد أدرك الناس خطورة الأمر ودق المفكرون وعلماء الاجتماع ناقوس الخطر، لما لاحظوه من سوء عواقب تآكل وظائف الأسرة، والنقص من أطرافها، بفعل الانسياق وراء ما أملته التحولات التكنولوجية والاقتصادية الهادرة من ضغوط وإكراهات.
إن القسط الوافر من نسيج العلاقات الاجتماعية، المفروض فيه أن يحاك في أحضان الأسرة. وليس ذلك النسيج إلا القيم والمعايير والميولات والاتجاهات التي يستنبطها الأفراد عبر ما يخضعون له من تنشئة اجتماعية. فإذا نضب معين ذلك النسيج استقالت الأسرة من أدوارها الحيوية، وكان ذلك إيذانًا بتعرض شبكة العلاقات الاجتماعية لافتقار خطير في دواليبها ومحركاتها.. وليس من حق أي واحد، بعد ذلك، أن يزعم أن هناك ما يقوم مقام الأسرة في أداء وظائفها المضيعة في خضم تطور أهوج وغير موزون.
إننا نعلم علم اليقين أن ما يسبح في المجال الثقافي للمجتمعات الإسلامية، من جراثيم الحداثة، يمارس أثره الهدام على شبكة العلاقة الاجتماعية، ومع ذلك، فقد كان بالإمكان التخفيف من حدة ذلك الأثر من موقع الأسر، لو ظلت على ما عهد فيها من تماسك والتحام، بسبب ما يؤهلها له طابعها الحميمي وجوها الدافئ وروحانيتها المشعة بفعل روابط العقيدة والرحم، وما هو منوط به من مهمة توحيد الغذاء التربوي للأفراد، وما يرتبط به من نظام الضوابط الباعثة على حفظ الأمن والتضامن الاجتماعيين.
إن ما أصبحنا نلحظه من تغلغل للفردانية في نسيج العلاقات الاجتماعية، على حساب روح الأخوة الإسلامية، إن هو إلا نتاج وبيل لتلاشي ذلك الروح في أوساط الأسر المفككة، مهما يكن نوع ذلك التفكك أو شكله أو درجته.
إن معنى «الجسدية» الذي يتضمنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(1)يجد تحققه، أول ما يجده، في النموذج الاجتماعي المصغر الذي تمثله الأسرة، فإذا انعدم هنالك بسبب داء التفكك، كان انعدامه في شبكة العلاقات الاجتماعية من باب الأولى والأحرى.
إن انفراد عقد الأسرة من خلال مخطط رهيب ينزع القوامة من يد الرجال، ويدحرج النساء إلى وراء جدران مملكتهن العريقة، ويودع الأطفال في مراكز تكتنفها الوحشة والبرود، إن ذلك ليعد حقًا جريمة لا تغتفر في حق الحضارة الآدمية، ويستوجب خوض جهاد مرير من أجل استرجاع الحصون الضائعة، أو التي توشك أن تضيع.
ب- آثار التفكك الأسري على التقاليد والقيم والتربية والثقافة:
إن الذي يحفز الأطفال وأعضاء الأسر على العموم على تلقف نظام القيم التربوية وتمثله عبر جهاز الشخصية الشعوري واللاشعوري، إنما هو ذلك المناخ الأسري السليم، المفعم بالمحبة والرحمة والوئام، ومرجع ذلك إلى أن النفوس مفطورة على تشرب القيم التي تتمثل في نماذج سلوكية متحركة، يتمثل فيها قدر وفير من القدوة الصالحة التي تملك عنصر الجاذبية والإقناع. وهذه العناصر تشكل شروطًا نفسية ومناخًا تربويًا، تتحول معها القيم المتمثلة إلى ثقافة، بمفهوم مالك بن نبي رحمه الله(1).
إذا كان الأمر كذلك، فإن الأسرة التي تعاني من داء التفكك تشكو لا محالة من اختلال يمس مستوى أدائها للأدوار والوظائف، المنوطة بها، والتي على رأسها وظيفة التنشئة الاجتماعية ونقل ميراث الأمة الثقافي للأجيال الناشئة، التي تقع فريسة توجيه التيارات الثقافية المتلاطمة في خضم المجتمع، والتي دفعت بها رياح العلمنة والتغريب.
وهكذا نصبح وجهًا لوجه أمام معضلة ثقافية وتربوية تتمثل في إفقار النسيج الثقافي التربوي للمجتمعات العربية والإسلامية، من خلال تعطيل عملية تنمية رصيد القيم المجسدة لروح الأمة، والممثلة لبرمجتها العقلية ومنهجها السلوكي، كل ذلك لحساب اكتساح مساحات أوسع من المجتمعات من طرف جحافل القيم الثقافية الخادمة للتحديث والعولمة.
إن عملية التنشئة الاجتماعية (...) «هي العملية التي بمقتضاها يتدرب الأفراد لكي يتوافقوا مع ضروريات الحياة المختلفة، ففي داخل الأسرة يتضمن النظام الأسري مجموعة من القواعد المشتركة تحقق النظام في العلاقات الأسرية، وتعمل على تلبية رغبات أفرادها (...)، ففي نطاق الأسرة يبدأ الطفل في تلقن الأوامر والقواعد المثالية للضبط الاجتماعي عن طريق والديه وإخوته الـكبار، عن طـريق تـرشـيده والـعمل علـى تـجنيـبه السلوك الـجامح أو المنحرف أو العادات المستهجنة، وإرشاده إلى خير الطرق الممكنة لتطويع مواقفه لمقتضيات الضوابط وقواعد آداب السلوك العامة»(1).
إذا تأملنا هذه الوظائف التي تقوم بها الأسرة، والتي تكتسي طابعًا تثقيفياً تربويًا بامتياز، أدركنا عظم الخسارة التي يتكبدها المجتمع جراء تفكك الأسرة وانهيار كيانها.
جـ- آثار التفكك الأسري على التنمية الشاملة:
يقول سيد دسوقي حسن في سياق طرح رؤيته حول «الهيكل الحضاري للتنمية»: «وما هي التنمية من جانب الدولة إن لم تكن هي التخلية بين الإنسان وترابه الوطني، يتفاعل معه في ظل عقيدة موحية بالخير، وشريعة منظمة لهذا الخير، حتى يصنع بنفسه ولنفسه طعامه وشرابه وكل حاجياته في هذه الحياة الدنيا، في حرية يتطلبها وجوده الإنساني، فإذا وضعت الدول من القوانين والأنظمة المتعارضة والمتضاربة في مجالات الحياة المختلفة ما يعوق الإنسان عن التفاعل مع ترابه الوطني، فلا تسل بعد ذلك عن تنمية أو نمو أو بقاء»(2).
وبصرف النظر عما يمكن إجراؤه من نقاش حول عناصر هذا التعـريف الهـام للتنـمية، فإن الـذي يعنيـني فيه، ارتباطًا بالنقطــة التي نحن بصدد تحليلها، هو التعليق الذي ذيل به، وهو الـمتمثل فيما يمكن أن تضعه أجهزة الدولة من قوانين وأنظمة تحمل في جوفها إعاقة لعجلة التنمية وتعطيلاً لآلياتها.. ذلك أن مما يمكن أن يمتد إليه مفعول الإعاقة، مؤسسة الأسرة، بسبب الألغام القانونية المؤهلة لنسف كيان الأسر، أو تعريضها للتفكك والخراب.. ومن الغريب أن كثيرًا من المشاريع (...) التي تقدم في بعض الدول من طرف اتجاهات علمانية، تقدم تحت شعارات تنموية، وهي في حقيقة أمرها لا تعدو أن تكون معاول لهدم الأسرة عن طريق تجريدها من سر قوتها، المتمثل فيما تنتجه من شروط نفسية وعاطفية وتنظيمية تمد الجهد التنموي بسنده الضروري.
وأضرب على ذلك مثالاً، ما قدم ضمن ما سمي بـ «خطة إدماج المرأة في التنمية»، أو تحت تسميات أخرى في بعض البلدان العربية، من أفـكار لا تخـلـو من الشــذوذ، ولعل مـدخـلها محاولة إعـادة الـنـظر بإدخال تعديلات جذرية على مدونة الأحوال الشخصية لكونها تمثل في منظورهم في صيغتها الحالية عائقًا أمام ولوج المرأة إلى عالم التنمية.
لقد طالبت تلك الأصوات بإلغاء النصوص المتعلقة بتعدد الزوجات واشتراط حضور الولي كركن من أركان النكاح، وبالتسوية في الميراث بين المرأة والرجل.. كما طالبت برفع سن الزواج إلى السنة الثامنة عشرة، وهذا إضافة إلى تبني أصحاب الخطة لبنود مؤتمر بكين، التي تفتح الباب على مصراعيه أمام كل أشكال الانسلاخ من قيم وأحكام الطهر والفضيلة والعفاف، والارتماء في أحضان الممارسات الإباحية.
إن مثل هذه الأفكار والتصورات، إن وجدت طريقها إلى التطبيق، ستعصف بالأسرة وتنسفها من جذورها، وتحرم المجتمع من الإنتاج السليم لأعظم مقوم للتنمية وهو الإنسان السوي، ذلك أن من شأن مثل هذه الخطط أن تحول المجتمع إلى مباءة تشيع فيها الفاحشة، فيصير إلى وضع ينقطع منه فيه النسل بسبب إباحة الإجهاض المخلص من ثمار الزنا، والذي حتى في خروجه إلى الحياة سيكون نسلا ًمشؤومًا على المجتمع، بفعل عقدة اللاهوية، وحرمانه من مقومات التنشئة الصحيحة.
أضف إلى ذلك أن ما تقره الخطط العلمانية للتنمية من خروج المرأة بكثافة إلى ميادين العمل(1)، يعد في الحقيقة مدخلاً إلى اللاتنمية. ذلك أن هذه الظاهرة تؤدي إلى التضييق من فرص الشغل أمام الرجال، فيرتفع معدل البطالة في المجتمع مما يعمق فيه هوة التخلف الاجتماعي والاقتصادي فضلاً عن مستويات التخلف الأخرى.
رابعًا: وسائل وكيفية العلاج
مما درجنا على سماعه وتداوله، ونحن صغار، مقولة «الإنسان ابن بيئته»، وعلى الرغم مما تمثله هذه المقولة المسكوكة من أوجه الحقيقة والواقع، فإن ذلك لا ينبغي أن يحجب عنا حقيقة كون الإنسان، بما يملكه من سر الإرادة والقدرة على التحدي والمغالبة، قادر على تجاوز سلطان البيئة وجواذبها المعقدة، شريطة أن يكون ذلك الإنسان من الطراز الرفيع الذي خضع لبرمجة عقلية صارمة تؤهله لفهم ما حوله، والتفاعل معه بالشكل الإيجابي.
ومن ثم فلا مناص من أن يكون المدخل الأساس لدرء المفاسد التي تهاجم الأسرة وتنخر عظامها وتودي ببنائها، هو إعادة هيكلة الإنسان من خلال تنميته وبرمجته بإحكام، وفق منهج تربوي شامل ومتوازن، يستهدف كل مكونات شخصيته، من أجل استعادة فاعليته لتمارس نـشاطها وإبـداعـها، من أجـل إعـادة بناء نسيج الـحياة الاجتماعية على أساس ما توخاه الإسلام من أهداف وغايات، وما سطره لإنجازها من وسائل وآليات. والحق أن هذا الهدف ممكن التحقق إلى حد بعيد، ما لم يصطدم بإرادات معاكسة تسعى إلى إدامة هذا الوضع المأزوم الذي تراه خادمًا لأغراضها الرخيصة وأحلامها الطائشة.
يقول الأستاذ عمر عبيد حسنه مبينًا هذه الحقيقة الكبرى، كاشفًا عن ملامحها ومكنوناتها: «إن إعادة بناء الحاضر، والاستشراف الصحيح لصناعة المستقبل، وتقويم واقع الأمة بتعاليم الكتاب والسنة، وتحديد مواطن الخلل والإصابة، التي تعيق النهوض، منوط إلى حد بعيد بقدرتنا على إعادة تشكيل مركز الرؤية للعقل المسلم، ودراسة أسباب الإصابات التي لحقت به، ورسم سبيل الخروج به من الأزمة، وتحقيق الانعتاق العقلي، والتحرر من أسر البيئة، والمناخ الثقافي الذي يحيط به، وإخراجه من تحكم الأبنية المسبقة، والعودة به إلى التزام القيم المعصومة في الكتاب والسنة، في معايرته للواقع وتنقيته لموارده الفكرية التي تساهم في تشكيله»(1).
إن جماع الإصابات والعلل، التي تكشَّف لنا وقوفها وراء داء التفكك الأسري، إنما مردها في نهاية التحليل إلى طبيعة الشاكلة الثقافية، التي تحكم سلوك الأفراد على اختلاف مواقعهم ووظائفهم في تشكيلات الأسر. ورغم التفريق في هذه الدراسة بين أسباب ذاتية وأسباب موضوعية، فإن مرد هذه إلى تلك في حقيقة الأمر.
ومع ذلك، فإن هذا لا ينفـي استقــلالـية الـعوامـل الـموضوعية بكيانها واحتوائها على إمكانية هائلة للجذب والتشكيل، وهذا يتطلب تغييرها والتقليل من شرورها بحسب الوسع. وحظوظ النجاح في ذلك رهينة بطبيعة استعداد مراكز القرار والتوجيه، وبحسب ما يظهره الواقع، فإنه لا محيص عن مواجهة قدر المدافعة والصراع، في ظل عالم يشكل فيه طابور الفساد قوة مدججة بأعتى الـخطط من أجل إبـقاء الإنـسان مـكبل العــقل، مشـلول الإرادة إزاء ما يحاك له ويجري أمام عينيه من أحداث.
إن المدخل الرئيس لتأسيس عملية تغيير الواقع الفاسد والمهترئ، وفي صلبه واقع الأسرة المتردي، هو «إعادة تشكيل مركز الرؤية للعقل المسلم» على حد تعبير الأستاذ عمر عبيد حسنه.
وسأحاول فيما يلي - وبشكل مركز، أن أستعرض دور بعض القنوات والوسائل، التي ينبغي تضافرها لإنجاز هذا الفعل الحضاري.
أ- دور التربية الدينية الإسلامية:
إن ما يمكن أن تصنعه التربية الدينية الإسلامية، في خصوص موضوع الأسرة أمر هام وعظيم، خاصة وأن ما تسعى إلى تأسيسه وترسيخه في عقول وشخصيات الناشئة، تقيمه على أساس مفهوم القداسة والربانية، الذي يعتبر الإخلال به علامة على نقص في الإيمان، والالتزام يفرض في كل مسلم أن يربأ بنفسه عن السقوط في شركه.
إن مما تزود به التربية الدينية الإسلامية، الناشئة، سواء عبر قناة الأسرة نفسها أو قناة المؤسسة التعليمية:
أولاً: إدراك مفهوم الفطرة التي فطر الله الناس عليها قال تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} (الروم:30)، وتعميق الاستعداد النفسي لاحترام الفطرة والخضوع لمقتضياتها، والتنبيه إلى العواقب الوخيمة والمدمرة التي تنجم عن مخالفتها ومعاندتها(1).
ثانيًا: إبراز سنن التكامل بين الرجل والمرأة كسنة كونية، يؤدي تجاهلها إلى خسائر فادحة على مستوى سير الحضارة الإنسانية، وعلى مستوى سعادة الإنسان وشعوره بمعنى الحياة.
وأن هذا التكامل قائم على اختلاف الخلقة بينهما.. وفي هذا يقول الدكتور الشاهد البوشيخي: «إن اختلاف الخلقة تابع لاختلاف الوظيفة، وإن تمايز الخواص مؤذن بتمايز الاختصاص»(1)، ومن ثم فإن أي تعطيل لوظيفة أي كائن، موجب لانقراض ذلك الكائن(2).
وبناء عليه، تهدم خرافة المساواة بمفهومها الفج في أفهام الناشئة، وخاصة في مرحلة المراهقة التي تسبق إبان الاستعداد للزواج، مما يمكن من إبعاد فكرة الصراع بين الرجل والمرأة، التي قضت على الأمن، وتسببت في إشعال الحروب في كثير من الأسر.
ثالثًا: ترسيخ إحساس كل من الجنسين بالاعتزاز بجنسه، وتقوية استعداده للعـمـل عـلى خــدمـة مجـتمعه وأمـته، بـمقتضـى ما يؤهله له ذلك التميز الذي يعكس أحد مظاهر الحكمة ودلائل قدرة الباري سبحانه وتعالى.
رابعًا: تزكية نفوس الناشئين من خلال القرآن والسنة، بجملة من القيم التي من شأنها أن تشكل حصنًا واقيًا من كل ما يهدد أمن الأسرة واستقرارها، بعد مرحلة التأسيس وذلك مثل الغيرة والحياء، والعفة والطهارة، والصبر وعرفان الفضل والجميل، وغيرها، فضلاً عن ضرورة إدراك الآليات والمهارات واكتساب الاتجاهات والعادات المساعدة على التزام الحكمة وحسن التدبير في التعامل مع الأسرة وتسيير شؤونها.
خامسًا: شرح خطة الزواج الشاملة بما يستلزمه من أركان وشروط، ومن مؤهلات مادية ومعنوية وما يتوخاه من مقاصد تعبدية ونفسية واجتماعية وعمرانية.
سادسًا: إعطاء القدوة الصالحة من طرف الآباء، فيما يتعلق بحسن قيادة الأسرة وفق قواعد المنهج الإسلامي، التي تجمع بين الحزم واليقظة والرفق والرحمة، يعد أسلوباً ناجعًا في إعداد الشباب ليكونوا في المستقبل قادة ناجحين لأسر هادئة تمارس وظيفة الاستخلاف بثقة واقتدار، وتساهم في الحفاظ على الإرث الحضاري الثمين.
سابعًا: عرض نتائج الدراسات حول وضعية «الأسرة» في المجتمعات الغربية، من باب الاعتبار بما أصابها من كوارث ونكبات، وما حل بها من أوجه العذاب.
ب- دور المؤسسة التربوية التعليمية:
إن الدور الرائد الذي تقدمه التربية الدينية الإسلامية لا بد أن يعزز بما يقدم لأجيال المتعلمين على مستوى المؤسسة التربوية التعليمية، من قيم ومفاهيم، تحقيقًا للتجانس والانسجام في أذهان المتعلمين، ودرءًا لفتنة التشويش التي يمكن أن تمارسها القيم المتعارضة الممررة عبر المناهج المتعددة لمواد المنظومة التعليمية التربوية. وهذا ما يفرض بإلحاح تحقيق مطلب أسلمة المناهج الدراسية والمنظومات التعليمية في البلاد العربية الإسلامية، فهو سبيل الخروج من الأزمة، الذي يتعذر في غيابه التحرر من عقابيل الفصام النكد الذي يخترق نفوس المستهدَفين، بمناهج ملغمة بقيم تنسف الهوية الإسلامية وتشوه النموذج الإسلامي في أعينهم بأساليب ماكرة، فيتعرضوا جراء ذلك للقلق والاضطراب، مما يحرمهم من القدرة مستقبلاً على تأسيس أسر ناجحة وسعيدة.
إن على المسؤولين عن المؤسسة التربوية التعليمية في البلدان العربية والإسلامية أن يضعوا نصب أعينهم، وهم يخططون لمخرجات التعليم، وما يرجى منه من ثمار، أن إعداد المتعلمين ليكونوا أزواجًا وآباءً وأمهات صالحين، ضمن أسر تكون حصونًا لرعاية الفطرة وإسداء الخير للأمة، ينبغي أن يكون على رأس الأولويات، وإن عدم وضع ذلك في الحسبان كاف وحده ليحكم على المنظومات التربوية التعليمية بالعبثية والعقم.
جـ - دور المؤسسات الثقافية والإعلامية:
إذا كانت المؤسسات التربوية التعليمية، ينتظر منها أن تؤدي دورها في صفوف الناشئة من الأطفال واليافعين والمراهقين والشباب، وذلك على مستوى التهيئ القَبْلي، بمقتضى استراتيجية مستقبلية تتعهد الفسائل والشتائل بالعناية والرعاية، فإن ما عدا هؤلاء من شرائح المجتمع المتفاوتة من حيث حظها في الثقافة والتعليم، ينبغي أن تتولى أمرها المؤسسات الثقافية والإعلامية التي ينبغي أن يحكمها منظور هادف، ينطلق من اختيارات تنموية شاملة تجعل همها الارتقاء بمستوى وعي الجماهير، وجعلهم يندرجون بشكل إيجابي في عملية التنمية.
ولن تتأتى أية تنمية حقيقية في ظل نسيج أسري تمزقه الصراعات وتنهكه الضغائن والأحقاد، وينتج أجيالاً من الضعفاء الفاشلين.
وأول مؤسسة تبرز في هذا السياق هي مؤسسة المسجد، أول مؤسسة إعلامية في الإسلام، وأعظمها على الإطلاق، فهي تمتاز عن غيرها بما تكتسيه من طابع القداسة، وما يكتنفها من أجواء روحانية تتفتح لها القلوب وتستشعر رغبة عميقة في تقبل ما يلقى من نصح وموعظة.. وهذه فرصة يجدر بالوعاظ والخطباء أن ينتهزوها لرأب الصدوع التي تتعرض لها الأسر، من خلال ترغيب الناس فيما عند الله من أجر لكل من أحسن عشرة زوجه وعياله، انطلاقًا من كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فموضوع الأسرة وما يقوم عليه من أسس ومقومات، ينبغي أن يكون من أهم الموضوعات التي يحسن جعلها من الأولويات.
أما المؤسسات الأخرى التي تدخل فيما يطلق عليه: المجتمع المدني أو المجتمع الأهلي، فبمقدورها، إن هي تأسست على اختيارات إسلامية، أن تقدم خدمة جليلة في هذا السبيل، بواسطة ما تقدمه من محاضرات وندوات وبرامج لمحو الأمية، وأنشطة لفائدة الرجال والنساء والأطفال، هدفها المساهمة في التعبئة الثقافية وسد الثغرات التي يشكو منها هؤلاء على مستوى الوعي بأهداف الأسرة وبمقومات سعادتها واستقرارها، وعلى مستوى الوعي الاجتماعي بشكل عام.
ونفس الأهداف ينبغي أن تحملها على عاتقها وسائل الإعلام الأخرى، وخاصة منها المسموعة والمرئية، نظرًا لسعة امتدادها وقوة نفوذها وتأثيرها، بفعل تنوع الأشكال التي تعرض عبرها برامجها ومحتوياتها، والتقنيات المتطورة التي تتذرع بها في ذلك.
ومجمل القول: إن المؤسسات الثقافية والإعلامية في البلاد الإسلامية، بوسعها، إن تهيأ لها من يرشدها ويحدد لها ميثاقًا يضبط حركتها ومسارها، أن تساهم بفاعلية في تطهير المجال الثقافي مما ران عليه من طفيليات، فتفتح الباب واسعًا أمام عودة الروح للفرد والمجتمع من خلال إعادة الارتباط مع المرجعية الأصيلة للأمة، القادرة دون غيرها على إخراج مكنوناتها وتجديد نسيجها.
إن «البحث في مقومات الشخصية الناضجة القادرة على حمل مسؤولياتها، وفي القيم التي تبعث الفاعلية في الأمة وتؤهلها لحسن استثمار مقدراتها، وتلك التي تحول دون النضج والفاعلية، ضرورة ماسة لتحديد منطلقات الإصلاح وأولويات التجديد. فهذا البحث هو بعض مظاهر «الحكمة» التي أعطاها الله الموقع الأول في مناهج الدعوة إليه، حين خاطب رسوله بقوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} (النحل:125)(1).
والحمد لله رب العالمين.
عبد المجيد بن مسعود
تمهيد:
سأحاول - مستعينًا بالله عز وجل - في هذا البحث المتواضع، أن أقف على ظاهرة التفكك الأسري، التي تتصدع لها بنى المجتمعات المعاصرة، التي باتت تجأر من هولها، وتتأذى من آثارها الممضة، وعواقبها الوخيمة. وسأعمل جهد المستطاع، في حدود المساحة المتاحة، أن استجلي أهم الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة المؤرقة، وما ينجم عنها من عواقب وآثار، وما يمكن أن يتصور لها من صيغ التجاوز والعلاج.
وأشير قبل ذلك إلى أن معالجة الموضوع ستأخذ بعين الاعتبار طبيعة العالم المعاصر، المتميزة بعبور وتلاطم التيارات الثقافية والفكرية، مصحوبة بنماذجها السلوكية، في سياق تنافس محموم، بل - وبتعبير أدق - في ظل محاولات شرسة لتنميط المجتمعات، ضمن ما أطلق عليه «العولمة»، في قالب ثقافي موحد يحمل طابع المدنية الغربية الغالبة في الوقت الراهن، ذلك أن واقع الأمور ينطق بشكل سافر بكون التغييرات التي تطرأ على بنية المجتمعات، ومن ثم على الأسرة التي تقع منها موقع القلب النابض والنواة الصلبة، من حيث ما هو مفروض، قد أصابت الأسرة في مقاتلها بما أحدثته في كيانها من خلخلة وتفكيك. فما هو المقصود بالتفكك الأسري؟
أولاً: تحديد المفاهيم
يقتضي الجواب على هذا السؤال بشكل موضوعي، تحديد جملة من المفاهيم من قبيل: مفهوم الأسرة، ومفهوم الزواج، الذي هو المدخل الطبيعي والشرعي إلى عالم الأسرة.
أ- مفهوم الزواج الاصطلاحي:
عرفته مدونة الأحوال الشخصية بأنه: «ميثاق ترابط وتماسك شرعي بين رجل وامرأة على وجه البقاء، غايته الإحصان والعفاف مع تكثير سواد الأمة بإنشاء أسرة تحت رعاية الزوج على أسس مستقرة، تكفل للمتعاقدين تحمل أعبائهما في طمأنينة وسلام وود واحترام»(1).
ب- مفهوم الأسرة:
يعرفها ابن منظور بقوله: «إنها الدرع الحصينة التي يحتمي بها الإنسان عند الحاجة ويتقوى بها»(1).
يتبين من خلال تعريف كل من الزواج والأسرة، أن هناك علاقة وطيدة فيما بينهما، بحيث لا تتحقق صفة الدرعية المذكورة في تعريف ابن منظور، إلا إذا توفرت الأركان وتـحققت المقاصد.. فالأسرة لن تكون درعًا إلا إذا تأسست على ميثاق بين الزوجين(2)، وهي إشارة إلى «الـميثاق الغليظ» الذي ورد في القرآن الكريم(3)، ولن يكون كذلك إلا إذا كان بنية التأبيد ونشدان الإحصان والعفاف، وحفظ النوع المتميز بالرسالية، وحفظ الأمانة، والخضوع لمقتضيات العقد وما يتطلبه من ضوابط تنظيمية كالقوامة، ومعنوية كالود والاحترام والسلام. وهذه الصفات والمقومات والأركان إن هي إلا تجسيد اختزالي لروح التوجيه القرآني المستفيض الذي ورد بخصوص هذا الموضوع(1)وما ورد في شأن بيانه من سنة نبوية شريفة تزخر بها كتب الحديث.
ولقد حرص الإسلام على توفير كل العوامل والشروط التي تؤمن المقاصد المتوخاة من إقامة مؤسسة الأسرة، بدءًا من حسن اختيار الزوج وما يستلزمه ذلك من تجنب فرض أي شكل من أشكال الحجر والإكراه(2)، مرورًا بوضع نسق متكامل من القيم والآداب والضوابط يلتزم به الزوجان، لينعم عش الزوجية في ظله بحكمة التدبير وحسن المعاشرة وعمق التفاهم، ونعمة الطمأنينة والأمان، كما يلتزم بها الأبناء الذين هم ثمرة هذا الزواج(3)، من أجل أن تتفتح أكمام الأسرة عن ثمار يانعة طيبة، وتؤدي رسالتها كاملة في تثبيت دعائم المجتمع، ومده بطاقات هائلة وقدرة موصولة على التجدد والنماء.
وجدير بالذكر هنا، أن الالتزام بالقيم والآداب والضوابط المذكورة، هو التزام طوعي، يتأسس على تشرب تربوي، يحوله إلى هيئة راسخة في السلوك، يندرج معه في مسمى العبادة، عبادة الله عز وجل وابتغاء وجهه ونيل رضاه.
ومما يميز منهج بناء الأسرة في الإسلام - حتى ينعم بالتماسك والبقاء - قيامه على الجمع في أسس ذلك البناء بين ما هو ذو صبغة عقدية روحية تتمثل في الاستجابة للنداء الرباني الداعي إلى عبادة الله العزيز الـجبار من خلال القيام بوظيفة الاستخلاف، وبين ما هو ذو صبغة وجدانية عاطفية تتمثل في إشباع أعمق حاجات الكيان الإنساني وأشواقه، يضاف إلى ذلك عامل الإشباع المادي المتمثل في إيتاء ذي القربى والوفاء بالحقوق المادية للأزواج والآباء والأبناء(1).
وفي هذا التلاحم العجيب بين الإشباع المادي والإشباع الروحي المعنوي، والتدبير التنظيمي، ما فيه من تعبير عميق عن واقعية الإسلام، وقدرة فائقة على تأمين قدر عال من التماسك والاستقرار والقوة والمنعة للكيان الأسري.
جـ- مفهوم التفكك الأسري:
إذا كان تماسك الأسرة يقاس بمدى نجاحها في أداء وظائفها، والوفاء بما هو منوط بها من اختصاصات، فإن تفككها يقاس بمدى ما تفقده أو تتخلى عنه من تلك الوظائف والاختصاصات.. وبناء على هذا المقياس الذي يكتسي في اعتقادي قدرًا مهمًا من الدقة والموضوعية، يمكن الحديث عن مستويات أو أنواع من التفكك الأسري تصنف درجتها في المقياس المذكور.
ومن ثم فلا مناص من إبراز الوظائف التي نيطت بها الأسرة حتى يكتسي حكمنا على الواقع الأسري بالتفكك أو بغير ه، طابعًا من الموضوعية والمصداقية. فما هي يا ترى وظائف الأسرة؟
بالرجوع إلى تعريف الزواج السالف الذكر، يتبين لنا أنه يحتوي على إبراز بعض تلك الوظائف.
فهناك وظيفة الإحصان والعفاف، التي تجسد حفظ كلية من الكليات الخمس، هي كلية العرض، وهي تؤدي في ذات الوقت وظيفة نفسية بما تشيعه العلاقة الزوجية في كيان الزوجية من شعور بالأمان والسكن والاستقرار. يقول الله سبحانه وتعالى: { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } (الروم:21).
أما الوظيفة الثانية المستقاة من التعريف، فهي الوظيفة التكاثرية، المعبر عنها بتكثير سواد الأمة(1)، وهي ذات صلة وثيقة بكلية أخرى من الكليات الخمس، إنها كلية حفظ النسل أو النوع.
وهناك وظيفة ثالثة تضمنها تعريف ابن منظور للأسرة، هي وظيفة تحقيق الأمن وإشباع الحاجة إلى الانتماء لدى أفراد الأسرة، على اختلاف مواقعهم، ولن يجد هذا الشعور عمقه وأبعاده الحقة إلا في ظل مناخ أسري يستبطن روح القيم والآداب والأحكام التي ارتضاها الإسلام سياجًا منيعًا يتحرك عبر مجاله أعضاء الأسرة؛ ويمارسون أدوارهم، بحسب ما هم مؤهلون وميسرون له.
والوظيفة الرابعة هي وظيفة التنشئة الاجتماعية، المتمثلة في تشكيل شخصيات الأولاد طبقًا للنموذج الثقافي الذي يتطابق مع ميراث الأمة الحضاري، ويعكس مطامحها في معترك التدافع من أجل إثبات الذات وتأصيل الوجود. وحتى نرتقي من التعميم إلى التدقيق في سياق المفهوم الإسلامي، نقول: بأن هذه الوظيفة الرابعة تتمثل في حماية الفطرة والحفاظ على كنوزها وإخراج مكنوناتها، وذلك من خلال تأمين البيئة السليمة التي تسمح بذلك. ويعكس هذه الحقيقة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء»(1).
عود على بدء: بعد هذا البيان الموجز لوظائف الأسرة نعود لنتساءل عن أنواع التفكك الأسري.. فما هي أنواع التفكك الأسري؟
د- أنواع التفكك الأسري:
لقد سبق القول: بأنه يمكننا التمييز في ظاهرة التفكك الأسري بين مستويات على سلم متعدد الدرجات.. وفي ضوء هذه الحقيقة يـمكننا أن نـتحدث عـن درجـات دنيا من التفكك لا يتعثر معها سير الأسرة، كأن تفـتر عاطـفة التواد بين قطبيها: الأب والأم، لأسباب عارضة، قد تكون ذات صبغة مادية ترتبط بحاجات بيولوجية أو غيرها، وقد تكون ذات صبغة معنوية فكرية، كأن ينشأ نزاع أو اختلاف حول شأن من شؤون الأسرة، ينجم عنه هزة خفيفة تلبد سماء عالم الأسرة لفترة من الزمن، مما يخلف بعض الرضوض على جسم الأسرة، قابلة للتضميد بواسطة جهد إقناعي يعقب استيقاظًا للوعي بأهمية الحوار كوسيلة ناجعة لفك العقد وحل المشاكل وفض النزاعات، وهذا في حالة الانطلاق من مرجعية واحدة محددة المقاصد والأهداف.
هذا النوع من أنواع التفكك يتميز بالبساطة، رغم إمكانية ترشحه للتفاقم والامتداد، في حالة تدخل عناصر خارجية تسعى لسبب أو آخر إلى إذكاء نار الخلاف بدلاً من العمل على إخمادها، استجابة لنداء الإصلاح.
كما يمكن أن يأخذ التفكك الأسري طابعًا أشد حدة، يتمثل في تمزق أوصال الأسرة وانفراط شملها، ولو في ظل استمرار عقد الزوجية قائمًا، وذلك بفعل التخلي عن واحدة أو أكثر من الوظائف المنوطة بها. فالتفريط في أمر التوجيه التربوي، لابد أن يستتبع جفاء بين أفراد الأسرة، ويجعل منهم جزرًا، وإن كانت متجاورة مكانيًا فهي متباعدة شعوريًا، بسبب التقصير في تعميق المرجعية الواحدة لدى أفراد الأسرة لتوحيد «شاكلتهم الثقافية».
وهذا النوع من أنواع التفكك الأسري يتسع نطاقه إلى حد بعيد، بفعل استقالة الآباء عن القيام بأعباء التنشئة الثقافية، أو بفعل الصدام والتعاند والتشاكس التام في أمر المرجعية المعتمدة لدى الأبوين داخل حمى الأسرة، أو بسبب عوامل شتى، سيأتي بيانها عند التطرق لأسباب التفكك الأسري بنوع من التفصيل.
ويمكن الحديث عن نفس الآثار السلبية في حالة ضمور الشعور بالانتماء لدى أفراد الأسرة، بسبب توقف الأسرة عن توفير الأجواء الباعثة على الأمـن، ســواء عـلى مـستـوى إشـباع الـحاجات الـماديـة أو النفسية.. أو الفكرية والروحية.
أما النوع الثالث: من أنواع التفكك الأسري، فهو ذاك الذي ينقض فيه الميثاق الغليظ وتنفصم عرى الزوجية بفعل الطلاق. فهذا النوع ينطبق عليه مفهوم التفكك بـمستوييه الـمادي والـمعنوي، وهو نتاج لدرجة قصوى من اختلال الوظائف والمهمات المسندة لمؤسسة الأسرة.
هـ- الأسرة بين خطر التفكك وخطر الاندثار:
إن من سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، أن الأمراض الاجتماعية والانحرافات التي تصيب الإنسان في تعامله مع نفسه ومع غيره، ومع المحيط الذي يكتنفه بعامة، لا تقف عند حد معين، ما لم تطوق جراثيمها، ويقطع دابرها من خلال استئصال أسبابها. وهذا هو السر وراء أخذ الإسلام بمبدأ سد الذرائع كمنهج وقائي فريد، يكفل تطبيقه تجنيب المجتمعات الوقوع في الكوارث والأزمات.
وتتمثل حقيقة هذا الكلام، ارتباطًا بالموضوع الذي نحن بصدده، في أن الاختلالات التي تعتري كيان الأسرة، من جراء تخليها عن بعض الوظائف كوظيفة الأمومة ووظيفة القوامة ووظيفة التنشئة والتهذيب وغيرها، يشكل بذورًا لاندثار الأسرة وموتها بشكل تام، ولو بعد حين.
فإذا أخذنا على سبيل المثال مسألة الأمومة، وقمنا بمعاينة الآثار المدمرة الناجمة عن إهمالها وتجفيف منابعها، وقفنا على أن خسائر فادحة قد تكبدتها الإنسانية نتيجة الانجراف وراء أنماط من الممارسات الشاذة عن الفطرة. إن إخراج المرأة إلى عالم الشغل ـ في غير ما ضرورة ـ تحت ذرائع شتى واضحة البطلان، يؤدي حتمًا إلى ضياع الأمومة كحاجة نفسية وبيولوجية ملحة من جهة، وكمقوم أساس لطفولة سوية ومتوازنة من جهة أخرى، وكل ذلك من مظاهر العدوان على الفطرة الذي لا يعدم عقوبته.
إننا نشاطر المفكر المسلم علي عزت بيكوفيتش في ما ذهب إليه من أن «كل درجة تطور في المجتمع يقابلها حيف بالأسرة بنفس النسبة، فإذا ما تم تطبيق المبدأ الاجتماعي بكل نتائجه ـ أي وصل إلى وضع الطوبيا ـ تلاشت الأسرة. إن الأسرة باعتبارها حاضنة العلاقات الرومانسية والشخصية الحميمة في تعارض مع جميع مبادئ الطوبيا»(1).
ويقول بيكوفيتش معبرًا عن نفس الحقيقة - في موضع آخر من الكتاب -: «إن الحضارة لا تقضي على الأسرة فقط من الناحية النظرية، وإنما تفعل ذلك في الواقع أيضًا. فقد كان الرجل أول من هجر الأسرة ثم تبعـته المرأة، وأخيرًا الأطفال. ونستطيع أن نتتبع القضاء على الأسرة في كثير من الجوانب. فعدد حالات الزواج في تقهقر متصل، مع تزايد في حالات الطلاق، وازدياد عدد النساء العاملات، والزيادة في عدد المواليد غير الشرعيين، وازدياد مستمر في عدد الأسر التي تقوم على أحد الوالدين فقط وهي الأم... إلخ»(2).
إن ما عبر عنه المفكر علي عزت بيكوفيتش من حقائق لَيعكسُ بجلاء الوجه المأسوي والبعد التدميري الرهيب للتطور. غير أنه لا بد هاهنا من تعقيب هام لاستكمال صورة الحقيقة، ويتعلق الأمر بالتنصيص على أن التطور الذي تحدث عنه علي عزت بيكوفيتش، والذي ترتب عنه ذلك الانتقال الـمأسوي من الأسـرة إلى اللاأسرة، إنما هو تطور منفلت من أي نسق من الضوابط الكفيلة بتسديد المسار... وهنا لا بد من التمييز بين تطور محكم مسدد بالوحي، وبين تطور أخرق ينساق وراء الغرائز والأهواء. ولربما تعلل بعض المتفائلين بأن هذه التحولات الخطيرة إنما هي مقصورة على المجتمعات الغربية التي ذهبت أشواطًا بعيدة في مضمار التطور، أما المجتمعات المتخلفة تكنولوجيًا فليست معنية بالنتائج الوخيمة لتلك التحولات!
والحق أن مثل هذا الفهم، إن وجد، يغفل طبيعة عالم يعيش في ظل عولمة كاسحة، تتذرع بأقوى الأساليب والتقنيات من أجل تنميط العالم وصبه عنوة في قالب موحد يمثل رؤية الغرب للحياة، مسخرة في ذلك مظلة المنظمات الدولية المنضوية في إطار الأمم المتحدة، ساعية إلى إعطائها طابع الشرعية والإلزامية.
ولقد استطاع الأستاذ المفكر عمر عبيد حسنه أن يجمل أهداف المحاولات الخطيرة والمحمومة، التي يقوم بها الغرب لنسف حصن الأسرة، الذي ما يزال يحتفظ ببعض قدراته على المقاومة والصمود.
يقول: «إن المحاولات اليوم مستمرة لتكسير حواجز الحياة، والقفز فوق الكثير من الضوابط والقيم الدينية الأخرى أيضًا، لينتهوا إلى أن مفهوم الأسرة بالمعنى الذي يشرعه الدين ليس إلا مفهومًا عقيمًا، وقيدًا على الحرية الشخصية، لأنه لا يتقبل العلاقات الجنسية الحرة بين مختلف الأعمار، ويشترط أن تكون بين ذكر وأنثى فقط، وضمن الإطار الشرعي، ولأنه لا يمنح الشواذ حقهم في تكوين أسر بينهم، ويتمسك بالأدوار النمطية للأبوة والأمومة والعلاقات الزوجية ضمن الأسرة، معتبرين أن ذلك مجرد أدوار وأشكال لا تخرج عن كونها مما اعتاد الناس ودرجوا عليه وألفوه، حتى دخل في طور التقاليد المتوارثة»(1).
ثانيًا: أسباب التفكك الأسري
ميزت في هذا المحور بين أسباب أو عوامل ذاتية وأخرى موضوعية. وأقصد بالذاتية ما له صلة بالتشكيل العقلي، وما يرتبط به من ممارسة وسلوك، وبالموضوعية ما له صلة بالأطر الخارجية التي تكتنف الأسرة وتؤثر في مسارها، وطبيعة وظائفها، ونوعية العلاقات فيما بين أعضائها.
أ ـ الأسباب الذاتية:
أبرزت في سياق هذا النوع من الأسباب ما له علاقة بالبعد التصوري، والبعد المعرفي، والبعد السلوكي.
1- البعد التصوري: يحتل هذا البعد مركز الصدارة، من حيث التحكم والتأثير في بناء الأسرة ونسيج علاقاتها وطبيعة سيرها، فهو يتعلق بالجهاز المفاهيمي التصوري، أو ما يسمى بالإطار المرجعي، الذي تحدد في ضوئه المواقف وأنماط السلوك الصادر من كلا الزوجين على حد سواء. فإذا كان توافق الزوجين في المرجعية الفكرية موجبًا للتماسك والانسجام، فإن الاختلاف فيها موجب للتنافر والانقسام.
ويدخل هذا الجانب فيما يسمى في الفقه الإسلامي بالكفاءة. فـ«الكفاءة» مفهوم علمي بالغ الأهمية، يعكس بعد نظرة الإسلام إلى مؤسسة الأسرة، وهو يتأسس على أبعاد معرفية علمية ونفسية واجتماعية واقتصادية، يتوجب مراعاتها عند تأسيس الأسر، مع الأخذ في الحسبان لكل حالة قدرها. وإذا كان هناك اختلاف بين الفقهاء حول إدراج بعض عناصر الكفاءة كالمال والنسب، فإن مقوم الدين يظل ثابتًا ضمن مقومات الكفاءة عند الجميع.
والحق أن استقراء الواقع الميداني للمجتمع يكشف لنا بأن الأسر التي تعرضت لخطر التفكك، ومن ثم إلى خطر الانهيار والزوال، قد أُوتيت من مقتل عدم إعطاء الكفاءة ما تستحقه من اعتبار. فما أكثر ما وقع من انزلاق كثير من الآباء أو أولياء الأمور إلى خطأ تزويج بناتهم المسلمات بأشخاص غير أكفاء لهن في الدين(1)، فأورثوهن معيشة ضنكًا وجحيمًا لا يطاق. ونفس الحكم ينسحب على رجال حجبت عنهم المظاهر الشكلية عند اختيار شريك الحياة، من جمال وغنى وحسب، خطورة الإقدام على الزواج بمن لسن ذوات كفاءة لهم في الدين، بفهم تعاليمه وتكاليفه فهمًا سليمًا، بالاستعداد النفسي الكامل، للإذعان والخضوع العملي لها، تمثلاً بقول الله سبحانه وتعالى: {فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (النساء:65).
ولــذلـك فـقـد حذر سيدنا رسول اللــه صلى الله عليه وسلم من مغـبـة الانـبهـار بالمعايير الزائفة عند الإقدام على الزواج، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تـزوجــوا النساء لـحسـنهن فـعسـى حسنهـن أن يرديـهـن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين»(1). وقــد ورد عــن النــبي صلى الله عليه وسلم قـوله: «إياكم وخضـراء الدمن، قالوا: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء»(2).
ويكفي أن نتمثل معنى الإرداء والإطغاء الواردين في الحديث لندرك سوء عاقبة ذلك على توازن الأسرة واستقرارها. فليس مع الانحدار الأخلاقي الناتج عن الغرور ،ولا مع الطغيان الناتج عن الغنى، إلا التنازع والصراع ثم الهلاك.
ويندرج تحت مفهوم الكفاءة، أو بتعبير أدق، يرتبط به، مفهوم آخر وهو مفهوم القوامة الذي يشكل الموقف السلبي لكلا الزوجين أو أحدهما منه أثرًا خطيرًا وساحقًا على تماسك الأسرة، فقد يقع مفهوم القوامة ضحية تعسف في الفهم والاستعمال من طرف الرجل، يحوله إلى أداة للقمع والطغيان.
وقد يقع المفهوم ضحية استهتار به من قبل المرأة (الزوجة) نابع من فهم سقيم للحرية، بفعل تأثير التيارات الليبرالية المنفلتة من أي ميزان، يتولد عنه رفـض بـات للقـوامـة، أو تخصيص الرجـل بـها، مـما يتحول معه بيت الزوجية إلى بؤرة للمشاكسة والنشوز والعناد.
ولمفهوم القوامة التقاء في بعض أبعاده بمفهوم الطاعة، الذي يشمل الزوجة كما يشمل الأولاد على حد سواء. فإذا كانت الطاعة في المعروف جالبة للخير والبركة والسلام، فإن التمرد والعصيان يجران الأسرة إلى أتون من الويلات والعذاب. وليست الطاعة أبدًا في ظل المنظومة التربوية الإسلامية مرادفًا للخنوع الذي يجرد شخصية الإنسان من خصائصها المميزة وقدرتها على الإبداع، بل إنها ذلك السلوك النبيل النابع من شعور مرهف بجملة من المعاني السامية التي لا يعقلها إلا العالمون. أما أصحاب القلوب القاسية، فقد حيل بينهم وبين ذلك المرتقى.. فعندما نقف مثلا أمام قوله سبحانه وتعالى في شأن علاقة الأبناء بالآباء: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} (الإسراء:24)، فإننا ندرك السر العميق والحكمة الكامنة من وراء هذا الأمر الرباني الجليل.
2- البعد السلوكي: إذا كان البعد التصوري المعرفي يعبر عن نفسه من خلال وعي الزوجين والأولاد، كل بموقعه ووظيفته في بنية الأسرة، وأن زيف هذا الوعي ينعكس سلبًا على تماسكها، فإن البعد السلوكي، على الرغم من علاقته الواضحة به، إلا أنه يملك قدرًا من الاستقلالية عنه، لأن السلوكات والممارسات لا تنتج بشكل تلقائي آلي عن المفاهيم والتصورات، فهي تحتاج إلى دربة وترويض تكتسب النفس من خلالهما أنماطًا من السلوك والمهارات، تصطحب معانيها ودلالتها بحسب اصطحابها للنية الخالصة والإرادة الحية الناضجة.
وهذه الحقيقة هي ما يفسر لنا كثيرًا من التناقضات التي يقع فيها كثير من الناس رغم اعتناقهم للإسلام، بسبب استخفاف يصدر منهم إزاء كثير من التشريعات، مما يدفعون ثمنه غاليًا من سعادة الأسرة وتماسك بنيانها. ومرد ذلك بلا ريب إلى الهوة العميقة بين التصورات والتصرفات، فضلاً عما تشكو منه التصورات عينها من تشوهات بسبب النقص على مستوى تحصيل المعارف الشرعية الهادية. وغير خاف على أولي الألباب ما يكمن وراء هذا الفصام النكد من غلبة موجات التغريب العاتية وما تمارسه من ضغوط للحيلولة دون استتباب الأمر لأي نموذج متكامل يحمل صفة الإسلام.
ولنضرب مثالاً على الفصام المذكور، أمرًا يتعلق بجانب من الجوانب التنظيمية المرتبطة بالأسرة في علاقته بأحد الضوابط الكفيلة بالمحافظة على حرمة بيت الزوجية، وبسد مداخل الشيطان التي تهب منها ريح السموم التي من شأنها أن تطيح بكيان الأسرة ولو بعد حين.
يتعلق الأمر بالاختلاط بين الرجال والنساء الأجانب، الذي حرمه الإسلام وحذر من مغبة سهامه القاتلة.. إن التساهل في أمر الاختلاط يشكل خرقًا خطيرًا تتسرب منه المياه إلى سفينة الأسرة، بسبب ما يؤدي إليه من تلوث لمناخ العلاقات بين الأسر، وما ينجم عنه من تفلتات، وفي أحسن الأحوال، من شكوك تلغم العلاقات الزوجية وتحولها إلى بؤرة من العذاب. وهذا فضلاً عن مثل السوء الذي يؤثر سلبًا في التشكيل الوجداني والنفسي للأطفال الذين يكتنفهم محيط الأسرة، ويتلقفون كل ما يجري فيه من سلوكات، شريرة كانت أم خيرة.
«لقد أحسست بفزع شديد وغثيان عارم وأنا أقرأ في عدد من جريدة «المسلمون» الغراء، بصفحة «المسلمات» عن مشكلة طرحتها إحدى النساء المتزوجات، تلتمس لها حلاً. وتكمن المشكلة في كون الزوجة الآثمة تشعر بميل جارف نحو زوج جارتها الذي يختلف كثيرًا - والتعبير لها- عن زوجها في الطموح والنجاح والبهجة والمرح، وتحسد زوجته عليه...! إن أول شيء نقرره هنا أن هذه المشكلة، وإن كانت تمثل نموذجًا صارخًا للتلوث الذي يعتري القلب فيصيبه بانفصام رهيب وازدواجية قاتلة، فإنها لا تمثل حالة نادرة في عصر سادته الفوضى واختلت فيه الموازين واخترقت فيه الحدود وديست القيم، فأصبحنا أمام خطر ماحق يهدد الأسر بالتفكك والمجتمع بالخراب»(1).
ولا يفوتني في تحليل هذه النقطة إبراز حقيقة في منتهى الخطورة والأهمية، كثيرًا ما يغفل عنها قطاع واسع من الناس، وهي أن مكر الماكرين وإصرارهم على تدجين الإنسان وتجفيف منابع الخير فيه، قد هداهم إلى أن المانع من كثير من الخبائث إنما هو خلق الحياء، فهو لب جهاز المناعة الواقي من الانحدار إلى أسفل سافلين، ومن ثم فإن سلب خلق الحياء من الكيان النفسي للإنسان يعد تدميرًا لذلك الجهاز النفسي في حياته، ومدخلاً واسعًا إلى الشرور والموبقات، فأحكموا خططهم(2)من أجل إنجاز هذه المهمة القذرة، ولا يزالون يجدّون ليل نهار من أجل تجريد الإنسان من آخر خيط في نسيج ستار الحياء، أحد شعب الإيمان التي أفردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر مع أعلاها، حيث قال عليه الصلاة والسلام: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعظمها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»(1).
ويعد هذا وجهًا من وجوه الإعجاز العلمي في مجال المعرفة بمداخل النفس وآليات الفعل التربوي، التي تزخر بها كنوز السنة النبوية الشريفة، فقد احتفت بهذا الخلق الرفيع بشكل لافت لأنظار أولي الألباب.
فإذا كان «الحياء لا يأتي إلا بخير»(2)، كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن فقدانه لا ينجم عنه إلا الشر، ومن أبرز هذا الشر، ذاك الذي يهاجم الأسرة، فيزرع في مفاصلها بذور التفكك والانحلال.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبـوة الأولى: إذا لم تستح فاصـنع ما شـئت»(3). وفيه تحذير بليغ من التفريط في الحياء، لأنه ليس بعد ضياعه إلا طوفان الفساد الذي يسلب الإنسان آدميته ويورده موارد الهلكة والبوار.
ب - عوامل موضوعية:
أميز في هذه العوامل بين ما ينتمي إلى الدائرة القريبة التي يمثلها محيط الأسرة الضيق، وبين ما ينتمي إلى الدائرة المتوسطة، أي المجتمع الصغير الذي يكتنف الأسر، وأخيرًا العوامل المتمثلة في مراكز التأثير والقرار الدولية، مع الإشارة إلى صعوبة الفصل بين هذه الدوائر، لأنها تشكل كتلة متراصة، على اعتبار أن جميعها رهين برؤى ثقافية واختيارات فكرية.
1 - الدائرة الصغرى: محيط الأسرة الداخلي: فإذا تناولنا الدائرة الأولى بالمعالجة، ألفيناها على قدر بالغ من الأهمية، لأنها تملك تأثيرًا مباشرًا على مجريات الأسرة وعلاقات أعضائها.
فغياب الأب أو الأم عن الأسرة بشكل غير عادي، أو لمدة أطول من المعقول، يخلف فراغًا نفسيًا وتربويًا تنعكس نتائجه السيئة على تماسك الأسرة ووحدتها والتحامها. فإذا كان غياب الأم بسبب العمل خارج البيت يتسبب في حرمان الأطفال من حقهم من العطف والحنان، فإن غياب الأب يترتب عنه علاوة على الحرمان من المدد العاطفي افتقاد الأسرة للمحور الجامع والراعي الأمين، الذي يمثل السلطة المادية والمعنوية التي تعمل على حفظ التوازن بين الرغبات، درءًا لحالة الفوضى والاضطراب، هذا في الحالة التي يكون فيها الأبوان في مستوى إدراك عظم المسؤولية تجاه الأبناء.
أما في الحالة المعاكسة، فإن الأبوين حتى مع وجودهما قد يكونان وبالاً على تماسك الأسرة واستقرارها، بسبب ما يحتدم بينهما من نزاعات تلقي بظلالها القاتمة على الأولاد، فيتراوح تأثير ذلك بين توريث هؤلاء الأولاد نزعة سوداوية تجاه الحياة قد تشكل خميرة لاستنساخ تجارب مريرة مماثلة أو أشد حدة، وبين أن يسقطوا صرعى لمظاهر من الانحراف السلوكي تزيد كيان الأسرة تفتيتًا وتفككًا. وقد تكون المعاملة غير العادلة من الآباء للأبناء مما ينتج عنه هزات عنيفة لكيان الأسرة بسبب ما يخلفه ذلك من ضغائن وأحقاد، وتكون تلك الهزات في شكل موجات محمومة من التوتر والقلق قد تفضي - إن لم تطوق في الوقت المناسب- إلى التنابذ والعداوة والشقاق.
ومن باب الاعتبار بما يقع للأقوام الآخرين من نكسات وانهيارات أسوق بعض ما أورده المؤلف الأمريكي ستيفن كوفاي في مؤلفه «العادات السبـع للعائلات الفـعالـة للغـاية»، حـيث يقـول: «إن 83% من الأسر في الولايــات المتــحدة تعمل فيها الزوجات خارج البيت مع إهمال كبير في غالب الأحيان لرعاية الأطفال، حيث يقضي الطفــل الأمريـكي يوميًا سبع ساعات أمام التلفاز، الذي يعرض الكثير من مشاهد العنف والـجنس والـخيانة الزوجـية. وتخلي الأبوين، والأم خاصة، عن التربية هو السبب الأساسي في الجنوح والإجرام»(1).
ومن العوامل التي تندرج تحت هذا الصنف الفرعي من العوامل الموضوعية ما يطلق عليه «صراع الأجيال». إن هذا العامل يتحول إلى مشكل فعلي يهدد الأسرة بالتفكك في الحالة التي يفتقد فيها الآباء عنصر الحكمة وحسن إدارة الاختلاف في الرؤى وفهم الأمور بينهم وبين أولادهم.
ويتعمق هذا المشكل تبعًا لعمق الهوة التي بين هؤلاء وهؤلاء على مستوى الثقافة والوعي، وكذلك في غياب تشرب الأولاد لقيم التربية الإسلامية الحاثة على طاعة الآباء والإحسان إليهم على كل حال.
2- المحيط المجتمعي: يساهم المحيط المجتمعي، بروافده السياسي والاجتماعي والثقافي والإعلامي والتعليمي التربوي، بشكل ملحوظ في توهين الوشائج المألوفة بين أعضاء مؤسسة الأسرة، في ظل تعميق النزعة الفردية. فتعدد الولاءات السياسية قد يجعل من أفراد الأسرة جزرًا متنافرة، كل يولي وجهه شطر ما يراه، معبرًا عن اختياراته الفكرية أو مصالحه المادية.
أما من الناحية الاجتماعية، فإن المفارقة بين فئات ممعنة في الترف وأخرى ممعنة في الفقر، تولد لدى الأولى دواعي الانحلال والانسلاخ من القيم الداعية إلى التماسك والائتلاف لحساب «الأنا» المنتفخة النزاعة إلى العبِّ من الشهوات حتى الثمالة. وتولد لدى الثانية أخـلاق القسوة واليأس وضيق الصدر، والنزوع إلى الصراع. ولا شك أن مستوى التماسك والتساند يتضرر في ظل الأسر المنتمية إلى هذين الصنفين من الفئات.
وعلى المستوى الثقافي، يشكل انسياق الفكر والثقافة في اتجاه منحرف عن هيمنة الإسلام وقيمه، كما يشكل الضخ الإعلامي العاتي وسيادة ثقافة الصورة وسحر التقنيات العالية الحبكة والإتقان، فتنة عمياء تسبب للناس ذهولاً عن بعضهم بعضًا، وتقذف بهم في غيبوبة بعيدة المدى.. ولا شك أن التماسك الأسري يتأذى من جراء هذه الوضعية الحرجة.
وقد التفت أحد المفكرين الغربيين إلى خطر العولمة على الأبنية والتضامن الاجتماعي، يقول سيرج لاتوش: «فمن خلال الإدماج الاقتصادي العالمي، ومن خلال العولمة الثقافية، ومن خلال ألف من القنوات المتباينة التي تتبادل تعزيز بعضها، تتسلل الفردية إلى كل مكان، وتتفشى بعمق متزايد دومًا في المجتمعات غير الغربية، على أن العقلية الفردية تمثل خميرة تحلل للعلاقة الاجتماعية، وهي تنخر في نسيج التضامنات التقليدية كسرطان»(1).
أما على الصعيد التعليمي التربوي، فتظل المناهج الدراسية الملغومة بأفكار وتصورات وقيم تعمل على استنساخ النموذج الغربي للعلاقة بين الرجل والمرأة بعامة، ولمفهوم الأسرة بخاصة، وكذلك للعلاقة بين الآباء والأبناء، تظل تلك المناهج تمثل معول هدم يفتك بعقول الناشئة الذين يراد منهم أن يشكلوا عوامل شرخ داخل حمى أسرهم بما يحملونه من أفكار تدعو للصراع بدل الوئام، وللفردية بدل الجماعية، وللإباحية بدل الالتزام بمكارم الأخلاق.
3- ثقافة حقوق الإنسان: قد يكون من دواعي الاستغراب أن تصنف ثقافة حقوق الإنسان ضمن عوامل المساهمة في تقويض دعائم التماسك الأسري! ومع ذلك فإن من الأكيد أن في المسألة وجهًا يعبر عن حقيقة هذا الحكم. ذلك أن ثقافة حقوق الإنسان بحمولتها الغربية والمتلبسة برؤية الإنسان الغربي للحياة وللإنسان، تقيم حواجز صارمة وجدرًا سميكة بين حقوق كل من المرأة والطفل، علاوة على عدم إيلاء أي اعتبار لحق الرجل (الزوج) وحق الأسرة وحق المجتمع.
هذا مع العلم أنه لا يمكن أن يتصور الإنسان العاقل حقوق هؤلاء منفصلاً بعضها عن بعض، فهي كل لا يقبل التبعيض.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري وهو يتحدث عن «العلمنة» الشاملة للأسرة والزواج، ما يتضمن تأكيدًا للحقيقة السالفة الذكر: «وتأخذ علمنة الأسرة شكل قيام الدولة بكثير من الوظائف التي كانت تضطلع بها الأسرة في السابق، مثل التعليم وتنشئة الأطفال، الأمر الذي يجعل الأسرة لا وظيفة لها، ثم يتحول أعضاء الأسرة بالتدريج إلى أفراد مستقلين، لكل حقوقه الكامنة فيه «حقوق الإنسان»، وتتحول الأسرة من أسرة ممتدة إلى أسر نووية، وتظهر بعد ذلك حقوق المرأة فحقوق الطفل، وبذا تبدأ الأسرة كوحدة متكاملة مبنية على التراحم في الاختفاء»(1).
ثالثًا: آثار التفكك الأسري
إن آثار التفكك الأسري، يتناسب حجمها وخطورتها مع حجم وخطورة موقع الأسرة من المجتمع باعتبارها النواة الرئيسة والشريان الحيوي الذي يختزن سر الامتداد الحضاري للبشرية. فبقدر ما تكون عليه من المنعة والتألق والعطاء، يكون حظ المجتمع من القوة والنمو المتوازن الذي يضمن سلامة الناس النفسية وتوازنهم الاجتماعي.. وبقدر ما تكون الصورة معكوسة، يكون حظ المجتمع بجميع مجالاته ومناشطه من التأزم والاضطراب واستنساخ الضعف والوهن. بل إن تداعيات التفكك الأسري، في حالة العجز عن محاصرتها وتحجيم جراثيمها، قادرة على الامتداد بآثارها إلى مكتسبات الحضارة الإنسانية والإجهاز عليها.
أ ـ آثار التفكك الأسري على شبكة العلاقات الاجتماعية:
إذا كان المجتمع في حقيقته كلاًّ مركبًا من جملة واسعة من التنظيمات الاجتماعية، فإن الأسرة تظل أبرزها من حيث ما هو موكول إليها من وظائف وأدوار، بل ومن حيث كونها تشكل المعين، الذي يتوقف على استمرار سيولته وقوته استمرار وقوة التنظيمات الاجتماعية الأخرى. ومن ثم فإننا نستطيع أن ندرك مدى التمزقات التي تتعرض لها شبكة العلاقات الاجتماعية، من جراء التفكك الذي تعاني منه مؤسسة الأسرة. لقد أدرك الناس خطورة الأمر ودق المفكرون وعلماء الاجتماع ناقوس الخطر، لما لاحظوه من سوء عواقب تآكل وظائف الأسرة، والنقص من أطرافها، بفعل الانسياق وراء ما أملته التحولات التكنولوجية والاقتصادية الهادرة من ضغوط وإكراهات.
إن القسط الوافر من نسيج العلاقات الاجتماعية، المفروض فيه أن يحاك في أحضان الأسرة. وليس ذلك النسيج إلا القيم والمعايير والميولات والاتجاهات التي يستنبطها الأفراد عبر ما يخضعون له من تنشئة اجتماعية. فإذا نضب معين ذلك النسيج استقالت الأسرة من أدوارها الحيوية، وكان ذلك إيذانًا بتعرض شبكة العلاقات الاجتماعية لافتقار خطير في دواليبها ومحركاتها.. وليس من حق أي واحد، بعد ذلك، أن يزعم أن هناك ما يقوم مقام الأسرة في أداء وظائفها المضيعة في خضم تطور أهوج وغير موزون.
إننا نعلم علم اليقين أن ما يسبح في المجال الثقافي للمجتمعات الإسلامية، من جراثيم الحداثة، يمارس أثره الهدام على شبكة العلاقة الاجتماعية، ومع ذلك، فقد كان بالإمكان التخفيف من حدة ذلك الأثر من موقع الأسر، لو ظلت على ما عهد فيها من تماسك والتحام، بسبب ما يؤهلها له طابعها الحميمي وجوها الدافئ وروحانيتها المشعة بفعل روابط العقيدة والرحم، وما هو منوط به من مهمة توحيد الغذاء التربوي للأفراد، وما يرتبط به من نظام الضوابط الباعثة على حفظ الأمن والتضامن الاجتماعيين.
إن ما أصبحنا نلحظه من تغلغل للفردانية في نسيج العلاقات الاجتماعية، على حساب روح الأخوة الإسلامية، إن هو إلا نتاج وبيل لتلاشي ذلك الروح في أوساط الأسر المفككة، مهما يكن نوع ذلك التفكك أو شكله أو درجته.
إن معنى «الجسدية» الذي يتضمنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(1)يجد تحققه، أول ما يجده، في النموذج الاجتماعي المصغر الذي تمثله الأسرة، فإذا انعدم هنالك بسبب داء التفكك، كان انعدامه في شبكة العلاقات الاجتماعية من باب الأولى والأحرى.
إن انفراد عقد الأسرة من خلال مخطط رهيب ينزع القوامة من يد الرجال، ويدحرج النساء إلى وراء جدران مملكتهن العريقة، ويودع الأطفال في مراكز تكتنفها الوحشة والبرود، إن ذلك ليعد حقًا جريمة لا تغتفر في حق الحضارة الآدمية، ويستوجب خوض جهاد مرير من أجل استرجاع الحصون الضائعة، أو التي توشك أن تضيع.
ب- آثار التفكك الأسري على التقاليد والقيم والتربية والثقافة:
إن الذي يحفز الأطفال وأعضاء الأسر على العموم على تلقف نظام القيم التربوية وتمثله عبر جهاز الشخصية الشعوري واللاشعوري، إنما هو ذلك المناخ الأسري السليم، المفعم بالمحبة والرحمة والوئام، ومرجع ذلك إلى أن النفوس مفطورة على تشرب القيم التي تتمثل في نماذج سلوكية متحركة، يتمثل فيها قدر وفير من القدوة الصالحة التي تملك عنصر الجاذبية والإقناع. وهذه العناصر تشكل شروطًا نفسية ومناخًا تربويًا، تتحول معها القيم المتمثلة إلى ثقافة، بمفهوم مالك بن نبي رحمه الله(1).
إذا كان الأمر كذلك، فإن الأسرة التي تعاني من داء التفكك تشكو لا محالة من اختلال يمس مستوى أدائها للأدوار والوظائف، المنوطة بها، والتي على رأسها وظيفة التنشئة الاجتماعية ونقل ميراث الأمة الثقافي للأجيال الناشئة، التي تقع فريسة توجيه التيارات الثقافية المتلاطمة في خضم المجتمع، والتي دفعت بها رياح العلمنة والتغريب.
وهكذا نصبح وجهًا لوجه أمام معضلة ثقافية وتربوية تتمثل في إفقار النسيج الثقافي التربوي للمجتمعات العربية والإسلامية، من خلال تعطيل عملية تنمية رصيد القيم المجسدة لروح الأمة، والممثلة لبرمجتها العقلية ومنهجها السلوكي، كل ذلك لحساب اكتساح مساحات أوسع من المجتمعات من طرف جحافل القيم الثقافية الخادمة للتحديث والعولمة.
إن عملية التنشئة الاجتماعية (...) «هي العملية التي بمقتضاها يتدرب الأفراد لكي يتوافقوا مع ضروريات الحياة المختلفة، ففي داخل الأسرة يتضمن النظام الأسري مجموعة من القواعد المشتركة تحقق النظام في العلاقات الأسرية، وتعمل على تلبية رغبات أفرادها (...)، ففي نطاق الأسرة يبدأ الطفل في تلقن الأوامر والقواعد المثالية للضبط الاجتماعي عن طريق والديه وإخوته الـكبار، عن طـريق تـرشـيده والـعمل علـى تـجنيـبه السلوك الـجامح أو المنحرف أو العادات المستهجنة، وإرشاده إلى خير الطرق الممكنة لتطويع مواقفه لمقتضيات الضوابط وقواعد آداب السلوك العامة»(1).
إذا تأملنا هذه الوظائف التي تقوم بها الأسرة، والتي تكتسي طابعًا تثقيفياً تربويًا بامتياز، أدركنا عظم الخسارة التي يتكبدها المجتمع جراء تفكك الأسرة وانهيار كيانها.
جـ- آثار التفكك الأسري على التنمية الشاملة:
يقول سيد دسوقي حسن في سياق طرح رؤيته حول «الهيكل الحضاري للتنمية»: «وما هي التنمية من جانب الدولة إن لم تكن هي التخلية بين الإنسان وترابه الوطني، يتفاعل معه في ظل عقيدة موحية بالخير، وشريعة منظمة لهذا الخير، حتى يصنع بنفسه ولنفسه طعامه وشرابه وكل حاجياته في هذه الحياة الدنيا، في حرية يتطلبها وجوده الإنساني، فإذا وضعت الدول من القوانين والأنظمة المتعارضة والمتضاربة في مجالات الحياة المختلفة ما يعوق الإنسان عن التفاعل مع ترابه الوطني، فلا تسل بعد ذلك عن تنمية أو نمو أو بقاء»(2).
وبصرف النظر عما يمكن إجراؤه من نقاش حول عناصر هذا التعـريف الهـام للتنـمية، فإن الـذي يعنيـني فيه، ارتباطًا بالنقطــة التي نحن بصدد تحليلها، هو التعليق الذي ذيل به، وهو الـمتمثل فيما يمكن أن تضعه أجهزة الدولة من قوانين وأنظمة تحمل في جوفها إعاقة لعجلة التنمية وتعطيلاً لآلياتها.. ذلك أن مما يمكن أن يمتد إليه مفعول الإعاقة، مؤسسة الأسرة، بسبب الألغام القانونية المؤهلة لنسف كيان الأسر، أو تعريضها للتفكك والخراب.. ومن الغريب أن كثيرًا من المشاريع (...) التي تقدم في بعض الدول من طرف اتجاهات علمانية، تقدم تحت شعارات تنموية، وهي في حقيقة أمرها لا تعدو أن تكون معاول لهدم الأسرة عن طريق تجريدها من سر قوتها، المتمثل فيما تنتجه من شروط نفسية وعاطفية وتنظيمية تمد الجهد التنموي بسنده الضروري.
وأضرب على ذلك مثالاً، ما قدم ضمن ما سمي بـ «خطة إدماج المرأة في التنمية»، أو تحت تسميات أخرى في بعض البلدان العربية، من أفـكار لا تخـلـو من الشــذوذ، ولعل مـدخـلها محاولة إعـادة الـنـظر بإدخال تعديلات جذرية على مدونة الأحوال الشخصية لكونها تمثل في منظورهم في صيغتها الحالية عائقًا أمام ولوج المرأة إلى عالم التنمية.
لقد طالبت تلك الأصوات بإلغاء النصوص المتعلقة بتعدد الزوجات واشتراط حضور الولي كركن من أركان النكاح، وبالتسوية في الميراث بين المرأة والرجل.. كما طالبت برفع سن الزواج إلى السنة الثامنة عشرة، وهذا إضافة إلى تبني أصحاب الخطة لبنود مؤتمر بكين، التي تفتح الباب على مصراعيه أمام كل أشكال الانسلاخ من قيم وأحكام الطهر والفضيلة والعفاف، والارتماء في أحضان الممارسات الإباحية.
إن مثل هذه الأفكار والتصورات، إن وجدت طريقها إلى التطبيق، ستعصف بالأسرة وتنسفها من جذورها، وتحرم المجتمع من الإنتاج السليم لأعظم مقوم للتنمية وهو الإنسان السوي، ذلك أن من شأن مثل هذه الخطط أن تحول المجتمع إلى مباءة تشيع فيها الفاحشة، فيصير إلى وضع ينقطع منه فيه النسل بسبب إباحة الإجهاض المخلص من ثمار الزنا، والذي حتى في خروجه إلى الحياة سيكون نسلا ًمشؤومًا على المجتمع، بفعل عقدة اللاهوية، وحرمانه من مقومات التنشئة الصحيحة.
أضف إلى ذلك أن ما تقره الخطط العلمانية للتنمية من خروج المرأة بكثافة إلى ميادين العمل(1)، يعد في الحقيقة مدخلاً إلى اللاتنمية. ذلك أن هذه الظاهرة تؤدي إلى التضييق من فرص الشغل أمام الرجال، فيرتفع معدل البطالة في المجتمع مما يعمق فيه هوة التخلف الاجتماعي والاقتصادي فضلاً عن مستويات التخلف الأخرى.
رابعًا: وسائل وكيفية العلاج
مما درجنا على سماعه وتداوله، ونحن صغار، مقولة «الإنسان ابن بيئته»، وعلى الرغم مما تمثله هذه المقولة المسكوكة من أوجه الحقيقة والواقع، فإن ذلك لا ينبغي أن يحجب عنا حقيقة كون الإنسان، بما يملكه من سر الإرادة والقدرة على التحدي والمغالبة، قادر على تجاوز سلطان البيئة وجواذبها المعقدة، شريطة أن يكون ذلك الإنسان من الطراز الرفيع الذي خضع لبرمجة عقلية صارمة تؤهله لفهم ما حوله، والتفاعل معه بالشكل الإيجابي.
ومن ثم فلا مناص من أن يكون المدخل الأساس لدرء المفاسد التي تهاجم الأسرة وتنخر عظامها وتودي ببنائها، هو إعادة هيكلة الإنسان من خلال تنميته وبرمجته بإحكام، وفق منهج تربوي شامل ومتوازن، يستهدف كل مكونات شخصيته، من أجل استعادة فاعليته لتمارس نـشاطها وإبـداعـها، من أجـل إعـادة بناء نسيج الـحياة الاجتماعية على أساس ما توخاه الإسلام من أهداف وغايات، وما سطره لإنجازها من وسائل وآليات. والحق أن هذا الهدف ممكن التحقق إلى حد بعيد، ما لم يصطدم بإرادات معاكسة تسعى إلى إدامة هذا الوضع المأزوم الذي تراه خادمًا لأغراضها الرخيصة وأحلامها الطائشة.
يقول الأستاذ عمر عبيد حسنه مبينًا هذه الحقيقة الكبرى، كاشفًا عن ملامحها ومكنوناتها: «إن إعادة بناء الحاضر، والاستشراف الصحيح لصناعة المستقبل، وتقويم واقع الأمة بتعاليم الكتاب والسنة، وتحديد مواطن الخلل والإصابة، التي تعيق النهوض، منوط إلى حد بعيد بقدرتنا على إعادة تشكيل مركز الرؤية للعقل المسلم، ودراسة أسباب الإصابات التي لحقت به، ورسم سبيل الخروج به من الأزمة، وتحقيق الانعتاق العقلي، والتحرر من أسر البيئة، والمناخ الثقافي الذي يحيط به، وإخراجه من تحكم الأبنية المسبقة، والعودة به إلى التزام القيم المعصومة في الكتاب والسنة، في معايرته للواقع وتنقيته لموارده الفكرية التي تساهم في تشكيله»(1).
إن جماع الإصابات والعلل، التي تكشَّف لنا وقوفها وراء داء التفكك الأسري، إنما مردها في نهاية التحليل إلى طبيعة الشاكلة الثقافية، التي تحكم سلوك الأفراد على اختلاف مواقعهم ووظائفهم في تشكيلات الأسر. ورغم التفريق في هذه الدراسة بين أسباب ذاتية وأسباب موضوعية، فإن مرد هذه إلى تلك في حقيقة الأمر.
ومع ذلك، فإن هذا لا ينفـي استقــلالـية الـعوامـل الـموضوعية بكيانها واحتوائها على إمكانية هائلة للجذب والتشكيل، وهذا يتطلب تغييرها والتقليل من شرورها بحسب الوسع. وحظوظ النجاح في ذلك رهينة بطبيعة استعداد مراكز القرار والتوجيه، وبحسب ما يظهره الواقع، فإنه لا محيص عن مواجهة قدر المدافعة والصراع، في ظل عالم يشكل فيه طابور الفساد قوة مدججة بأعتى الـخطط من أجل إبـقاء الإنـسان مـكبل العــقل، مشـلول الإرادة إزاء ما يحاك له ويجري أمام عينيه من أحداث.
إن المدخل الرئيس لتأسيس عملية تغيير الواقع الفاسد والمهترئ، وفي صلبه واقع الأسرة المتردي، هو «إعادة تشكيل مركز الرؤية للعقل المسلم» على حد تعبير الأستاذ عمر عبيد حسنه.
وسأحاول فيما يلي - وبشكل مركز، أن أستعرض دور بعض القنوات والوسائل، التي ينبغي تضافرها لإنجاز هذا الفعل الحضاري.
أ- دور التربية الدينية الإسلامية:
إن ما يمكن أن تصنعه التربية الدينية الإسلامية، في خصوص موضوع الأسرة أمر هام وعظيم، خاصة وأن ما تسعى إلى تأسيسه وترسيخه في عقول وشخصيات الناشئة، تقيمه على أساس مفهوم القداسة والربانية، الذي يعتبر الإخلال به علامة على نقص في الإيمان، والالتزام يفرض في كل مسلم أن يربأ بنفسه عن السقوط في شركه.
إن مما تزود به التربية الدينية الإسلامية، الناشئة، سواء عبر قناة الأسرة نفسها أو قناة المؤسسة التعليمية:
أولاً: إدراك مفهوم الفطرة التي فطر الله الناس عليها قال تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} (الروم:30)، وتعميق الاستعداد النفسي لاحترام الفطرة والخضوع لمقتضياتها، والتنبيه إلى العواقب الوخيمة والمدمرة التي تنجم عن مخالفتها ومعاندتها(1).
ثانيًا: إبراز سنن التكامل بين الرجل والمرأة كسنة كونية، يؤدي تجاهلها إلى خسائر فادحة على مستوى سير الحضارة الإنسانية، وعلى مستوى سعادة الإنسان وشعوره بمعنى الحياة.
وأن هذا التكامل قائم على اختلاف الخلقة بينهما.. وفي هذا يقول الدكتور الشاهد البوشيخي: «إن اختلاف الخلقة تابع لاختلاف الوظيفة، وإن تمايز الخواص مؤذن بتمايز الاختصاص»(1)، ومن ثم فإن أي تعطيل لوظيفة أي كائن، موجب لانقراض ذلك الكائن(2).
وبناء عليه، تهدم خرافة المساواة بمفهومها الفج في أفهام الناشئة، وخاصة في مرحلة المراهقة التي تسبق إبان الاستعداد للزواج، مما يمكن من إبعاد فكرة الصراع بين الرجل والمرأة، التي قضت على الأمن، وتسببت في إشعال الحروب في كثير من الأسر.
ثالثًا: ترسيخ إحساس كل من الجنسين بالاعتزاز بجنسه، وتقوية استعداده للعـمـل عـلى خــدمـة مجـتمعه وأمـته، بـمقتضـى ما يؤهله له ذلك التميز الذي يعكس أحد مظاهر الحكمة ودلائل قدرة الباري سبحانه وتعالى.
رابعًا: تزكية نفوس الناشئين من خلال القرآن والسنة، بجملة من القيم التي من شأنها أن تشكل حصنًا واقيًا من كل ما يهدد أمن الأسرة واستقرارها، بعد مرحلة التأسيس وذلك مثل الغيرة والحياء، والعفة والطهارة، والصبر وعرفان الفضل والجميل، وغيرها، فضلاً عن ضرورة إدراك الآليات والمهارات واكتساب الاتجاهات والعادات المساعدة على التزام الحكمة وحسن التدبير في التعامل مع الأسرة وتسيير شؤونها.
خامسًا: شرح خطة الزواج الشاملة بما يستلزمه من أركان وشروط، ومن مؤهلات مادية ومعنوية وما يتوخاه من مقاصد تعبدية ونفسية واجتماعية وعمرانية.
سادسًا: إعطاء القدوة الصالحة من طرف الآباء، فيما يتعلق بحسن قيادة الأسرة وفق قواعد المنهج الإسلامي، التي تجمع بين الحزم واليقظة والرفق والرحمة، يعد أسلوباً ناجعًا في إعداد الشباب ليكونوا في المستقبل قادة ناجحين لأسر هادئة تمارس وظيفة الاستخلاف بثقة واقتدار، وتساهم في الحفاظ على الإرث الحضاري الثمين.
سابعًا: عرض نتائج الدراسات حول وضعية «الأسرة» في المجتمعات الغربية، من باب الاعتبار بما أصابها من كوارث ونكبات، وما حل بها من أوجه العذاب.
ب- دور المؤسسة التربوية التعليمية:
إن الدور الرائد الذي تقدمه التربية الدينية الإسلامية لا بد أن يعزز بما يقدم لأجيال المتعلمين على مستوى المؤسسة التربوية التعليمية، من قيم ومفاهيم، تحقيقًا للتجانس والانسجام في أذهان المتعلمين، ودرءًا لفتنة التشويش التي يمكن أن تمارسها القيم المتعارضة الممررة عبر المناهج المتعددة لمواد المنظومة التعليمية التربوية. وهذا ما يفرض بإلحاح تحقيق مطلب أسلمة المناهج الدراسية والمنظومات التعليمية في البلاد العربية الإسلامية، فهو سبيل الخروج من الأزمة، الذي يتعذر في غيابه التحرر من عقابيل الفصام النكد الذي يخترق نفوس المستهدَفين، بمناهج ملغمة بقيم تنسف الهوية الإسلامية وتشوه النموذج الإسلامي في أعينهم بأساليب ماكرة، فيتعرضوا جراء ذلك للقلق والاضطراب، مما يحرمهم من القدرة مستقبلاً على تأسيس أسر ناجحة وسعيدة.
إن على المسؤولين عن المؤسسة التربوية التعليمية في البلدان العربية والإسلامية أن يضعوا نصب أعينهم، وهم يخططون لمخرجات التعليم، وما يرجى منه من ثمار، أن إعداد المتعلمين ليكونوا أزواجًا وآباءً وأمهات صالحين، ضمن أسر تكون حصونًا لرعاية الفطرة وإسداء الخير للأمة، ينبغي أن يكون على رأس الأولويات، وإن عدم وضع ذلك في الحسبان كاف وحده ليحكم على المنظومات التربوية التعليمية بالعبثية والعقم.
جـ - دور المؤسسات الثقافية والإعلامية:
إذا كانت المؤسسات التربوية التعليمية، ينتظر منها أن تؤدي دورها في صفوف الناشئة من الأطفال واليافعين والمراهقين والشباب، وذلك على مستوى التهيئ القَبْلي، بمقتضى استراتيجية مستقبلية تتعهد الفسائل والشتائل بالعناية والرعاية، فإن ما عدا هؤلاء من شرائح المجتمع المتفاوتة من حيث حظها في الثقافة والتعليم، ينبغي أن تتولى أمرها المؤسسات الثقافية والإعلامية التي ينبغي أن يحكمها منظور هادف، ينطلق من اختيارات تنموية شاملة تجعل همها الارتقاء بمستوى وعي الجماهير، وجعلهم يندرجون بشكل إيجابي في عملية التنمية.
ولن تتأتى أية تنمية حقيقية في ظل نسيج أسري تمزقه الصراعات وتنهكه الضغائن والأحقاد، وينتج أجيالاً من الضعفاء الفاشلين.
وأول مؤسسة تبرز في هذا السياق هي مؤسسة المسجد، أول مؤسسة إعلامية في الإسلام، وأعظمها على الإطلاق، فهي تمتاز عن غيرها بما تكتسيه من طابع القداسة، وما يكتنفها من أجواء روحانية تتفتح لها القلوب وتستشعر رغبة عميقة في تقبل ما يلقى من نصح وموعظة.. وهذه فرصة يجدر بالوعاظ والخطباء أن ينتهزوها لرأب الصدوع التي تتعرض لها الأسر، من خلال ترغيب الناس فيما عند الله من أجر لكل من أحسن عشرة زوجه وعياله، انطلاقًا من كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فموضوع الأسرة وما يقوم عليه من أسس ومقومات، ينبغي أن يكون من أهم الموضوعات التي يحسن جعلها من الأولويات.
أما المؤسسات الأخرى التي تدخل فيما يطلق عليه: المجتمع المدني أو المجتمع الأهلي، فبمقدورها، إن هي تأسست على اختيارات إسلامية، أن تقدم خدمة جليلة في هذا السبيل، بواسطة ما تقدمه من محاضرات وندوات وبرامج لمحو الأمية، وأنشطة لفائدة الرجال والنساء والأطفال، هدفها المساهمة في التعبئة الثقافية وسد الثغرات التي يشكو منها هؤلاء على مستوى الوعي بأهداف الأسرة وبمقومات سعادتها واستقرارها، وعلى مستوى الوعي الاجتماعي بشكل عام.
ونفس الأهداف ينبغي أن تحملها على عاتقها وسائل الإعلام الأخرى، وخاصة منها المسموعة والمرئية، نظرًا لسعة امتدادها وقوة نفوذها وتأثيرها، بفعل تنوع الأشكال التي تعرض عبرها برامجها ومحتوياتها، والتقنيات المتطورة التي تتذرع بها في ذلك.
ومجمل القول: إن المؤسسات الثقافية والإعلامية في البلاد الإسلامية، بوسعها، إن تهيأ لها من يرشدها ويحدد لها ميثاقًا يضبط حركتها ومسارها، أن تساهم بفاعلية في تطهير المجال الثقافي مما ران عليه من طفيليات، فتفتح الباب واسعًا أمام عودة الروح للفرد والمجتمع من خلال إعادة الارتباط مع المرجعية الأصيلة للأمة، القادرة دون غيرها على إخراج مكنوناتها وتجديد نسيجها.
إن «البحث في مقومات الشخصية الناضجة القادرة على حمل مسؤولياتها، وفي القيم التي تبعث الفاعلية في الأمة وتؤهلها لحسن استثمار مقدراتها، وتلك التي تحول دون النضج والفاعلية، ضرورة ماسة لتحديد منطلقات الإصلاح وأولويات التجديد. فهذا البحث هو بعض مظاهر «الحكمة» التي أعطاها الله الموقع الأول في مناهج الدعوة إليه، حين خاطب رسوله بقوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} (النحل:125)(1).
والحمد لله رب العالمين.