معلم متقاعد
08-12-2010, 05:50 PM
الذكاء ، تعريفه ونظرياته
أ. د. سامي عبد القوي
أستاذ علم النفس العصبي
يعد الذكاء من الموضوعات الهامة التي شغلت علماء النفس بعامة، والباحثين في القدرات العقلية بوجه خاص. وقد ثار الجدل حول هذا الموضوع ربما إلى الحد الذي لم تشغله موضوعات أخرى من موضوعات علم النفس بنفس الدرجة من الاهتمام. وقد أختلف العلماء حول ماهية الذكاء، وتوقفوا كثيراً عند قضية ما إذا كان موروثاً أم مكتسباً. بمعنى آخر تساءلوا عما إذا كان الإنسان يولد بقدر من الذكاء لا يمكن تجاوزه مهما تعرض للمثيرات البيئية، أم أن ظروف البيئة المناسبة والغنية بالمثيرات يمكنها أن تزيد من ذكاء الإنسان، وتزيد من تنمية قدراته العقلية؟.
والواقع أن موضوع الذكاء موضوع متشابك الأبعاد، ومتعدد الجوانب، ولسنا بصدد دراسته كما لو كنا نقوم بدراسة أحد موضوعات علم النفس بالتفصيل. ولكن ما يهمنا في هذا السياق تناول أثر العوامل البيولوجية المختلفة على الذكاء. ومع ذلك فهناك ضرورة تجعلنا نقف ولو قليلاً حول ما تعنيه كلمة الذكاء، وكيفية قياسه.
- تعريف الذكاء:-
تُعد كلمة الذكاء مصطلحاً علمياً يختلف عن مدلول الكلمة في الحياة اليومية من قبيل أن يصف البعض فرداً ما بأنه ذكي، أو ينعتون آخر بأنه غبي. فما الذي نعنيه بكلمة الذكاء من الناحية العلمية؟.
إن الإجابة على السؤال الذي طرحناه الآن أمر ليس بالبساطة التي يبدو عليها السؤال، لأن الذكاء من الموضوعات التي أختلف العلماء حولها على نطاق كبير. فمنهم من ينظر إليه من ناحية وظيفته، ومنهم من ينظر إليه من ناحية مكوناته. وقد وصل الأمر إلى الحد الذي بسّط فيه البعض تعريفه قائلاً بأن الذكاء هو ما تقيسه اختبارات الذكاء، وكأننا بذلك نعرف الشيء بنفسه، أو كما يقول الشاعر (عرّف الماء بعد الجهد بالماء).
وبداية يرجع الفضل إلى كل من جالتون وبينيه Binet في استخدام وتداول كلمة الذكاء، حيث حاول كل منهما أن يضع من الاختبارات ما يُمكنه من قياس هذه القدرة العامة. وسوف نستعرض على وجه السرعة أكثر تعريفات الذكاء انتشارا، بغرض الوقوف على ما تعنيه الكلمة، ومدى الاختلاف الذي نراه بين العلماء في هذا الصدد. ويُعرف بينيه الذكاء على أنه الميل إلى إتباع والاحتفاظ باتجاه عقلي محدد، والقدرة على إجراء تعديلات للوصول إلى هدف نهائي، مع القدرة على النقد الذاتي. فالذكاء عند يعني القدرة على الحكم السليم. وهذه القدرة تشتمل على أربع عناصر أساسية هي توجيه الفكر في اتجاه معين، والاستمرار في هذا الاتجاه، ثم الفهم والابتكار، وأخيراً نقد الأفكار ووزن قيمتها.
أما شتيرنStern فيُعرف الذكاء على أنه " القدرة على تحقيق التكيف عقلياً لمشاكل الحياة وظروفها الجديدة. ويعرفه تيرمانTerman على أنه القدرة على التفكير المجرد. ويعرفه كوهلرKohler على أنه القدرة على إدراك العلاقات. وأخيراً يعرفه وكسلر Wecksler على أنه القدرة الكلية على التفكير العاقل والمنطقي، والسلوك الهادف ذي التأثير الفعال في البيئة. وهذه القدرة العامة تتكون من قدرات مختلفة.
وكما نرى فإن كل تعريف من التعريفات السابقة نظر إلى الذكاء من وجهة خاصة لا تجعلنا قادرين على وضع تعريف شامل ومانع لهذه الكلمة. ومع ذلك يتبين لنا أن تعريف الذكاء تعريفاً جامعاً يجب أن يتضمن أكثر من خاصية عقلية. فالذكاء يجمع مجموعة من الخصائص العقلية، والقدرات، والمهارات، وبعض جوانب السلوك التي تساعد الفرد على الاستفادة من الخبرة السابقة، والسيطرة على المشكلات التي تواجهه خلال تكيفاته اليومية لواقعه. وبشكل عام فإن الذكاء بمعناه العلمي يُشير إلى تكوين فرضي، أي أننا لا نلاحظ الذكاء بطريقة مباشرة، ولا نقيسه قياساً مباشراً، وإنما نستدل على آثاره ونتائجه، مثله في ذلك مثل الطاقة الكهربية أو المغناطيسية التي لا يمكن أن نراها بشكل مباشر، وإنما نتعرف عليها من خلال ما تتركه من آثار ونتائج.
- نظريات الذكاء:-
هناك مجموعة من النظريات التي تتعامل مع الذكاء وطبيعته يمكن إيجازها فيما يلي:-
1- النظريات البيولوجية.
2- النظريات البيئية.
3- النظريات النمائية.
1- النظريات البيولوجية:-
تنظر هذه النظريات إلى الذكاء باعتباره قدرة تقوم على أساس بيولوجي، فهي تراه قدرة عامة موروثة، تطورت مع تطور الفرد والنوع. وتُعرف هذه النظريات الذكاء على أنه القدرة على الاستفادة من الخبرة، ومواءمة العالم المحيط، والمرونة أو القدرة على التعلم. ومن أصحاب هذا الاتجاه دارون، ومورجان، وماكدوجال، وبينيه. وتعود فكرة غلبة العوامل الوراثية في تحديد الذكاء إلى سير فرانسيس جالتون الذي نشر عام 1869 كتابه المعنون "وراثة العبقرية" وأكد فيه أن القدرات العقلية متوارثة بين الأجيال، وأنها تبرز في أسر بعينها، وتسير داخل أجيال متعاقبة في هذه الأسر. (أنظر تفاصيل هذا الرأي في الفصل الرابع من هذا الكتاب).
وتلي جالتون العديد من الباحثين الذين حاولوا تأكيد هذا الرأي، وأصبح الإنسان في رأي الحتميين البيولوجيين مجرد أسلوب من حمض (الدنا) وأن الجينات هي القوة الكامنة خلف العرش السلوكي. وبالتالي فإن الذكاء ما هو إلا مركب وراثي ضروري للبقاء، وأن البيئة تمد الإنسان بمجموعة من المتغيرات فحسب، وهذه المتغيرات تختار الجينات ما تراه مناسباً منها للتكيف مع البيئة التي توجد فيها هذه الجينات. وإلا فكيف لنا أن نفسر حالات متلازمة داون، والبول الفينايلكيتوني، وغيرها من الحالات التي تتسبب الوراثة في سمة الضعف العقلي الموجودة فيها.
وقد سادت نظرية الذكاء الفطري (المحدد وراثياً) لسنوات طويلة، أكدت فيها أن 80-90% من الذكاء محدد وراثياً، الأمر الذي أدى إلى إساءة استخدام هذه النظرية لأغراض سياسية. فقد كان يُشار دائماً إلى أن السود أقل ذكاءً من البيض، ومن ثم أعلن تفوق الرجل الأبيض، مما دفع الدول الاستعمارية إلى استغلال منظور الوراثة هذا، وقامت باستغلال شعوب العالم الثالث، ونهب ثرواتها تحت دعوى أن هذه الشعوب لا تعرف كيف تستفيد من هذه الثروات، وأن الرجل الأبيض إنما جاء من أجل تنمية هذه الشعوب. بل إن هذه المسألة أتاحت داخل الدول الاستعمارية نفسها تبرير التفاوت الطبقي والاجتماعي والاقتصادي القائم بين أفراد مجتمعات هذه الدول. ووصل الأمر إلى دعوة هتلر الشهيرة بسيادة الجنس الآري على سائر الأجناس، وما تلي ذلك من نتائج الحروب.
ومن أكثر القضايا التي أثيرت حول دور الوراثة في تحديد الذكاء الفضيحة العلمية الشهيرة التي نسبت إلى عالم النفس الإنجليزي - بل ومؤسس علم النفس البريطاني - الشهير سيريل بيرتC. Burt، والذي نشر مقالاته العديدة حول تأكيد هذا الدور.وقد وجهت له بعد وفاته (عام 1971) تهمة التزييف العلمي لكل ما توصل إليه من نتائج دراساته التي تشير إلى تأكيد دور الوراثة في الذكاء. فقد ظل بيرت يروّج لمدة عشرين عاماً لهذا التأثير الوراثي من خلال أكبر دراسة أُجريت على التوائم المتطابقة المنفصلة (55 زوجاً) وكانت معاملات الارتباط التي سجلها مرتفعة جداً. وأوضحت الدراسات أن ما كان يفعله بيرت يشير إلى أنه الوحيد الذي تمكن من أن يقيس كمياً تشابه ظروف البيئة التي نشأت فيها أزواج التوائم، مما جعله يشير إلى أنه لا توجد أدنى علاقة إرتباطية بأي حال من الأحوال بين ظروف بيئة التوائم المنفصلة. بل أنه أدعى أنه الوحيد الذي أجرى نفس اختبار معامل الذكاء على أفراد المجموعات التي تناولها حتى أعلى درجات سلم القرابة، وأشار إلى علاقات ترابط لم يسبق لأحد قط غيره تسجيلها.
وحقيقة الأمر أن كل معطيات بيرت قام بتسجيلها ونشرها بأسلوب مفضوح ومثير للشك. فهو لا يعطي أي وصف لكيفية جمع معلوماته ومكانها ووقتها. كما تجاهل تماماً القواعد العلمية لكتابة تقاريره عن هذه الأبحاث، بل إنه لم يُعرّف تعريفاً علمياً اختبار معامل الذكاء الذي أستخدمه، والذي يفترض أنه طبقه على الآلاف من أقارب أزواج التوائم. ومن أكثر المغالطات التي وقع فيها بيرت أنه أعلن أن معامل ارتباط الذكاء على عينة من التوائم (12وزجاً) عام 1955 كان 771,0، ثم أشار عام 1958 إلى أن عدد التوائم بلغ ثلاثين زوجاً، وكان معامل ارتباط الذكاء أيضاً 771,0، بل إنه أشار إلى نفس معامل الارتباط عام 1966 حين بلغ عدد التوائم المستخدمة في الدراسة 53 زوجاً. وهذا الميل الملحوظ لأن تبقى معاملات الإرتباط متطابقة حتى الرقم العشري الثالث، كان ينطبق أيضاً على دراساتبيرت على التوائم المتطابقة غير المنفصلة. وكل هذه النتائج التي تم اكتشاف (فبركتها) وتزييف نتائج دراساته التي أجراها على التوائم، والتي أستخرج منها معاملات ارتباط تؤكد نظريته في وراثة الذكاء، أتضح بعد ذلك أنها نتائج لم تقم على أسس إحصائية سليمة. بل تبين أنه أختلق أسماء وهمية غير معروفة أشار إلى أنها كانت تُعلق على بحوثه في هذا المجال. كما أنه كان يقوم بنقل بعض نتائجه من مكان لآخر بغرض زيادة نسبة النتائج، وذلك من أجل تدعيم نتائجه السابقة. وكان نتيجة كل هذا أن ثارت الشكوك حول ما كان سائداً عن تأثير الوراثة كمحدد وحيد لتحديد الذكاء.
2- النظريات البيئية:-
يرى أصحاب هذه النظريات أن الذكاء يتأثر إلى حد بعيد بالخبرة والتأثيرات الحضارية والبيئية. وأن الطفل الذي يتعرض لبيئة غنية بالمثيرات والتنبيهات يزيد معامل ذكاؤه بدرجة ملحوظة. وقد دعمت هذه النظريات وجهة نظرها من خلال الدراسات التي أُجريت على التوائم المنفصلة والتي تربت في بيئات مختلفة وتعرضت لعوامل بيئية تختلف في ثرائها من حيث المثيرات. ولذلك فإن البرامج التوجيهية وبرامج التدريب يمكنها أن تساعد على نمو ذكاء الطفل حتى لو كان يعاني قدراً ما من النقص العقلي. كما يمكن تنمية معارف الطفل عن طريق الإدراك وتدريب الحواس البصرية والسمعية واللمسية والذوقية مما يزيد من درجة انتباهه للبيئة المحيطة. كما يمكن التعامل مع حاجات الطفل المعوق عقلياً بما يساعد على إشباعها، وبالتالي يقل الإحساس بالعجز، وتزيد القدرة على التكيف.
3- النظريات النمائية:-
لا تمثل تيارات البيولوجيين أو البيئيين كل التيارات التي حاولت الفصل في مدى تأثير كل من الوراثة والبيئة على الذكاء، بل ظهر فريق ثالث قامت نظرياته على محاولة التوفيق بين التيارين السابقين، واضعاً نظريات نمائية هي بحق أقرب النظريات إلى الصحة، وأكثرها توفيقاً في تفسير طبيعة الذكاء. ومن أمثله علماء هذا الاتجاه عالم النفس الأمريكي هب Hebb، وعالم النفس السويسري الشهير جان بياجيهJ. Piaget.
أ- نظرية هب:-
حاول هب إيجاد الصلة بين الذكاء والعوامل الوراثية المتمثلة في الأداء الفسيولوجي للمخ من ناحية، وبين الذكاء وتأثيرات البيئة من ناحية أخرى. فهو يرى أن خبرات الطفل في السنة الأولى تقود إلى تكوين تجمعات من الخلايا العصبية في المناطق الاقترانية أو الارتباطية Association areas في المخ. وأن الإدراك يعتمد على فرع مستقل من هذا التجمع العصبي، وينتج عنه ما يسمى بالمخططات العقلية Mental schemas التي تعتمد في تكونّها على الإحساسات وخاصة السمعية والبصرية واللمسية. وتعتبر هذه المخططات بمثابة الإطار الذي تنتظم فيه كل خبرة الطفل لتكوين الفكرة أو المفهومConcept. وكل ما يمر به الطفل من خبرات تالية إنما يدخل الشعور عن طريق ربطه بكل ما جرى من قبل. ويرى هب أنه كي يحدث النمو العقلي السليم فلابد من وجود المخططات العقلية في زمنها المناسب لأنها الأسس اللازمة للاستمرار في التعلم المتقدم.
ويفرّق هب بين نوعين من الذكاء هما:-
1- الذكاء (أ):
ويقصد به الذكاء الوراثي بصورة كامنة، فهو ذكاء فطري يعتمد على حجم المخ، ويمثل كفاءة الجملة العصبية من تكوين المخططات والاحتفاظ بها وتمازجها. وهو في المدى البعيد تحدده الوراثة والجينات التي تقوم بدورها في تكوين المخ وخلاياه. ويرى هب أن الطفل الذي يولد بخلايا عصبية أقل، يصبح أقرب لأن يكون متخلفاً بشدة من حيث مستوى أدائه العقلي.
2- الذكاء (ب):
ويقصد به الكفاءة العقلية الحاضرة، ويمثل الإمكانات العقلية التي بنيت أثناء سنوات العمر الأولى، والتي لا يمكن أن تنمو إلا من خلال إثارة البيئة المحيطة. ويرى هب أن تطور القدرة العقلية للفرد يتطلب تنبيهات مستمرة من البيئة الخارجية، وبالتالي يكون المستوى الحقيقي للأداء العقلي عبارة عن ما يحصله الفرد بإمكاناته الموروثة كنتيجة للمنبهات التي يتلقاها من البيئة.
ويشير هب إلى طبيعة الذكاء من حيث هو تكوين فرضي لا نقيسه بشكل مباشر من خلال اختبارات الذكاء، ومن ثم فإن الذكاء الذي تقيسه مقاييس الذكاء يجب ألا نعتبره قابلية للتوريث بصورة محضة، لأننا في الواقع نقيس مظاهر الذكاء وليس الذكاء نفسه.
ب- نظرية بياجيه:-
يُعد جان بياجيه (1886-1967) أهم من حاول صياغة قوانين نمو التفكير واللغة وإرتقاء الذكاء عند الطفل عبر مراحل تطوره. ويرى بياجيه أن الذكاء ليس ملكة واحدة متميزة، بل هو موجود في كل العمليات التكيفية عند الحيوانات، والأطفال والراشدين.
ويشير بياجيه إلى أن عملية انبثاق التفكير والصور تتم من خلال مخطط عقلي مناسب. فالطفل أبن السنتين عندما يرغب في الوصول إلى لعبة موجودة على الرف مثلاً، لا يذهب إلى الرف ويحاول الحصول عليها، فيعجز ويأتي بكرسي يقف عليه ليحصل على اللعبة، وإنما يذهب مباشرة إلى الكرسي ويحمله ويعتليه. ومعنى ذلك أنه حصل على مخطط عقلي يناسب طبيعة المشكلة التي يريد حلها.
وتلعب اللغة عند طفل السنتين دوراً رئيسياً في تكوين مخططاته العقلية. إنها تساعده على تصنيف مدركاته وتثبيتها، إذ تُصبح للأشياء والأحداث هوية متميزة عن طريق إعطائها أسماء متمايزة. كما أن الكلمات تعتبر رموزاً للمفاهيم، أي لمجموعات الأشياء والأفعال. والتفكير الذكي لا يمكن أن ينمو إلا في سياق اجتماعي، حيث يساعد الراشدون والأطفال الأكبر سناً الطفل الأصغر على تنمية حصيلته من الأفكار والمفاهيم، وإقامة الصلة بينها عن طريق الكلام.
والخلاصة التي نود التأكيد عليها أن الذكاء إنما هو قدرة موروثة في أصلها، ولكنها قابلة للنمو والتطور، وأن نموها إنما يتم في سياق اجتماعي. وأن المجتمع الأغنى والأقدر على تنمية أطفاله هو المجتمع الأصلح لنمو الذكاء وتزايده. وتتأكد وجهة النظر هذه من خلال التجربة التي أجريت على مجموعتين من الأطفال من ذوي الذكاء العادي. فقد تعرضت المجموعة الأولى لجوانب مختلفة من الإثارة العقلية والتوجيه الفكري التربوي، بينما حُرمت المجموعة الثانية -المجموعة الضابطة- من هذه الاستثارة. وبينت نتائج هذه الدراسة أن المجموعة الأولى زاد معدل ذكاء أفرادها بمقدار عشر درجات خلال عام واحد.
إن الإنسان العادي لا يستعمل في العادة إلا جزءً ضئيلاً من إمكاناتهالذكائية. فالطفل يولد بعبقرية متوازنة وبمواهب متكاملة، وبإمكانات كامنة، وبقدرات اجتماعية لا حصر لها. ولا تظهر هذه الإمكانات إلا عندما يُمنح الطفل فرصة متكاملة للنمو. وتصل هذه الإمكانات إلى أعلى مستوياتها عند توفر الظروف البيئية المُثلى التي تفجرها. ويمكن القول بأن بحوث تدريب الذكاء تشير في مجملها إلى أنه بالإمكان أن نصل بالإمكانات المتاحة وراثياً إلى أقصى ما يمكن أن تنطلق إليه، وذلك عن طريق التدريب والتوجيه والتنشيط العقلي والاجتماعي، بشرط أن يتم ذلك في الوقت المناسب من عمر الطفل.
المصدر
http://bafree.net/arabneuropsych/index.htm
أ. د. سامي عبد القوي
أستاذ علم النفس العصبي
يعد الذكاء من الموضوعات الهامة التي شغلت علماء النفس بعامة، والباحثين في القدرات العقلية بوجه خاص. وقد ثار الجدل حول هذا الموضوع ربما إلى الحد الذي لم تشغله موضوعات أخرى من موضوعات علم النفس بنفس الدرجة من الاهتمام. وقد أختلف العلماء حول ماهية الذكاء، وتوقفوا كثيراً عند قضية ما إذا كان موروثاً أم مكتسباً. بمعنى آخر تساءلوا عما إذا كان الإنسان يولد بقدر من الذكاء لا يمكن تجاوزه مهما تعرض للمثيرات البيئية، أم أن ظروف البيئة المناسبة والغنية بالمثيرات يمكنها أن تزيد من ذكاء الإنسان، وتزيد من تنمية قدراته العقلية؟.
والواقع أن موضوع الذكاء موضوع متشابك الأبعاد، ومتعدد الجوانب، ولسنا بصدد دراسته كما لو كنا نقوم بدراسة أحد موضوعات علم النفس بالتفصيل. ولكن ما يهمنا في هذا السياق تناول أثر العوامل البيولوجية المختلفة على الذكاء. ومع ذلك فهناك ضرورة تجعلنا نقف ولو قليلاً حول ما تعنيه كلمة الذكاء، وكيفية قياسه.
- تعريف الذكاء:-
تُعد كلمة الذكاء مصطلحاً علمياً يختلف عن مدلول الكلمة في الحياة اليومية من قبيل أن يصف البعض فرداً ما بأنه ذكي، أو ينعتون آخر بأنه غبي. فما الذي نعنيه بكلمة الذكاء من الناحية العلمية؟.
إن الإجابة على السؤال الذي طرحناه الآن أمر ليس بالبساطة التي يبدو عليها السؤال، لأن الذكاء من الموضوعات التي أختلف العلماء حولها على نطاق كبير. فمنهم من ينظر إليه من ناحية وظيفته، ومنهم من ينظر إليه من ناحية مكوناته. وقد وصل الأمر إلى الحد الذي بسّط فيه البعض تعريفه قائلاً بأن الذكاء هو ما تقيسه اختبارات الذكاء، وكأننا بذلك نعرف الشيء بنفسه، أو كما يقول الشاعر (عرّف الماء بعد الجهد بالماء).
وبداية يرجع الفضل إلى كل من جالتون وبينيه Binet في استخدام وتداول كلمة الذكاء، حيث حاول كل منهما أن يضع من الاختبارات ما يُمكنه من قياس هذه القدرة العامة. وسوف نستعرض على وجه السرعة أكثر تعريفات الذكاء انتشارا، بغرض الوقوف على ما تعنيه الكلمة، ومدى الاختلاف الذي نراه بين العلماء في هذا الصدد. ويُعرف بينيه الذكاء على أنه الميل إلى إتباع والاحتفاظ باتجاه عقلي محدد، والقدرة على إجراء تعديلات للوصول إلى هدف نهائي، مع القدرة على النقد الذاتي. فالذكاء عند يعني القدرة على الحكم السليم. وهذه القدرة تشتمل على أربع عناصر أساسية هي توجيه الفكر في اتجاه معين، والاستمرار في هذا الاتجاه، ثم الفهم والابتكار، وأخيراً نقد الأفكار ووزن قيمتها.
أما شتيرنStern فيُعرف الذكاء على أنه " القدرة على تحقيق التكيف عقلياً لمشاكل الحياة وظروفها الجديدة. ويعرفه تيرمانTerman على أنه القدرة على التفكير المجرد. ويعرفه كوهلرKohler على أنه القدرة على إدراك العلاقات. وأخيراً يعرفه وكسلر Wecksler على أنه القدرة الكلية على التفكير العاقل والمنطقي، والسلوك الهادف ذي التأثير الفعال في البيئة. وهذه القدرة العامة تتكون من قدرات مختلفة.
وكما نرى فإن كل تعريف من التعريفات السابقة نظر إلى الذكاء من وجهة خاصة لا تجعلنا قادرين على وضع تعريف شامل ومانع لهذه الكلمة. ومع ذلك يتبين لنا أن تعريف الذكاء تعريفاً جامعاً يجب أن يتضمن أكثر من خاصية عقلية. فالذكاء يجمع مجموعة من الخصائص العقلية، والقدرات، والمهارات، وبعض جوانب السلوك التي تساعد الفرد على الاستفادة من الخبرة السابقة، والسيطرة على المشكلات التي تواجهه خلال تكيفاته اليومية لواقعه. وبشكل عام فإن الذكاء بمعناه العلمي يُشير إلى تكوين فرضي، أي أننا لا نلاحظ الذكاء بطريقة مباشرة، ولا نقيسه قياساً مباشراً، وإنما نستدل على آثاره ونتائجه، مثله في ذلك مثل الطاقة الكهربية أو المغناطيسية التي لا يمكن أن نراها بشكل مباشر، وإنما نتعرف عليها من خلال ما تتركه من آثار ونتائج.
- نظريات الذكاء:-
هناك مجموعة من النظريات التي تتعامل مع الذكاء وطبيعته يمكن إيجازها فيما يلي:-
1- النظريات البيولوجية.
2- النظريات البيئية.
3- النظريات النمائية.
1- النظريات البيولوجية:-
تنظر هذه النظريات إلى الذكاء باعتباره قدرة تقوم على أساس بيولوجي، فهي تراه قدرة عامة موروثة، تطورت مع تطور الفرد والنوع. وتُعرف هذه النظريات الذكاء على أنه القدرة على الاستفادة من الخبرة، ومواءمة العالم المحيط، والمرونة أو القدرة على التعلم. ومن أصحاب هذا الاتجاه دارون، ومورجان، وماكدوجال، وبينيه. وتعود فكرة غلبة العوامل الوراثية في تحديد الذكاء إلى سير فرانسيس جالتون الذي نشر عام 1869 كتابه المعنون "وراثة العبقرية" وأكد فيه أن القدرات العقلية متوارثة بين الأجيال، وأنها تبرز في أسر بعينها، وتسير داخل أجيال متعاقبة في هذه الأسر. (أنظر تفاصيل هذا الرأي في الفصل الرابع من هذا الكتاب).
وتلي جالتون العديد من الباحثين الذين حاولوا تأكيد هذا الرأي، وأصبح الإنسان في رأي الحتميين البيولوجيين مجرد أسلوب من حمض (الدنا) وأن الجينات هي القوة الكامنة خلف العرش السلوكي. وبالتالي فإن الذكاء ما هو إلا مركب وراثي ضروري للبقاء، وأن البيئة تمد الإنسان بمجموعة من المتغيرات فحسب، وهذه المتغيرات تختار الجينات ما تراه مناسباً منها للتكيف مع البيئة التي توجد فيها هذه الجينات. وإلا فكيف لنا أن نفسر حالات متلازمة داون، والبول الفينايلكيتوني، وغيرها من الحالات التي تتسبب الوراثة في سمة الضعف العقلي الموجودة فيها.
وقد سادت نظرية الذكاء الفطري (المحدد وراثياً) لسنوات طويلة، أكدت فيها أن 80-90% من الذكاء محدد وراثياً، الأمر الذي أدى إلى إساءة استخدام هذه النظرية لأغراض سياسية. فقد كان يُشار دائماً إلى أن السود أقل ذكاءً من البيض، ومن ثم أعلن تفوق الرجل الأبيض، مما دفع الدول الاستعمارية إلى استغلال منظور الوراثة هذا، وقامت باستغلال شعوب العالم الثالث، ونهب ثرواتها تحت دعوى أن هذه الشعوب لا تعرف كيف تستفيد من هذه الثروات، وأن الرجل الأبيض إنما جاء من أجل تنمية هذه الشعوب. بل إن هذه المسألة أتاحت داخل الدول الاستعمارية نفسها تبرير التفاوت الطبقي والاجتماعي والاقتصادي القائم بين أفراد مجتمعات هذه الدول. ووصل الأمر إلى دعوة هتلر الشهيرة بسيادة الجنس الآري على سائر الأجناس، وما تلي ذلك من نتائج الحروب.
ومن أكثر القضايا التي أثيرت حول دور الوراثة في تحديد الذكاء الفضيحة العلمية الشهيرة التي نسبت إلى عالم النفس الإنجليزي - بل ومؤسس علم النفس البريطاني - الشهير سيريل بيرتC. Burt، والذي نشر مقالاته العديدة حول تأكيد هذا الدور.وقد وجهت له بعد وفاته (عام 1971) تهمة التزييف العلمي لكل ما توصل إليه من نتائج دراساته التي تشير إلى تأكيد دور الوراثة في الذكاء. فقد ظل بيرت يروّج لمدة عشرين عاماً لهذا التأثير الوراثي من خلال أكبر دراسة أُجريت على التوائم المتطابقة المنفصلة (55 زوجاً) وكانت معاملات الارتباط التي سجلها مرتفعة جداً. وأوضحت الدراسات أن ما كان يفعله بيرت يشير إلى أنه الوحيد الذي تمكن من أن يقيس كمياً تشابه ظروف البيئة التي نشأت فيها أزواج التوائم، مما جعله يشير إلى أنه لا توجد أدنى علاقة إرتباطية بأي حال من الأحوال بين ظروف بيئة التوائم المنفصلة. بل أنه أدعى أنه الوحيد الذي أجرى نفس اختبار معامل الذكاء على أفراد المجموعات التي تناولها حتى أعلى درجات سلم القرابة، وأشار إلى علاقات ترابط لم يسبق لأحد قط غيره تسجيلها.
وحقيقة الأمر أن كل معطيات بيرت قام بتسجيلها ونشرها بأسلوب مفضوح ومثير للشك. فهو لا يعطي أي وصف لكيفية جمع معلوماته ومكانها ووقتها. كما تجاهل تماماً القواعد العلمية لكتابة تقاريره عن هذه الأبحاث، بل إنه لم يُعرّف تعريفاً علمياً اختبار معامل الذكاء الذي أستخدمه، والذي يفترض أنه طبقه على الآلاف من أقارب أزواج التوائم. ومن أكثر المغالطات التي وقع فيها بيرت أنه أعلن أن معامل ارتباط الذكاء على عينة من التوائم (12وزجاً) عام 1955 كان 771,0، ثم أشار عام 1958 إلى أن عدد التوائم بلغ ثلاثين زوجاً، وكان معامل ارتباط الذكاء أيضاً 771,0، بل إنه أشار إلى نفس معامل الارتباط عام 1966 حين بلغ عدد التوائم المستخدمة في الدراسة 53 زوجاً. وهذا الميل الملحوظ لأن تبقى معاملات الإرتباط متطابقة حتى الرقم العشري الثالث، كان ينطبق أيضاً على دراساتبيرت على التوائم المتطابقة غير المنفصلة. وكل هذه النتائج التي تم اكتشاف (فبركتها) وتزييف نتائج دراساته التي أجراها على التوائم، والتي أستخرج منها معاملات ارتباط تؤكد نظريته في وراثة الذكاء، أتضح بعد ذلك أنها نتائج لم تقم على أسس إحصائية سليمة. بل تبين أنه أختلق أسماء وهمية غير معروفة أشار إلى أنها كانت تُعلق على بحوثه في هذا المجال. كما أنه كان يقوم بنقل بعض نتائجه من مكان لآخر بغرض زيادة نسبة النتائج، وذلك من أجل تدعيم نتائجه السابقة. وكان نتيجة كل هذا أن ثارت الشكوك حول ما كان سائداً عن تأثير الوراثة كمحدد وحيد لتحديد الذكاء.
2- النظريات البيئية:-
يرى أصحاب هذه النظريات أن الذكاء يتأثر إلى حد بعيد بالخبرة والتأثيرات الحضارية والبيئية. وأن الطفل الذي يتعرض لبيئة غنية بالمثيرات والتنبيهات يزيد معامل ذكاؤه بدرجة ملحوظة. وقد دعمت هذه النظريات وجهة نظرها من خلال الدراسات التي أُجريت على التوائم المنفصلة والتي تربت في بيئات مختلفة وتعرضت لعوامل بيئية تختلف في ثرائها من حيث المثيرات. ولذلك فإن البرامج التوجيهية وبرامج التدريب يمكنها أن تساعد على نمو ذكاء الطفل حتى لو كان يعاني قدراً ما من النقص العقلي. كما يمكن تنمية معارف الطفل عن طريق الإدراك وتدريب الحواس البصرية والسمعية واللمسية والذوقية مما يزيد من درجة انتباهه للبيئة المحيطة. كما يمكن التعامل مع حاجات الطفل المعوق عقلياً بما يساعد على إشباعها، وبالتالي يقل الإحساس بالعجز، وتزيد القدرة على التكيف.
3- النظريات النمائية:-
لا تمثل تيارات البيولوجيين أو البيئيين كل التيارات التي حاولت الفصل في مدى تأثير كل من الوراثة والبيئة على الذكاء، بل ظهر فريق ثالث قامت نظرياته على محاولة التوفيق بين التيارين السابقين، واضعاً نظريات نمائية هي بحق أقرب النظريات إلى الصحة، وأكثرها توفيقاً في تفسير طبيعة الذكاء. ومن أمثله علماء هذا الاتجاه عالم النفس الأمريكي هب Hebb، وعالم النفس السويسري الشهير جان بياجيهJ. Piaget.
أ- نظرية هب:-
حاول هب إيجاد الصلة بين الذكاء والعوامل الوراثية المتمثلة في الأداء الفسيولوجي للمخ من ناحية، وبين الذكاء وتأثيرات البيئة من ناحية أخرى. فهو يرى أن خبرات الطفل في السنة الأولى تقود إلى تكوين تجمعات من الخلايا العصبية في المناطق الاقترانية أو الارتباطية Association areas في المخ. وأن الإدراك يعتمد على فرع مستقل من هذا التجمع العصبي، وينتج عنه ما يسمى بالمخططات العقلية Mental schemas التي تعتمد في تكونّها على الإحساسات وخاصة السمعية والبصرية واللمسية. وتعتبر هذه المخططات بمثابة الإطار الذي تنتظم فيه كل خبرة الطفل لتكوين الفكرة أو المفهومConcept. وكل ما يمر به الطفل من خبرات تالية إنما يدخل الشعور عن طريق ربطه بكل ما جرى من قبل. ويرى هب أنه كي يحدث النمو العقلي السليم فلابد من وجود المخططات العقلية في زمنها المناسب لأنها الأسس اللازمة للاستمرار في التعلم المتقدم.
ويفرّق هب بين نوعين من الذكاء هما:-
1- الذكاء (أ):
ويقصد به الذكاء الوراثي بصورة كامنة، فهو ذكاء فطري يعتمد على حجم المخ، ويمثل كفاءة الجملة العصبية من تكوين المخططات والاحتفاظ بها وتمازجها. وهو في المدى البعيد تحدده الوراثة والجينات التي تقوم بدورها في تكوين المخ وخلاياه. ويرى هب أن الطفل الذي يولد بخلايا عصبية أقل، يصبح أقرب لأن يكون متخلفاً بشدة من حيث مستوى أدائه العقلي.
2- الذكاء (ب):
ويقصد به الكفاءة العقلية الحاضرة، ويمثل الإمكانات العقلية التي بنيت أثناء سنوات العمر الأولى، والتي لا يمكن أن تنمو إلا من خلال إثارة البيئة المحيطة. ويرى هب أن تطور القدرة العقلية للفرد يتطلب تنبيهات مستمرة من البيئة الخارجية، وبالتالي يكون المستوى الحقيقي للأداء العقلي عبارة عن ما يحصله الفرد بإمكاناته الموروثة كنتيجة للمنبهات التي يتلقاها من البيئة.
ويشير هب إلى طبيعة الذكاء من حيث هو تكوين فرضي لا نقيسه بشكل مباشر من خلال اختبارات الذكاء، ومن ثم فإن الذكاء الذي تقيسه مقاييس الذكاء يجب ألا نعتبره قابلية للتوريث بصورة محضة، لأننا في الواقع نقيس مظاهر الذكاء وليس الذكاء نفسه.
ب- نظرية بياجيه:-
يُعد جان بياجيه (1886-1967) أهم من حاول صياغة قوانين نمو التفكير واللغة وإرتقاء الذكاء عند الطفل عبر مراحل تطوره. ويرى بياجيه أن الذكاء ليس ملكة واحدة متميزة، بل هو موجود في كل العمليات التكيفية عند الحيوانات، والأطفال والراشدين.
ويشير بياجيه إلى أن عملية انبثاق التفكير والصور تتم من خلال مخطط عقلي مناسب. فالطفل أبن السنتين عندما يرغب في الوصول إلى لعبة موجودة على الرف مثلاً، لا يذهب إلى الرف ويحاول الحصول عليها، فيعجز ويأتي بكرسي يقف عليه ليحصل على اللعبة، وإنما يذهب مباشرة إلى الكرسي ويحمله ويعتليه. ومعنى ذلك أنه حصل على مخطط عقلي يناسب طبيعة المشكلة التي يريد حلها.
وتلعب اللغة عند طفل السنتين دوراً رئيسياً في تكوين مخططاته العقلية. إنها تساعده على تصنيف مدركاته وتثبيتها، إذ تُصبح للأشياء والأحداث هوية متميزة عن طريق إعطائها أسماء متمايزة. كما أن الكلمات تعتبر رموزاً للمفاهيم، أي لمجموعات الأشياء والأفعال. والتفكير الذكي لا يمكن أن ينمو إلا في سياق اجتماعي، حيث يساعد الراشدون والأطفال الأكبر سناً الطفل الأصغر على تنمية حصيلته من الأفكار والمفاهيم، وإقامة الصلة بينها عن طريق الكلام.
والخلاصة التي نود التأكيد عليها أن الذكاء إنما هو قدرة موروثة في أصلها، ولكنها قابلة للنمو والتطور، وأن نموها إنما يتم في سياق اجتماعي. وأن المجتمع الأغنى والأقدر على تنمية أطفاله هو المجتمع الأصلح لنمو الذكاء وتزايده. وتتأكد وجهة النظر هذه من خلال التجربة التي أجريت على مجموعتين من الأطفال من ذوي الذكاء العادي. فقد تعرضت المجموعة الأولى لجوانب مختلفة من الإثارة العقلية والتوجيه الفكري التربوي، بينما حُرمت المجموعة الثانية -المجموعة الضابطة- من هذه الاستثارة. وبينت نتائج هذه الدراسة أن المجموعة الأولى زاد معدل ذكاء أفرادها بمقدار عشر درجات خلال عام واحد.
إن الإنسان العادي لا يستعمل في العادة إلا جزءً ضئيلاً من إمكاناتهالذكائية. فالطفل يولد بعبقرية متوازنة وبمواهب متكاملة، وبإمكانات كامنة، وبقدرات اجتماعية لا حصر لها. ولا تظهر هذه الإمكانات إلا عندما يُمنح الطفل فرصة متكاملة للنمو. وتصل هذه الإمكانات إلى أعلى مستوياتها عند توفر الظروف البيئية المُثلى التي تفجرها. ويمكن القول بأن بحوث تدريب الذكاء تشير في مجملها إلى أنه بالإمكان أن نصل بالإمكانات المتاحة وراثياً إلى أقصى ما يمكن أن تنطلق إليه، وذلك عن طريق التدريب والتوجيه والتنشيط العقلي والاجتماعي، بشرط أن يتم ذلك في الوقت المناسب من عمر الطفل.
المصدر
http://bafree.net/arabneuropsych/index.htm