المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإعاقة الخفية: جهل الأهل والمدرسة .. واضطرابات النمو المعرفي! (1)


معلم متقاعد
02-19-2010, 03:14 AM
الإعاقة الخفية: جهل الأهل والمدرسة .. واضطرابات النمو المعرفي! (1)


الدكتور موفق العيثان استشاري علم النفس العيادي


صعوبات التعلم :
كانت نظارته تغطي جزءا من وجهه المبتسم، وكانت تحيته لي في العيادة غاية في الأدب والاحترام، مما يجعلك تفكر أن تصحبه معك إلى محافل الزعماء بلا تردد لأخلاقه العالية وهدوئه. كان الوالدان يعبران عن إحباطهما للمشكلة الدراسية الكبيرة التي يعانيها "سلمان" ولدهما الوحيد، عكس أختيه الأكبر منه، فهما متفوقتان بالمدرسة الثانوية. الأم معلمة والأب مهندس، ولا تاريخ بالعائلة لأي مشكلة قدرات حسب الأهل.
عندما تحدثت معه كانت المعلومات تنهمر من فيه بلا تردد، وإذا به يهوى العلم والدراسة والرياضيات، ولديه كم هائل من المعلومات عن الطبيعة والحيوانات، وبالذات الديناصورات، وهي منقرضة طبعا.
مهلا..! هل استعار الأهل ولد الجار وأتوا به.. أم إنهم يتحدثون عن ولدهم سلمان بدمه وشحمه.. بأن عنده مشكلات بالدراسة، وهو بعقل كبير ومنطقي جدا..! . هل نتكلم عن نفس الولد ذي السنوات العشر في الفصل الرابع؟
أحببت أن أتحقق قبل أن اتهم الأهل بالجهل وبالمبالغة، ولكيلا أحمل ذمتي ما لا تطيق..، فأخذت أسأله عن الدراسة والمدرسة، وتدريجيا أخرجت له عدة الشغل (العدة النفسية) بهدوء..اختبارات ذكاء لفظي وعملي وذاكرة ولغة وقراءة وكتابة واختبارات تفكير منطقي ورسم...إلخ، فالعدة ولله الحمد ثرية جدا. إضافة إلى استبيانات للأهل ليجيبوا عليها.
كانت إجاباته على معاني الكلمات راقية جدا بمستوى المتوسطة وأكثر. وكان يجيب على أسئلة ومشكلات التفكير المنطقي بسلاسة، وكأنه أعد لها العدة – في الواقع بعضها كان أقل من مستواه الذهني ( ولو أنها ضمن مستواه العمري) إلى درجة تخجلني أن أقدمها له، ومع ذلك أدبه لا يسمح له بالعصيان أو التمرد علي أو على الاختبار..، فيجاريني بكل أدب.
كل خمس سنوات أو عشر، تمر علي حالة واحدة أو اثنتين بهذا المستوى من الذكاء العالي جدا. سررت كسرور الأهل بعلو أدبه وذكائه. وانتقلت إلى بعض الكلمات ليقرأها علي متوقعا أنها أسهل من شرب الماء عنده، وإذا بي أتحدث مع إنسان ثان....صدمة! . لا يستطيع حتى قراءة كلمة مدرسية بسيطة من منهج السنة الأولى.. أين العبقرية يا سلمان؟

صعوبات التعلم كظاهرة ؟
يعاني ملايين العوائل بالعالم والمدارس والإدارات التربوية من أطفال لا ينجحون بالدراسة، ويعانون من مشكلات دراسية مزمنة. مما يؤدي إلى فشلهم الدراسي، وفشلهم بالحياة العملية، وتنتهي بالبعض الأمور إلى مشكلات نفسية وقانونية، واعتماد على مخدرات أو كحول أو جرائم.
بعد سنين من الفشل الدراسي يدفع المجتمع الأثمان- من غير وعي بالأسباب أو الخطوات التي مر بها الطفل ليصل إلى هذه الحالة من الرشد الفاشل مثلا. هذه الأثمان تكلف المجتمع أرقاما خيالية من التكلفة. فضلا عن المعاناة الإنسانية للفرد وللأسرة ...إلخ. إن تكلفة تعليم الطفل وإن كبرت أحيانا لا تقدر أبدا بالتكلفة الخيالية على الفرد والمجتمع والدولة عند عدم تقديم تعليم مناسب. صعوبات التعلم من المشكلات التي يمكن أن تتفاداها الأسرة والمدرسة والحكومة لإنتاج أفراد صالحين.


هل هي حقيقة؟
قد يلجأ البعض إلى ذكر أسباب لتأخر الأطفال مدرسيا وأكاديميا، مثل الكسل أو أن الأهل لم يهتموا بالطفل بما فيه الكفاية، أو أن المنهج متخلف جدا أو أن الطفل يتعلم أكثر من لغة.. إلى غير ذلك من الأسباب التي تبتعد عن التفكير والتفسير العلمي والمنهجي. ومن أكثرها إيلاما للطفل وللأهل هو أن تقول للطفل إن ذكاء الطفل منخفض جدا، وربما تستخدم كلمات جارحة كالغباء والتخلف ... إلخ.
إن الأبحاث العلمية – نفسية وعصبية مثلا- في صعوبات التعلم تتفق على أنها ظاهرة عيادية – أكاديمية توجد لدى عينة كبيرة من الأطفال والراشدين. كما أنها لا تقتصر على القراءة ولا الكتابة. بل أكثر من ذلك كما سيتضح فيما بعد، وأكثر من هذا فإن صعوبات التعلم لا تأتي لطبقة اجتماعية أو نوع من الناس دون غيرهم- بل هي تكاد عادلة بين المجتمعات، لكن ربما تظهر عند بعض العوائل أكثر من غيرهم.


في البداية يبدأ الطفل بتعلم نطق الحرف والحرفين ، بعد أن تعرف على سماع الحروف وتمييزها عن بعضها البعض ‘ بالقدرة على النطق بدأت البشرية تتحرك في مخه، فأصبح بذلك إنسانا ناطقا بحمد الله.
بعدها – في العصر الحديث من البشرية ، العشرة آلاف سنة الحالية مثلا- ملايين الأطفال يبدؤون حياتهم الأكاديمية في البيت عندما يتعلمون أصوات الحروف وصور الحروف ومقاطعها التي تتكون من حرفين أو أكثر ( عبر الكتب البسيطة جدا أو التلفاز مثلا) ، ومن ثم يربطون بين الحروف والصور ليعيدوا نطقها بصحة من مطالعة صور الحرف.


إن القدرة البصرية الذهنية لإعادة فك رمز صورة الحرف وإعطائه الصوت الصحيح.. هذه القدرة هي بداية القراءة عند البشر. إن الرابط العصبي ( عندما ينمو المخ طبيعيا بالسنين الأولى من عمر الطفل) بين صوت الحرف وصورة الحرف، تبدأ ثورة الإنسانية في مخ الطفل الناطق- الطفل يصبح قارئا، سبحان الخالق!.. غير الناطق أو غير المبصر ممكن أن يتعلم القراءة أيضا طبعا كما نعرف، لكنا نتحدث عن الطفل الطبيعي في نموه الحسي (سمعيا وبصريا). لكن البشر يختلفون في نوع وسرعة وقوة نموهم المعرفي.
وسأحاول بإذنه تعالى أن أتكلم في سلسلة من المقالات عن عينة من صعوبات التعلم، وأن أجيب عن بعض الأسئلة المهمة:
هل هناك من تعريف لصعوبات التعلم؟ . هل هناك تصنيف وتشخيص مترابط لهذا الاضطرابات ؟، وهل هي اضطرابات في نمو الطفل الذهني ؟ .. هل هي تخص الذكور أم الإناث؟ . كيف يمكن التعرف على صعوبات التعلم، وما هو تشخيصها؟ هل يمكن أن نتعرف على صعوبات التعلم في فترة طفولة الطفل المبكرة- في مرحلة الروضة مثلا؟


هل بإمكان البيت والعيادة النفسية أن تشخص وتعالج صعوبات التعلم؟
هل يمكن للطفل أن ينجح بالمدرسة وحياته المهنية مع صعوبات التعلم، وبعد العلاج والتأهيل؟
وأهم من ذلك .. هل من طريقة للوقاية من صعوبات التعلم،
وطبعا لا ننسى أن نتطرق للجوانب النفسية للطفل الذي يعاني من صعوبات تعلم، وعلاقتها بتقدير الذات والمشكلات السلوكية.


إن دراسة مفصلة لحالة الطفل سلمان توضح أن الطفل يعاني من صعوبات تعلم، وأنه بلا شك بحاجة لتشخيص دقيق وتأهيل مناسب ومتقدم . إن حل الواجبات المنزلية مع مدرس خصوصي لسنين لم يثمر للأسف إلا قليلا جدا يكاد لا يذكر. إنه بحاجة لعمل سنين من التأهيل النفسي العصبي، وهو نادر جدا جدا في بلداننا للأسف، لصعوباته الخاصة حسب قدرته الذهنية.


المصدر - جريدة الوطن السعودية

معلم متقاعد
02-19-2010, 03:20 AM
الإعاقة الخفية: جهل الأهل والمدرسة .. واضطرابات النمو المعرفي! (2)


الدكتور موفق العيثان استشاري علم النفس العيادي

صعوبات التعلم
يختلف غير المختصين والمختصون أحيانا في فهم وتناول مفهوم صعوبات التعلم، فالبعض يلجأ للتصغير من حجم ودقة الاسم والتشخيص أو بعده الأكاديمي والنفسي على الطفل والأسرة بل وعلى المجتمع، لكن الأبحاث الرصينة والدقيقة في الغرب أنتجت القناعة بموضوعات صعوبات التعلم، وهذا دعا المشرع الأمريكي مثلا لأن يتحمل المجتمع الأمريكي والدولة التبعات المالية لتقديم الخدمات الأكاديمية ( التعليمية) للطفل بصورة فردية ( خطة الحاجات التربوية الفردية)، فضلا عن تقديم ومراجعة منهجية علمية شاملة للمنهج (تعليم المدرسين والآباء والنفسيين، وتغيير أساليب الامتحانات لتجاري حاجة الطفل).
كل هذا نابع من النظرة المسؤولة للأطفال وحاجاتهم، لكنها وهنا بيت القصيد الثاني- تمثل ظاهرة، إذ يعتبر البعض أن حوالي 40% من الأطفال يعانون من نوع أو آخر من صعوبات التعلم. إن المشرع الغربي والباحثين في مجال صعوبات التعلم يتناولون الحاجة الفردية للطفل ليحسنوا من نوعية الحياة، ويقوموا بخدمة الفرد والأسرة والمجتمع.

في عيادتي من فترة لأخرى تمر علي حالات مؤلمة جدا لمعاناة الأطفال والأهل، بعد عشرات الفحوصات والأدوية لم يتحسن الطفل ولا تعرف الأسرة ولا المدرسة ما القصة، ولماذا هذا الطفل الذكي لا يتحسن مع وجود الجهد الجبار أحيانا. السبب بسيط للأسف.. لم يتم التشخيص الصحيح والفحص الدقيق للقدرات الذهنية والنفسية للتحقق من صعوبات التعلم. غالبا ما أجد إحباطا عند الأهل لكثرة الجهد بلا فائدة، وارتياحا عندما يعرفون أن الحالة معروفة التشخيص والأسباب بعد أن أقوم بإجراء الاختبارات النفسية العصبية على الطفل.

الأسئلة الكبرى!
حاولت في المقالة الأولى في هذه السلسلة أن أطرح حالة الطفل سلمان أولا كعينة حقيقية من بيئتنا في السعودية (وعربية) تمثل آلافا من الأطفال الذين أهملناهم لتقصير وجهل الإدارة التربوية والوزارة والبيت والمدرسة، وكذلك حاولت أن أطرح عدة أسئلة للإجابة عليها في عدة مقالات للقراء الكرام.

إن مفهوم صعوبات التعلم مفهوم علمي وعيادي وأكاديمي واقعي وليس مفهوما مجردا، وينال اهتمام الباحثين من تخصصات عديدة بلا شك. من أهم النقاط التي يجب أن يطرحها المسمى، هي أن القدرات الذهنية غير متناسقة لدى الطفل، بينما نجد الطفل متميزا بدرجة عالية في الرياضيات مثلا أو الذاكرة، وقد نجده لا يستطيع قراءة كلمات أو جمل مناسبة لعمره أو مرحلته التعليمية. إن صعوبات التعلم لا تعني مظلة تخفيفية لمصطلح الإعاقة الذهنية ( التخلف العقلي سابقا..إلخ)، بل نعني بها فعلا صعوبة محددة لموضوع في التعلم، سنتطرق لأنواع منها. من الممكن أن يعاني الطفل الذكي أو العادي الذكاء من نوع واحد أو أكثر من صعوبات التعلم.

الأسباب؟
إن أسباب اضطرابات النمو ( المعرفية) مرتبطة بمشكلات وبنمو الجهاز العصبي (المخ)، وربما لأسباب وراثية غير معروفة. إن الآراء العلمية الحديثة تشير إلى وجود بعض الظروف البيئية المساعدة لظهور صعوبات التعلم . إضافة للوراثة. ليس هناك اتفاق أو قناعة لحد الآن من أن صعوبات التعلم يمكن أن تسببها البيئة ( حتى مشكلات قبل وأثناء وبعد الولادة مثلا ) فقط ، مقابل النمو بأسباب وراثية مع علة مرضية محددة. في عملي العيادي غالبا ما أجد أن الأسرة تعاني من حالات مشابهة إلا أن الفكرة لم تكن موجودة عند الأهل قبل الآن تماما ، حتى بدأت آخذ تاريخ الحالة بتفصيل.

إن نمو الجهاز العصبي غير المتكامل أو المتناسق هو السبب في أن يعاني الطفل من مشكلات صعوبات التعلم- ولا نسميه مرضا. إن هذا الاضطراب هو اضطراب معرفي نفسي ويتسم بالفردية- عند اختلاف الأفراد بدرجة وصعوبة وشدة المشكلة... حتى لو أنهم يعانون من نفس صعوبات التعلم ( القراءة أو الكتابة مثلا)، فلا يجب أن نتوقع أن كل الأطفال يتشابهون بالأداء المعرفي أبدا، لا في البيت ولا في المدرسة (حالة فردية). إن معرفتنا بالأداء المعرفي وضعفه (ضمن الشروط العلمية والعيادية) هي التي تشير إلى وجود الاضطراب، حتى مع نجاح الطفل في المدرسة أو الحياة الاجتماعية مثلا- كما سيتضح فيما يلي.

من أهم النقاط العيادية التي أهتم بها أثناء قياسي للطفل وفحصي للقدرات هي عدم تناسق القدرات وعدم توقعي للأداء المنخفض في قدرة ما ( أو أكثر).
إن حصول سلمان (كما ذكر في المقالة الماضية) على درجات عالية في اختبارات الذكاء، لا يعطي توقعا بضعف في القراءة- إذن نتيجة غير متوقعة، وأكثر من هذا فإن أسلوب تحليل القدرات المتنوعة يجعلنا نكتشف عدم التناسق بين القدرات (عند نفس الطفل أو الفرد) عند من يعاني من صعوبات التعلم، وهذا يفسر لنا الفشل الأكاديمي مرات. أو الفشل في النشاط الاجتماعي والمهني من ناحية أخرى.

من الأخطاء الشائعة عند بعض الممارسين أنهم يقيسون الذكاء بمعزل عن القدرات، وهذا لا يفسر التناقض، بل يبقي على غموض صعوبات التعلم عند الأهل- بلغة أخرى اختبارات الذكاء لا تكشف بالضرورة على صعوبات التعلم- لأنها تقارن بين الأطفال. الصحيح أن نقارن الطفل مع نفسه – بين قدراته المتنوعة. بهذه الطريقة- إذا وجد التناقض بين مستوى القدرات (ذكاء عال وقدرة حسابية ضعيفة جدا مثلا) فإن هذا يشير إلى وجود صعوبات تعلم مختلفة عن اضطرابات نفسية عصبية أخرى (إعاقة ذهنية مثلا). بلغة أخرى فإن الأطفال الذين يعانون من صعوبات تعلم يظهرون غالبا قدرة عالية في جانب معرفي. بينما يظهرون قدرة منخفضة جدا في جانب معرفي آخر. إن الطفل العادي لديه قدرات متقاربة في أغلب القدرات الذهنية، بينما الطفل الذي يعاني من إعاقة ذهنية تنخفض لديه القدرات الذهنية في أغلبها، بينما صعوبات التعلم تكون خاصة بقدرة ذهنية معينة أو أكثر أحيانا.

إن هذه الصورة العيادية لنتائج الفحوصات النفسية العصبية neuropsychological assessment عندما يقوم بها أخصائي مؤهل تساعد في معرفة الواقع المعرفي للطفل، ومن ثم تحديد مسار التأهيل النفسي العصبي الخاص بالطفل حسب حاجته وصعوبات. إن اللغة الصحيحة الواجب اتباعها هنا هي أن نشير إلى نقاط القوة والضعف عند الطفل من أجل مساعدته أكاديميا ونفسيا .



المصدر - جريدة الوطن السعودية

معلم متقاعد
02-19-2010, 03:24 AM
الإعاقة الخفية: جهل الأهل والمدرسة .. واضطرابات النمو المعرفي! (3)


الدكتور موفق العيثان استشاري علم النفس العيادي

كان من النقاط المهمة جدا في المقالة الثانية من سلسلة المقالات هذه للتعريف بصعوبات التعلم عند الأطفال (والراشدين) ، الإشارة إلى أن تحليل نتائج الطفل ومقارنتها مع بعضها هو الطريق المناسب للوصول إلى تشخيص مناسب للصعوبات.
كما أشرت إلى أن اختبارات الذكاء لا تشخص بالضرورة صعوبات التعلم. إن الطفل يظهر قدرات عالية جدا في مجال وضعيفة جدا في قدرة محددة، أو كما عبر عنها بعض الباحثين: بحرا من نقاط القوة مع بقعة معرفية ضعيفة.

من فوائد التشخيص الدقيق وتحليل قدرات الطفل أنه سيجعلنا قادرين على أن نتنبأ بقدرات وأداء معين عند الطفل، فالطفل الذي لا يمكنه حل مشكلة حسابية بسيطة، نعرف أنه سيعاني جدا عند التسوق، وأنه لا يستطيع أن يتابع العملية التسويقية من حيث كم التكلفة، وكم يسترجع من البائع.
طبعا في هذا المثل أنا متعمد لأوضح للقراء الكرام أن صعوبات التعلم ( learning disabilities) ليست موضوعا مقتصرا على المدرسة، وإن كان مهما جدا، بل يشمل الحياة كلها. هذه الصعوبة تجعله يتجنب كل ما له علاقة بالحساب، ولا يفكر حسابيا رغم مهارات الذكاء والطلاقة اللفظية والمهارات الاجتماعية العالية ( فنقول إنه: رجال للولد أو امراة للطفلة تشجيعا منا لهم)! فإن السلوك التكيفي سيعاني لسنين حيث إن الأسباب تعود لنمو الجهاز العصبي، خصوصا إذا أهملنا الطفل ولم نلتفت لاحتياجاته التعليمية وصعوباته هذه.

لكن لا يخفى علينا أن صعوبات التعلم تبرز أكثر ضمن السياق الثقافي والاجتماعي والمهني. بمعنى أن البنت التي تعيش بالبادية، وأصبحت أما الآن، ولا تحتاج للقراءة ولا الكتابة حسب ثقافتها أو ظروفها، فإن صعوبات التعلم كالقراءة (على افتراض وجودها) لا تسبب مشكلة ولا إعاقة أبدا. لكن نفس الأم هذه بأميتها القرائية أو بصعوبات تعلم متعلقة بالحساب ستعاني جدا عند حضورها السوق للتسوق ولو مرة بالسنة، فإنها ستفتقد القدرة على حساب تكلفة البضاعة أو كم سيبقى عندها من المال مثلا.
بالمقابل سيتفق القراء الكرام معي بأن صعوبات التعلم- كما أشرت وهي منتشرة جدا بين الأطفال- وإن كانت غير واضحة أحيانا كثيرة، هذه الصعوبات ستسبب حرجا نفسيا كبيرا في عصرنا الحاضر. إن المدنية المعاصرة تحتم الحاجة للقراءة والكتابة والحساب بلا شك. وإخالكم تفكرون الآن بصعوبات تعلم تخص الأمية الإلكترونية كمثال على تعقد المدنية الحديثة ـ بلا قدرات كمبيوترية ستعاني الأمهات مثلا في مساعدة الأطفال حتى في حل الواجبات المدرسية اليوم.

مراحل الحياة:
من جهة أخرى لابد أن نشير إلى أن صعوبات التعلم تتمظهر بقوة في مرحلة ما أكثر من غيرها ، فتبدو واضحة جدا في الطفولة. بينما أقل في الكبر، وربما العكس. هذا فضلا عن طبيعة الحياة والمهنة والمسؤوليات الاجتماعية التي يحتاجها الفرد، فالطفل الذي يعاني من صعوبات تعلم معينة مرتبة بصلب حياته (المدرسة) كصعوبات القراءة والكتابة، فإنه سيعاني جدا حتى يكبر ويترك المدرسة، ولا يحتاج للأداء الأكاديمي الآن- كأن يعمل حارسا أو ميكانيكيا، فهو بذلك يتجنب القراءة ولا يقرأ أبدا ربما.
بينما الطفل الذي يعاني من صعوبات التعلم المتعلقة بالقدرات التنفيذية
( executive functions) -عدم القدرة على التخطيط أو تنفيذ خطة بسيطة أو ترتيب خطوات سلوكية معينة- فإن المشكلة ستبدا أكثر في مرحلة الكبر، فنرى الراشد حينا لا يستطيع حل مشكلات يومية بسيطة (رغم الذكاء مثلا) ، ويتخبط في مشاريع صغيرة، ولا يستطيع ترتيب سفرة بسيطة له وللأسرة.
حينها يتحجج الفرد بانشغاله أو أنه لا يحب السفر ومشاكله أو أن العمل غير مريح، فيغير وظيفته من فترة لأخرى..، وهكذا.
طبعا هذا النمط (بالإعاقة الخفية الموجودة) يسبب مشكلات نفسية وأسرية واقتصادية للفرد ولمن حوله.

إن وجود هذه الإعاقة الخفية- التي لا يعرف لها تفسير حسب الفرد أو الأسرة- يجعل الفرد أكثر عرضة للمشكلات السلوكية، وربما يلجأ للحل غير الصحي وغير التكيفي –غير المناسب. فقد يلجأ لتجنب إظهار طاقاته الذهنية القوية، وقد يتجنب العمل أو يلجأ للعمل الأقل من قدراته الذهنية لكيلا يواجه صعوبات تعطي انطباعا له أو عند الآخرين بأنه " غير ذكي"، وقد يتهمه الآخرون بأنه كسول أو غير مهتم أو أنه لا ينفع معه المساعدة ولا التعليم. بلغة أخرى يتهمه الآخرون بأنه "غبي"!، وهي صفة غير لائقة طبعا لأنه يعرف أنه عالي الذكاء (هذه الحالة تسبب لديه ما يسميه علم النفس التناقض المعرفي)، وهذه تسبب معاناة نفسية كبيرة عنده ، وربما حزنا واكتئابا وتمردا وفشلا في الحياة. وأكثر من هذا فإن الفرد قد يلجأ لإخماد هذا الحالة النفسية المؤلمة باللجوء للمخدرات والكحول أو غيرها.
لذا فإنه من البديهي جدا أن تشخيص الطفل مبكرا جدا، ومعالجة نقاط الضعف لديه ستحسن من نوعية الحياة (quality of life) لديه، ليس فقط نجاحه في المدرسة وحصوله على الشهادة الدراسية. بها سنقلل من رهبته للأنشطة الأكاديمية ومن كرهه للقراءة مثلا أو للمدرسة عموما وهروبه المتكرر من المدرسة أو الحصص التي تتعلق بالمادة التي يشعر معها بضعف كبير لا يطيقه.



المصدر - جريدة الوطن السعودية

معلم متقاعد
02-19-2010, 03:29 AM
الإعاقة الخفية: جهل الأهل والمدرسة .. واضطرابات النمو المعرفي! (4)

الدكتور موفق العيثان استشاري علم النفس العيادي


صعوبات القراءة (ديسليكسيا dyslexia)
لم أستطع أن أعبر عن غبطتي ودهشتي للدرجة العالية من الثقة بالنفس التي تفوق كل التوقعات للطفل ذي الاثني عشرعاما، رغم أنه لم يلتق بي من قبل، إلا أنه كان واثقا من أجوبته وتفاعله الاجتماعي معي، ومع الحضور بعيادة علم النفس. الطفل رضي كان الطفل الخامس بين إخوته السبعة، لأم غير متعلمة وأب عسكري محدود التعليم - لكنه أيضا حاد الذكاء، وحريص على مصلحة الابن بدرجة راقية جدا- أفضل من كثير من الآباء المتعلمين الذين مروا بالعيادة من غير مبالاة بمستقبل الابن لأسباب واهية، أو أوهام لا أساس لها من الصحة..! للأسف.

إن غالبية الأطفال يكون مستوى ذكائهم حوالي 100 درجة (يقل أو يرتفع قليلا فقط)، وهكذا مستوى الطفل رضي، فإن ذكاءه ضمن المتوسط، ولكن نجاحه بالمدرسة متعثر جدا، وعنده مشاكسات ومشكلات كثيرة. كل الأشعة والفحوصات الطبية لم تثمر عن شيء، وجاؤوا به لعيادتي لمعرفة مشكلته الأكاديمية، وسبب عدم قدرته على إتقان المهارات. الفحوصات الأولية واختبارات الذكاء تشير إلى أن رضي عادي ولا مشكلة لديه، ولكن عندما قمت بإجراء مجموعة من الاختبارات النفسية العصبية
( neuropsychological assessments) بدأ فجر الحقيقة يبتسم، موضحا قلب المشكلة التي يعانيها رضي. إن هذه الاختبارات دقيقة ومعقدة، وتستخدم بالغرب بطريقة صحيحة ومتكاملة- ومكلفة للوقت والجهد، وهي نادرة عندنا بالسعودية والبلدان العربية- من أجل الوصول إلى معرفة نقاط القوة والضعف عند الطفل (أوالراشد) بخصوص قدراته الذهنية والذكاء والذاكرة واللغة (قراءة وكتابة) والتفكير المنطقي... إلخ.
من نقاط القوة جدا عند رضي قدرته الحسابية، وكأنه يتسابق مع الآلة الحاسبة، ويحل المشكلات الحسابية المقروءة عليه بلا زمن- سبحان الله. بعدها أعطيته مشكلة حسابية أبسط لكنها مكتوبة..ولم يستطع الإجابة..!، وتغير مزاجه، وعبر عن إحباطه بجنب اندهاش وجزع الأهل.

"صعوبة القراءة- ديسليكسا":
إن رضي يعاني من " صعوبة القراءة- عسر القراءة" كنوع شائع من صعوبات التعلم. إن قراءة السؤال أعاقت قدرته الحسابية، وهكذا فإن كل اختبارات المدرسة المكتوبة صعبة جدا عليه، لكن كل سؤال مسموع سهل عليه. وأكثر من هذا فإن الكتابة أيضا وبنتيجة منطقية فإنها (الكتابة) عسيرة عليه لحد الخجل، فهو لا يستطيع كتابة كلمة بسيطة بصورة صحيحة( مثل: مدرسة، كلمات..)!
مع تراكم السنين أصبح رضي لا يقترب من شيء اسمه قراءة أو كتابة، وبعض المعلمين المخلصين تنبه إلى ذكائه وصعوباته، ولكنهم للأسف لم يفهموا بالذات صلب المشكلة، وهناك آلاف الأطفال مثل رضي. لقد تعلم رضي أن "يخمن" الكلمات، بمعنى أنه يقرأ الكلمة بالمخ لا بالعين- لا كما هي مكتوبة . بل كما هي متوقعة حسب مخه (عقله- بلغة أهل الكمبيوتر فإن مخه يقوم بحساب الاحتمال العالي لمعنى الكلمة وينطقها).
من الأخطاء الغريبة التي ينطقها رضي- ويصرح بها لحظة صدق ومواجهة للحقيقة- هي أنه يقرأ كلمة لفظ الجلالة " الله" يقرؤها " ربي". هناك تفسير علمي لهذه الظاهرة ليس محله الآن- سوى الإشارة إلى سياق النص وإلى معنى الكلمة.

من الصعوبات المهمة في عسر القراءة- وهي مختلفة من طفل إلى آخر من حيث الشدة والصعوبة- أن رضي يقرأ كل كلمة من جديد ، وكأنه لم يقرأها من قبل، فهو يتعثر كثيرا عندما أكتب له الكلمات التالية (لكمات، كلمات، لقمة، كلمة)، فإنه يتردد كثيرا ولا يستطيع أن يقرأها تكرارا صحيحا بعد أقل من دقيقة، إلا أنه يستطيع أن يتذكر موقعها من الكتاب، ويتذكر النطق السابق- وهذه ذاكرة وليست قراءة، فإذا غيرت موقع الكلمة بدأ من جديد تماما وبصعوبة معتادة، وكل هذا يفسر مشكلات رضي الأكاديمية بالمدرسة، حتى بالمواد الأخرى التي تعتمد على القراءة والكتابة ( جغرافية وقرآن ونصوص...إلخ) والمواد العلمية تحتاج قراءة السؤال لحله..، وهنا المشكلة.

فالمشكلة لا تخص مادة بل أداء معرفيا في كل يوم بالمدرسة.
كيف سينجح إذا لم يستطع القراءة؟،
وكيف سيقرأ أمام الفصل إذا كان عارفا بصعوبات القراءة لديه..؟ .
عدة مرات سمع من المعلمين أنه "غبي"! ظلما للأسف.

هذه الظاهرة (صعوبة القراءة dyslexia) حقيقة، كما أسلفت في مقالات سابقة لا تخص لغة أو طبقة اجتماعية معينة، وهي تكثر عند الذكور. إن سببها هو مشكلة عضوية في نمو المخ، وليس كسل الطفل أو غباء أو إهمال الوالدين كما يعتقد البعض، لكن يجب أن نبين أن الاختبارت (النفسية العصبية) هي التي تحدد إذا كان الطفل يعاني من اضطراب "صعوبة القراءة"، ولكن ليس كل من تكون قراءته ضعيفة لأسباب أخرى ومتعددة يعني بالضرورة عنده صعوبات قراءة".

المهم في الموضوع بعد التشخيص الدقيق، هو كيف نتعامل في البيت والمدرسة والعيادة مع الطفل وصعوبته المعرفية –هنا صعوبة القراءة- وما هو العمل النفسي التأهيلي. من الخطوات التي أتبعها في العيادة إخبار وشرح كل الصعوبات المعرفية، ومنها صعوبة القراءة للأهل، وبعدها للمدرسة كلما سنحت الفرصة.
بعدها نبدأ باتخاذ الخطوات التعليمية- التي هي مبنية على معرفة بتركيبة المخ ووظائف المخ وعلاقتها بالقراءة...إلخ، وبالحالة النفسية للطفل. ومن ثم أبدأ بالتركيز على العودة لأساسيات تعلم الحروف والكلمات البسيطة. هنا أبدأ كذلك بتعليم الطفل(وتعليم الأهل ليعلموا الطفل) المقاطع الصغيرة جدا لبعض الكلمات أولا، وكيف تتجزأ الكلمة.
من الجوانب النفسية المهمة التي أركز عليها أن أساعد الطفل على تعلم طريقة جديدة للقراءة لا تعتمد على التخمين ولا التذكر. يبدأ تعلما جديدا بتتبع ا لحروف بصريا- حرفا حرفا ومقطعا مقطعا. وأكثر من هذا فإنني أحاول أن يتعلم المقاطع أو شبه كلمات بمعنى ( لا، مـية، صح، مسح...إلخ) أو بلا معنى (خص، ثي، سي ، عس). إن هذا التعلم سيعيد إليه القدرة على تعلم القراءة بصورة جديدة وفعالة.

إن الطريقة النفسية الجديدة للتعلم لا تتبع بالمدرسة، وطبعا ليس في فصول دراسية متقدمة ( سادس ابتدائي مثلا)....وتتطلب فترة طويلة جدا من التدريب مع مهارات عالية ومتخصصة جدا في علم النفس العصبي. ليس هناك طرق سحرية لعلاج صعوبة القراءة، ولا يجب أبدا الانخداع بطرق تجارية غير دقيقة وبلا أساس علمي أبدا- مثل النظارات التي يسوق لها البعض بلا دليل علمي مثلا.
المهم أن نعرف أن صعوبة القراءة- ديسليكسيا- ظاهرة واسعة الانتشار بين الذكور (أطفالا وكبارا) ويعانون منها، فلذا إذا ترك تشخيصها وعلاجها مبكرا فإنها تسبب مزيدا من المشكلات النفسية والمدرسية والمهنية للطفل والأهل، لكن يجب أن تشخص بالطرق الصحيحة، وبالجهد المتكامل من العيادة والبيت والمدرسة لنقلل من أثرها السلبي. كلما بادرنا مبكرين بالتأهيل النفسي العصبي الصحيح للمشكلة جنبنا الطفل مشكلة التخلف الدراسي والمهني مستقبلا، وإلا فإنه سيعاني منها طول العمر


المصدر - جريدة الوطن السعودية

الصحفي الطائر
02-19-2010, 11:35 AM
كيف نتعامل في البيت والمدرسة والعيادة مع الطفل وصعوبته المعرفية؟

المتفائل
02-20-2010, 01:53 PM
http://gulfkids.com/images3/musharakah (1).gif