المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فتى الخليج - جاسم الهاجري - قصة التحدي


المتفائل
04-24-2009, 07:39 PM
فتى الخليج - جاسم الهاجري - قصة التحدي
شبكة ذوي الاحتياجات الخاصة



لأول مرة تستقر هذه الابتسامة على شفتيها وتنشر البشاشة في ربوع وجهها الممتلئ ، وبين يديها واليدها البكر الذي رأته الحياة منذ ساعات قليلة تقربه من حضنها في خفُة الهاربة من سكرات البينج إلى آفاق السعادة ، ثم مدت بصرها باتجاه الأيام لتمدّ شعاع الأمل المستطيل إلى حيث لاترى العين ويرى قلب هذا الطائر الجامح المنفلت من محيطات الممكن ‘ واستطالت نظرتها إلى ما يفوق الأيام ويعي طاقة الأحلام لا يوقفها عن هذا الاستغراق إلا تذكرها لذلك الحلم المحير ّ.
منذ حملت به وهذا الحلم لا يفارقها ، طائر أبيض يسابق الطيور في أعالي السماء ،إذا بجبل يطاول السحاب ويلاحق النسر القوي فيثقبها وينزل الدم منه ، ولكن الطائر الجريح يستمر في الطايران ويسابق الجميع ، وهي حائرة بين الإعجاب به والشفقة عليه وتقوم من نومها لاتشعر بشيء محدد.

إالى اليوم لم يكن ثمّت ما يربط بين طائرها وحملها ، ولكن السؤال بدأ يشاغب ذهنها هذه الساعة ، لماذا عاد الطائر الحيرة إلى خاطرها في أسعد لحظات حياتها .
وتركن السؤال مهملاَ ، واستمرتفي فرحتها لا تكف عن الشكر لله والثناء عليه بما هو أهله ، ومضت الأيام لا تقصر المسافة إلى منتهى الحلم فكلما كبر الصغير امتدت المساحة في ارحاب الآتي حتى لا تستطيع الوصول إلى منتهاه .
على أن الأيام تعد شيئآ آخر لهذه الحالمة الحائرة ويمضي شهر في أثر شهر والسعادة لها فنونها بين أحضان هذه الأم ، حتى تلك التي حلق فيها الطائر داخل حجرتها وهي تبكي عليه بكاء حارآ ، حتى أيقضت زوجها قطرات سقطت على وجهه من دموعها .
استقظت الأم ، فبسطت يديها في حركة أصبحت لا شعورية باتجاه وليدها فلم تقع منه إلا على رجلين متيبستين ، أنكرتهما ولم تصدق أنها عثرت على طفل إلا بعدما قام زوجها يعجب من هذه الباحثة عن شيء بين يديها ، كان الذهول أكبر من أن يوصف كأنها عقلت المصيبة قوى العقل أن يفكر في ماتراه العين .
وفي المستشفى وضعت الدنيا كلها في قلب امرأة وضربت الصاعقة كل كيانها والطبيب يتحدّث عن أن الإهمال في التطعيم أدّى إلى الشلل في القدمين .
كل شيء يبكي أمام عينيها ،الدنيا نواح وعويل ، والأيام تتراءى أشباحاّ مخيفة والأشياء تتلاشى ، هذا سراب الذي يتخيله الناس حياة لم يكن يبدو لها منه إلا النسر الجريح ، كان الحلم يحدثها أبلغ هذا اليوم ، بل كان هو وحده الذي يتكلّم في فضاء ضميرها ، وكأنما كان جرح النسر هو قدم طفلها ، إلا أن نشاطه لم يكن يتراءى لها شيئآ محددآ وإن كان أكثر ظهورآ مما تراه عينها لكنها لا تستطيع أن تدده بملامح واضحه .
هكذا استمرت الأم في أملها أن يكون نشاط طائرها هو الشفاء العاجل السريع لطفلها ، وانتقلت الأسرة إلى مصر تلتمس العلاج في الخارج ، راضية بمعاناة الغربة غير آبهة إلا أن ترى هذا الطفل يسترد حظه في الحياة والحركة ومناكفة الأشياء .
في مصر .. الحياة مختلفة ، الحركة دائبة ، وكل شيء يجري أمامك وكأنما الناس في عجلة من حياتهم ، حتى يبدو لك الأشخاص صورآ متناثرة على لوحة تتزاحم فيها المعاني وتتنازعها أفكار الفنان .
وكانت الأسرة نزهتها وفرحة الواليد في التنقل بسيارة خاصة بشوارع القاهرة حتى تصل الى ريفها العامر ، فترى الأفراح في كل مكان كانوا في ذلك الوقت يعيشون نشوة النصر عام 1973 وفرحة العبور والأغاني تملأ الشوارع ، والمصرين يتقابلون باشين مزهوين يتحدثون بأصوات مرتفعة معتزة ، ويتلون حكايات الجنود الأبطال في معركة الكرامة كرامة الأمة العربية كلها .
هكذا في مصر تجسّد للأم إحساسها أكبر ، وشعرت أن الحياة تستفز الإنسان ليدخل إلى صراعها بكل طاقته ، ومن هنا أمسى الخوف من الغد يتعاظم داخلها لكنها لم تفقد الأمل .
وتمضي الأيام والأشهر تلوالأشهر والسنة بعدها سنة ، حتى بدات أعي الحياة وأحاول أن أدخل مثل غيري فيها وأتمتع بها ، وكأن ماحولي من صخب وضجيج المنتصرين أغراني بان أقذف بنفسي وسطهم وأعبّ من الحياة ومتعتها ما أشاء ، ولم أشعر وقتذاك أنني لا أقف مثل غيري هؤلاء الصغار على قدمي ، كنت استغرق الوقت كاه في ألعاب هادية لاتحتاج للحركة ، في حديقة منزل أبني بيوتاَ من طين وأهدمها ، وأرسم العرائس من طين حتى إذا جفت حطمتها ، وأرسم جداول أضع فيها الماء يجري أمام عيني مثل نيل مصر ، فلم تزل هذه الصور تتراءى أمام عيني ، كان جريان الماء يعلمني أن الحياة تمضي ، وأن كل فرح وحزن يمرّ ، أهم شيء هو الإنسان ، أهم شييء أن أبقى كما أنا لا تؤثر بأحداث الليل و النهار ، فقد تعلمت من صورة هؤلاء المصرين الصبر وقوة التحمّل وألا أنوء بأثقال الأيام ، وتعلّوا هم من جريان النهر أن كل شيء يمضي .
ومضت سنوات أربع والحالة كما هي ، وأمل الأم كما هو لم يتراجع ، فعدنا إلى الوطن لقد رأيت الفرحة في عين أمي ، كانت تنظر من النافذى الطائرة بلهفة شديدة وتشير بإصبعها من أعلى وكأنما ثمّت ماتريد أن تجذبه إليها من الأرض إلى حيث هي ، نافذة السيارة كانت تعانق بعينها كل شيء ، واستقبلت أخواتها وصديقاتها بلهفة شديدة ، وشعرت وقتها أن الحياة مقبلة علي وأن هذه الآم ترميني في أحضان صديق جديد يملأ علي حياتي ، إنه الحب ، الوطن ، وحب الناس ، وحب الحياة .
ويمضي بي في الوطن عامان حتى حانت رحلة أخرى ، عندما أعلن الرحيل هذه المرة شعرت بالحزن الشديد ، شعرت وقتها بقسوة ما أنا فيه وبما يفرضه علي سلك دروب في الحياة لا أختارها ، ومن فراق حبيب لا أحب فراقه ،وتجهت بنا طائرة الأمل هذه المرة إلى فينا ، فيا طول الرحلة ، إن هذا البلد بعيد حقآ وليس كامصر بتاتآ .
منذ هبطت الطائرة في مطار فيينا وفي رحلة السيارة من المطار إلى الفندق أرى أشياء مختلفة لم أرها في بلدي ولا في مصر ، الملابس مختلفة ، الوجوه مختلفة ، حتى نظرات العيون مختلفة ، كل يمضي وحده ، لا ترى إلا أشخاصآ يسيرون كل في اتجاهه لا يلتفتون يمينة ولا يسرة ولا يحيي ولا يداعب ولا يشاغب ، وكأنه لا توجد لغة ولا ألسنة ، شعرت حينذاك بالغربة الشديدة ، وضاعف منها أن سمعت أول شخص يتحدث ، إنها لغة مختلفة تمامآ ، لغة لا أفهمها ، إذن لديهم ألسنه لكنها غير ألسنتنا .
لكنني أفدت من هذه الرحلة التي أستمرت عامين كثيرآ ، هؤلاء الأجانب علموني أن الحياة لا تتوقف عندما نتوقف نحن اللتفكير في مآسيها ، بل إنها تمضي ونحن ساكنون كانوا يعالجون الإنسان من كل آلامه بالحركة بالعمل بالنشاط .. الحزن والخوف والقلق وكل شيء لا يمكن ان يسكن في قلب إنسان يتحرك .. يعمل .. ينتج .. ينجز ، هكذا رأيتهم ، هكذا عشت هذين العامين .
وبعد عامين تقررّت العودة ، هذه العودة كانت مختلفة عن سابقتها ، كنت قد عرفت الحب والحنيت والشوق بعد ماقاسيت غريب الوجه واليد واللسان فعرفت كيف كانت تفكر أمي في العودة السابقة عندما عشت التجربة بنفسي .
أمضيت عامين في ذلك البلد الأوروبي ، برودة في الجو وبرودة في المشاعر ، ومع ذلك عمل دائب وحركة لا تتوقف .. وكانت العودة للوطن هذه المرة هي القرار النهائي للتوقف عن محاولات انتهت إلى التسليم والمضي في الحياة بما وهب الله لها ، بلغت الآن التاسعة من عمري ومابقي إلا أن أفكر في بناء مستقبلي وبداء مشوار الدراسة والتعلّم .
التحقت بالمدرسة أكبر من أقراني ، كنت فرحآ لأني شعرت أن هذه الحظة البداية بعد تسع سنوات أبحث فيها عن قدم دون جدوى ، الآن سأعيش كما يعيش أقراني وأصاحبهم وألعب لعبهم وأفكر تفكيرهم وأمضي إلى مايمضون إليه من بناء للعقل وأمل في الغد ، ولم أشعر للحظة واحدة أني أقل منهم أو ان قلة حركتي تحرمني متعة الحياة ، بل إن اسفاري ورحلاتي الطويلة كانت تجعلني اشعر بالتميز عنهم ، كانت خبرتي اكبر ومعارفي اكثر افقي اوسع ، بل كنت أرى في نفسي تفوقآ عن أقراني من ذوي الاحتياجات الخاصة لأنني تعلمت مالم يتعلموه من الاعتماد على النفس ومعالجة الايام بثقة أكبر ، فمن يعيش في رحاب هذا الوطن يجد العون والتفهم في كل من حوله فربما عودت ذلك المطالبة وانتظار المساعدة من الغير .
ومضت الحياة بالطفل الصغير أكبر هناءة ومرحآ واستطعت براعم الفرح في قلبي وانطلقت في رحلة التعليم لا افكر الا في الغد السعيد واستمرريت كذلك حتى وصلت السادس .
في سن الخامسة عشرة وبعدما كنت نسيت معاناة العلاج وقلق العمليات الجراحية تفاجأ الأسرة بتراجع كبير ليس في مايتعلق بقدمي وانما في صحتي العامة ، فقد تسبب الإهمال في بداية اصابتي بمضاعفة حالتي في هذه السن ، وكانت الرحلة هذه المرة ، إلى بريطانيا ولا استطيع ان اتحدث عن ايامي في ذلك البلد ، كانت كلها بين إجراء عملية وانظار أخرى ، وكانت حالتي تزداد من سيئ الى أسوأ حتى وصل الأمر الى الشلل الرباعي ، وكانت هذه هي النكبة الكبرى في حياتي ، وصدمت كبيرة عندما رأيتني لا أستطيع ان اخدم نفسي بعد كل ماتعلمته واكتسبته من رحلاتي واسفاري ،حمدت الله وايقنت انني سأخرج من هذه الازمة افضل مما دخلتها ، وبالفعل عدت الى وطني وانتهت الازمة .
بعد هذه العودة اقبلت على الناس واخذت اتعرف على كل من يتاح لي التعرف عليه وكونت اصدقاء لاحصر لهم .
تعرفت على ذوي الاحتياجات الخاصة ، وشعرت ان معهم الحياة افضل وسنتعاون معآ للتغلب على تحدي الإعاقة ، واخترت مجال الرياضة لان الرياضة هي ابلغ لغة للتحدي خاصة العاب القوى وتعرفت على العمل الجماعي ومتعته وفوائده وتعلمت ان اعمل واحفز من حولي على العمل .
واظبت على التمارين الرياضية ، واخذت متواي يرتفع واسجل نجاحات عديدة مثلت قطر لاعب التنس ارضي في بطولة العالم عام 1993 .
وفي عام 1997 كانت بطولة الرماية وتحت رعاية سمو الشيخ جاسم بن حمد بن خليفة آل ثاني نجاحآ كبيرآ لي وخطوة مهمة في مشوار تحقيق الذات وحصلت على ميداليتين في المسدس والبندقية .
اما الانجاز الاكبر في حياتي فقد بدأ التفكير في عام 1996 عندما قابلت سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير البلاد المفدى حفظه الله ضمن مجموعة من ذوي الاحتياجات الخاصة .
كانت مقابلة سموه اهم نقله في حياتي تعرفت عليه وناقشته وتحدثت معه وعن توظيف ذوي الاحتياجات الخاصة ، فكان وافر الكرم معي الى ابعد حد يتخيله إنسان ، فسمع مني حانيآ رقيق القلب ، ورأيت شعور الاب الحريص على توفير الحياة الكريمة لأبنائه ورأيت لديه حماسآ كبيرآ لدعمنا لنكون معتمدين على انفسنا لا على غيرنا .
لقد اعطتني هذه المقابلة مع سمو الامير طاقة جبارة لخدمة هذه الوطن وبذل كل مالدي لاسعاد الجميع من حولي ، وتولدت لدي فكرة لانشاء منتدى التواصل ذوي الاحتياجات الخاصة وخدمتهم وحل مشاكلهم .
واخذت افكر في كيفية تنفيذ هذه الفكرة ثلاثة اعوام ، وفي عام 1999 بداء العزم ان تخرج الى النور وان ادشن موقعآ على الانترنت لهذا المنتدى ، كانت الفكرة في البداية غريبة لان معرفة الانترنت كانت وقتذالك محدوده والتعامل معه لم يكن قد انتشر في قطر بالقدر الكافي ، ولهذا قوبلت الفكرة بسخرية شديدة ألمتني كثيرآ ، حتى كان اللقاء مع شخصية خليجية حكيمة هي الشيخة جميلة بنت محمد القاسمي المديرة التنفيذية لمدينة الشارقة الخدمات الانسانية ، وقالت لي يومها كلمة معبرة " المحاولة أفضل من التفكير "
دشن الموقع في ذلك العالم واستمر نجاحه حتى اصبح شبكة ذوي الاحتياجات الخاصة في قطر والخليج كله وسائر دول العالم ،تعرفنا معآ واصبحنا نتقاربويبث كا منا همه ونحاول علاج المشكلات لكل صاحب مشكلة ونقدم النصح والأمل الذي لاغنى عنه بالحياة الفرد من ذوي الاحتياجات الخاصة ، بل اصبحنا اصدقاء لاتوجد بيننا حدود فنتلاقى في المؤتمرات الدوليه كأعضاء في الشكة ويزيد بيننا التعاون والتقارب ، حتى أصبحنا طاقة جبارة لحل مشكلات ذوي الاحتياجات الخاصة وكما مارسنا الضغوطات على كل من نرى فيه اهمال او تقصير في التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة ومشاكلهم .
بعد هذا المشوار الطويل .. لا أدري لماذا سألت أمي ذات مساء عن قصة النسر الجريح .


ملاحظة
هذه القصه طبعت على نفقة المجلس الاعلى الاسرة وتوجد ليهم نسخ منها وهذه بادره رائعه من المجلس الاعلى بدولة قطر انه يوثق تجارب ابنائه من ذوي الاحتياحات وهي توزع بالمجان