عبقرينو
02-15-2015, 02:21 PM
عقوق الوالدين.. حالات مؤلمة وتفكك أسري وانهيار أخلاقي يتزايد
ريم سليمان- سبق- جدة: "ابن يُحرق والدته وأخاه داخل منزلهما، وآخر يضرب أمه وينهرها ويعود باكياً ليلقي باللوم على المخدرات، وثالث يرفض الصرف على علاج والده ويهمله"..
هذه ليست لقطات من فيلم عربي درامي؛ بل مشهد واقعي مرير من الحياة التي نعيشها، يضرب أبطالها بعرض الحائط كل المعاني والقيم النبيلة والرحمة التي دعانا إليها الإسلام، ويتناسوْن قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً}، وقوله أيضاً في نفس الآية {ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما}، وغيرها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحثّ على الرحمة والعطف على الوالدين والعناية بهما والصبر عليهما.
وعلى الرغم من غياب الأرقام والإحصاءات الحقيقية الدقيقة عن عدد ونِسَب قضايا العقوق، والتي يرجع سببها إلى رفض الوالدين الإبلاغ عن أبنائهم؛ تظّل هناك علامات تعجب من ظهور تلك الحالات الشاذة في مجتمعنا وتزايدها!
تحاول "سبق" التعرف على الأسباب التي تدفع بابن إلى عقوق والديه، وتتساءل: هل هي حالات مؤلمة؟ أم نبت شيطاني؟ أم نتاج تربية خاطئة؟
وزارة العدل
كشفت إحصائيات نشرتها وزارة العدل على موقعها لعام 1433، عن عدد قضايا العقوق التي وصلت إلى 1074 قضية، كما كشفت الوزارة نسبة قضايا عقوق الوالدين الواردة إلى محاكمها؛ حيث كانت النسبة الأعلى لمحافظة جدة بعدد 275 قضية، تلتها الرياض 233 قضية، ومكة المكرمة 117 قضية، وتبوك 66 قضية؛ فيما بلغت قضايا عقوق الوالدين في المدينة المنورة 60 قضية، والطائف 49 قضية، و42 قضية في سكاكا، و39 قضية في الدمام، و36 قضية في حائل، و27 قضية في خميس مشيط، و18 قضية في أبها، و15 قضية لكل من الأحساء والخبر، و14 قضية عقوق في نجران، و12 قضية في الخرج، و11 قضية في عرعر.
نبت شيطاني
هذا أب مسكين كان جالساً بجواري أنا وزوجي في أحد المستشفيات ينتظر دوره، وظل يلاعب ابنتي الصغيرة، ووجدته يحدّثني ويطلب مني أن أُحسن تربيتها حتى ترفُق بي عند الكِبَر، ووجدت الدموع في عينه تذرف واحدة تلو الأخرى. وبعد محاولات زوجي لتهدئته وطمأنته، وجدته يشكو لنا من ظلم ابنه له، ورفضه أن يأتي له بالدواء كله، ويكتفي بجزء دون الآخر، وظل يبكي ويقول: لم أكن أعلم أنه نبت شيطاني، استولى عليه الجشع وحب المال.. وسكت فترة ثم أخذ يدعو له بالهداية، ويدعو لابنتي بأن تكون بارّة بوالديها.
ومن جانبها، قالت إحدى الفتيات، تحتفظ "سبق" باسمها: "اعتاد أخي الأكبر على إهانة أمي بصفة مستمرة، وكانت تكتفي بالبكاء، وترى أنه بصفته الأخ الأكبر فمن حقه أن تطيع أوامره، واستمر الحال بها سنوات، وبعد زواجي أنا وشقيقتي، بدأت تشعر أمي بمعاناتها مع أخي الذي تزوّج وسكَن في منزل أمي، وزادت شكواها إلى أن تدخّل الأهل والأقارب.
وتابعت: كانت ترفض أمي دائماً كل المطالبات مِن حولها بتقديم دعوى عقوق تجاه ابنها، وظل أخي يتمادى في جبروته، إلى أن جاء اليوم الذي طردها فيه من منزلها، ووجدت نفسها في الشارع.
رفض أخي أن تعود أمي إلى المنزل، واتفق مع الأقارب أن يدفع لها مبلغاً شهرياً لاستئجار سكن بعيد عنه، ورضخت أمي لذلك برغم اعتراضي أنا وأختي؛ إلا أنها دائماً ما تقول: لا أستطيع أن أضعه في السجن ولديه أبناء صغار.
ثم قالت: لا أدري كيف ينام أخي مرتاح البال وهو يعلم أنه طرد مَن كانت سبباً في إدخاله الجنه؟ وأي غرور وجبروت يتملك هذا النموذج من الرجال؟!
و قد نُشر مؤخراً في الصحف المحلية عن خلاف عائلي أدى إلى حرق ابن منزل والدته وإخوته، وتمكنت الشرطة من القبض عليه، ولا تزال القضية داخل ساحات القضاء.
انحراف سلوكي
عرّف أستاذ علم الاجتماع والجريمة الدكتور عبدالله الشعلان، عقوق الوالدين بأنه: انحراف سلوكي يصدر عن أبناء يُفترض بهم الطاعة والبر ضد آباء وأمهات يُفترض أن ينعموا بحسن صحبة أبنائهم، وقال: "كلمة عقوق الوالدين تجمع بين نقيضين (عقوق)، وتعني شق عصا الطاعة، وعدم الصلة، وسوء الخلق والمعاملة، وكلمة (والدين) وتعني -ما وراء مفهومها اللغوي- الحب والعطاء والحنان والتضحية؛ فعندما نجمع بين الكلمتين (عقوق الوالدين) يظهر لنا التضاد والتنافر، وتشمئز له النفس وترفضه الفطرة السليمة".
ولفت إلى مظاهر عقوق الوالدين، التي تزايدت في المجتمع مؤخراً، وأصبحت تمثّل نسبة مرتفعة من الدعاوى في المحاكم، كما تشير إحدى الدراسات، ومن أبرزها: نهر الوالديْن وزجرهما، والمكوث طويلاً خارج المنزل، وذمهما، وتشويه سمعتهما، والتعدي عليهما بالضرب والخجل منهما.
فشل الأسرة
وأرجع أستاذ الاجتماع، ظاهرة عقوق الوالدين إلى الخلل الذي يصيب بناء الأسرة؛ مشيراً إلى أن ضَعف الأسرة وفشلها في القيام بوظائفها كما يجب، يمكن أن يؤدي إلى ظاهرة عقوق الوالدين، وألقى باللوم على التغيّر الذي أصاب بناء الأسرة، والمتمثل في وجود واعتماد الأسرة على الخدَم والسائقين؛ مما أدى إلى إعادة توزيع الأدوار بين أفراد الأسرة الواحدة.
وحذّر من اتّكال الأسرة -ولو جزئياً- على الخدَم في تربية الأبناء، وقضاء احتياجاتهم، وأن ذلك يُضعف من علاقة الأبناء بوالديهم والتفاعل معهم، وهذا بدوره يُضعف من احترامهم لهم، وقال: "هناك أيضاً أساليب غير سليمة في التنشئة الاجتماعية تتخذها بعض الأسر، والتي يمكن أن تؤدي إلى مشكلة العقوق؛ كأسلوب القسوة والتسلط، والإهمال واللامبالاة، والحماية والتدليل الزائد، وأيضاً التساهل المفرط معهم".
الإعلام غير المنضبط
ومن أسباب عقوق الوالدين -بحسب كلام "الشعلان"- التفكك الأسري؛ إما بالطلاق أو بالخلافات، والمشاكل بين الوالدين أمام مرأى من الأبناء؛ مما يؤدي إلى شحن الأبناء ضد والديهم أو اتخاذ موقف ضد أحدهم.
وحول دور الإعلام في بروز تلك الظاهرة، قال "الشعلان": "من الأسباب الثقافية لعقوق الوالديْن الانفتاح غير المنضبط على وسائل الإعلام الجديد، واستيراد نماذج من السلوك لا تتفق مع ثقافة المجتمع الدينية والاجتماعية.. هذا مع وجود التعددية في الأُطر المرجعية للسلوك، والتي تنشأ بسبب الإعلام الجديد؛ فلم يعُد معيار القبول والرفض والخطأ والصواب للسلوك واضحاً لدى الأبناء".
وختم حديثه بالتأكيد على أن علاقة الأبناء بالآباء يحب أن تحكمها قيم ومعايير دينية واضحة، تتضمن حقوقاً وواجبات لكلا الطرفين؛ فمن حق الأبناء على الآباء: الرعاية، والاهتمام، والإنفاق، والتربية الدينية السليمة، ومن حق الآباء على الأبناء: الاحترام، والطاعة، وخفض جناح الذل من الرحمة، والدعاء لهما.
خط الوالدين
واعتبر عضو برنامج "الأمان الأسري" عبدالرحمن القراش، عقوق الوالدين من أشد السلوكيات التي يظهر فيها نُكران الجميل لمن كانا سبباً في وجود الأبناء في هذه الحياة.
وعَزَا أسباب عقوق الأبناء، إلى فقدان الانتماء الأسري الذي يصنعه الوالدان ببعدهما وتناسيهما للدور المنوط بهما، في زرع قِيَم المحبة والتساوي والتسامح بين الأبناء؛ مما يخلق في الطفل الشعور بعدم التقدير والاحترام، كما أن الطلاق وزيادة نسبته داخل المجتمع قد تؤدي إلى العقوق، عندما يرى الطفل ظلم الأب للأم، وطردها من بيتها أمام أطفالها، وحرمانهم من رؤيتها، أو العكس ورمي الأم لأبنائها.
وتابع قائلاً: يُعَدّ العنف من أقسى الأمور التي تدفع إلى العقوق، كما أن الإفراط في التدليل وعدم تحمل المسؤولية يجعل الأطفال يكبرون على حب "الأنا".
ونصح "القراش" بضرورة أن يدرك الآباء والأمهات أن الأسرة لها قدسيتها؛ فلا نربي أبناءنا لزماننا؛ وإنما لزمانهم؛ وفق ما يتلاءم مع الشرع الحنيف والأعراف الحميدة؛ لافتاً إلى أهمية تحصينهم دينياً، وفتح أُفُق الحوار والاحتواء؛ بعيداً عن العنف والمقارنة، وفتح مساحة للحرية التي تتلاءم مع ظروفهم ومحيطهم، ولا تُخِلّ بمبادئ التربية القويمة.
وطالَبَ عضو لجنة الأمان الأسري "الشؤون الاجتماعية" أن تفعّل خط الوالدين في حالة تعرضهما للعنف والإيذاء؛ على أن يكون متصلاً بـ"الداخلية" و"العدل"، وإيجاد دار إيواء مؤقت؛ وليس دار العجزة الذين لا أبناء لهم.
العنف الأسري
من جهتها، أوضحت عضو الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان الدكتورة سهيلة زين العابدين، أن قضايا العقوق تُعَدّ ضمن قضايا العنف الأسري، وتنازل الآباء والأمهات عن حقهم حرصاً على الأبناء، يُعَدّ سبباً رئيساً في عدم انتشارها بشكل كبير برغم وجودها بكثرة.
ورأت أن هناك فجوة كبيرة بين الآباء والأبناء، كما أن هناك خطأ واضحاً في الخطاب المجتمعي والخطاب التعليمي الموجود؛ مما زاد من نسبة عقوق الأبناء؛ مشيرة إلى خطورة وجود أبناء عاقين ليس على الأسرة فقط؛ ولكن على المجتمع بأكمله، وقالت: الولد العاقّ لأسرته يكون عاقاً لوطنه، وبعدها يصبح عاقاً لله سبحانه تعالى.
وحمّلت "زين العابدين" المسؤولية للتربية وانشغال الآباء في الاستراحات والأمهات في الحفلات، وقالت: هناك رجال يجلسون مع أصدقائهم أكثر من أولادهم، ويرجعون لإلقاء اللوم على الأم، دون النظر إلى خطورة نزواتهم على الأسرة.
ولفتت إلى أن هناك بعض الأمهات تزدن من طغيان أبنائهن؛ بسبب الجهل والثقافة الخاطئة؛ فنجد أمهات يرين أن مِن حق الابن الأكبر أن يهيمن على أمه ويظلم أخواته الأصغر، وهي تستسلم لذلك، وهناك نماذج عدة تعاني من ذلك، وتشكو فيها البنات من تكبّر وظلم الأخ وخضوع الأم له.
اضطراب نفسي
واتجهت "سبق" إلى استشاري الطب النفسي الدكتورعلي زائري، للتعرف على الأسباب النفسية، وقال: "عقوق الوالدين له أسباب كثيرة؛ ولكن بعض الأسباب النفسية هي اضطراب نفسي لدى العاقّ، يمنعه من نضوج العلاقة مع أحد والديه، وبالتالي يصبح الوالدان ضحية لمشاعر الكراهية أو الشكوك والأوهام؛ مما يسبب العنف اللفظي أو الجسدي".
وأوضح أن أشهر الأمراض النفسية، هي الناتجة عن استخدام المخدرات، والتي تسبّب تلفاً في بصيرة المستخدم، وتجعله يضطهد مَن حوله وينتقم منهم بسبب الهلاوس؛ مشيراً إلى أنه في بعض الأحيان يُخَيّل له أن والديه هما السبب في مرضه أو تعاسته أو اضطهاده، ولهذا لا نستغرب غضب هذا المدمن واستخدامه للعنف تجاه أفراد أسرته أو والديه.
وأكد "الزائري" أن الجرائم الكبرى مثل القتل والحرق وغيرها، غالباً ما تكون نتيجة أمراض نفسية رئيسة، وتفكير غير سوي، يتطلب العلاج وربما الحجز الصحي، وليس مجرد عقوق أو اختلاف وجهات نظر؛ ناصحاً الوالديْن بضرورة أخذ الحيْطة والحذر من الابن العنيف والتعامل مع التهديد محمل الجد، ومحاولة علاجه إذا استدعى الأمر لذلك.
وبسؤاله عن التأثير النفسي لعقوق الأبناء، أجاب قائلاً: لا شك أن التأثير على الوالديْن كبير جداً؛ مثل إحباطهم، وخيبة أملهم، وشعورهم بالحزن والاكتئاب والخوف والقلق، وفقدان الشعور بالأمان والطمأنينة.
ريم سليمان- سبق- جدة: "ابن يُحرق والدته وأخاه داخل منزلهما، وآخر يضرب أمه وينهرها ويعود باكياً ليلقي باللوم على المخدرات، وثالث يرفض الصرف على علاج والده ويهمله"..
هذه ليست لقطات من فيلم عربي درامي؛ بل مشهد واقعي مرير من الحياة التي نعيشها، يضرب أبطالها بعرض الحائط كل المعاني والقيم النبيلة والرحمة التي دعانا إليها الإسلام، ويتناسوْن قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً}، وقوله أيضاً في نفس الآية {ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما}، وغيرها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحثّ على الرحمة والعطف على الوالدين والعناية بهما والصبر عليهما.
وعلى الرغم من غياب الأرقام والإحصاءات الحقيقية الدقيقة عن عدد ونِسَب قضايا العقوق، والتي يرجع سببها إلى رفض الوالدين الإبلاغ عن أبنائهم؛ تظّل هناك علامات تعجب من ظهور تلك الحالات الشاذة في مجتمعنا وتزايدها!
تحاول "سبق" التعرف على الأسباب التي تدفع بابن إلى عقوق والديه، وتتساءل: هل هي حالات مؤلمة؟ أم نبت شيطاني؟ أم نتاج تربية خاطئة؟
وزارة العدل
كشفت إحصائيات نشرتها وزارة العدل على موقعها لعام 1433، عن عدد قضايا العقوق التي وصلت إلى 1074 قضية، كما كشفت الوزارة نسبة قضايا عقوق الوالدين الواردة إلى محاكمها؛ حيث كانت النسبة الأعلى لمحافظة جدة بعدد 275 قضية، تلتها الرياض 233 قضية، ومكة المكرمة 117 قضية، وتبوك 66 قضية؛ فيما بلغت قضايا عقوق الوالدين في المدينة المنورة 60 قضية، والطائف 49 قضية، و42 قضية في سكاكا، و39 قضية في الدمام، و36 قضية في حائل، و27 قضية في خميس مشيط، و18 قضية في أبها، و15 قضية لكل من الأحساء والخبر، و14 قضية عقوق في نجران، و12 قضية في الخرج، و11 قضية في عرعر.
نبت شيطاني
هذا أب مسكين كان جالساً بجواري أنا وزوجي في أحد المستشفيات ينتظر دوره، وظل يلاعب ابنتي الصغيرة، ووجدته يحدّثني ويطلب مني أن أُحسن تربيتها حتى ترفُق بي عند الكِبَر، ووجدت الدموع في عينه تذرف واحدة تلو الأخرى. وبعد محاولات زوجي لتهدئته وطمأنته، وجدته يشكو لنا من ظلم ابنه له، ورفضه أن يأتي له بالدواء كله، ويكتفي بجزء دون الآخر، وظل يبكي ويقول: لم أكن أعلم أنه نبت شيطاني، استولى عليه الجشع وحب المال.. وسكت فترة ثم أخذ يدعو له بالهداية، ويدعو لابنتي بأن تكون بارّة بوالديها.
ومن جانبها، قالت إحدى الفتيات، تحتفظ "سبق" باسمها: "اعتاد أخي الأكبر على إهانة أمي بصفة مستمرة، وكانت تكتفي بالبكاء، وترى أنه بصفته الأخ الأكبر فمن حقه أن تطيع أوامره، واستمر الحال بها سنوات، وبعد زواجي أنا وشقيقتي، بدأت تشعر أمي بمعاناتها مع أخي الذي تزوّج وسكَن في منزل أمي، وزادت شكواها إلى أن تدخّل الأهل والأقارب.
وتابعت: كانت ترفض أمي دائماً كل المطالبات مِن حولها بتقديم دعوى عقوق تجاه ابنها، وظل أخي يتمادى في جبروته، إلى أن جاء اليوم الذي طردها فيه من منزلها، ووجدت نفسها في الشارع.
رفض أخي أن تعود أمي إلى المنزل، واتفق مع الأقارب أن يدفع لها مبلغاً شهرياً لاستئجار سكن بعيد عنه، ورضخت أمي لذلك برغم اعتراضي أنا وأختي؛ إلا أنها دائماً ما تقول: لا أستطيع أن أضعه في السجن ولديه أبناء صغار.
ثم قالت: لا أدري كيف ينام أخي مرتاح البال وهو يعلم أنه طرد مَن كانت سبباً في إدخاله الجنه؟ وأي غرور وجبروت يتملك هذا النموذج من الرجال؟!
و قد نُشر مؤخراً في الصحف المحلية عن خلاف عائلي أدى إلى حرق ابن منزل والدته وإخوته، وتمكنت الشرطة من القبض عليه، ولا تزال القضية داخل ساحات القضاء.
انحراف سلوكي
عرّف أستاذ علم الاجتماع والجريمة الدكتور عبدالله الشعلان، عقوق الوالدين بأنه: انحراف سلوكي يصدر عن أبناء يُفترض بهم الطاعة والبر ضد آباء وأمهات يُفترض أن ينعموا بحسن صحبة أبنائهم، وقال: "كلمة عقوق الوالدين تجمع بين نقيضين (عقوق)، وتعني شق عصا الطاعة، وعدم الصلة، وسوء الخلق والمعاملة، وكلمة (والدين) وتعني -ما وراء مفهومها اللغوي- الحب والعطاء والحنان والتضحية؛ فعندما نجمع بين الكلمتين (عقوق الوالدين) يظهر لنا التضاد والتنافر، وتشمئز له النفس وترفضه الفطرة السليمة".
ولفت إلى مظاهر عقوق الوالدين، التي تزايدت في المجتمع مؤخراً، وأصبحت تمثّل نسبة مرتفعة من الدعاوى في المحاكم، كما تشير إحدى الدراسات، ومن أبرزها: نهر الوالديْن وزجرهما، والمكوث طويلاً خارج المنزل، وذمهما، وتشويه سمعتهما، والتعدي عليهما بالضرب والخجل منهما.
فشل الأسرة
وأرجع أستاذ الاجتماع، ظاهرة عقوق الوالدين إلى الخلل الذي يصيب بناء الأسرة؛ مشيراً إلى أن ضَعف الأسرة وفشلها في القيام بوظائفها كما يجب، يمكن أن يؤدي إلى ظاهرة عقوق الوالدين، وألقى باللوم على التغيّر الذي أصاب بناء الأسرة، والمتمثل في وجود واعتماد الأسرة على الخدَم والسائقين؛ مما أدى إلى إعادة توزيع الأدوار بين أفراد الأسرة الواحدة.
وحذّر من اتّكال الأسرة -ولو جزئياً- على الخدَم في تربية الأبناء، وقضاء احتياجاتهم، وأن ذلك يُضعف من علاقة الأبناء بوالديهم والتفاعل معهم، وهذا بدوره يُضعف من احترامهم لهم، وقال: "هناك أيضاً أساليب غير سليمة في التنشئة الاجتماعية تتخذها بعض الأسر، والتي يمكن أن تؤدي إلى مشكلة العقوق؛ كأسلوب القسوة والتسلط، والإهمال واللامبالاة، والحماية والتدليل الزائد، وأيضاً التساهل المفرط معهم".
الإعلام غير المنضبط
ومن أسباب عقوق الوالدين -بحسب كلام "الشعلان"- التفكك الأسري؛ إما بالطلاق أو بالخلافات، والمشاكل بين الوالدين أمام مرأى من الأبناء؛ مما يؤدي إلى شحن الأبناء ضد والديهم أو اتخاذ موقف ضد أحدهم.
وحول دور الإعلام في بروز تلك الظاهرة، قال "الشعلان": "من الأسباب الثقافية لعقوق الوالديْن الانفتاح غير المنضبط على وسائل الإعلام الجديد، واستيراد نماذج من السلوك لا تتفق مع ثقافة المجتمع الدينية والاجتماعية.. هذا مع وجود التعددية في الأُطر المرجعية للسلوك، والتي تنشأ بسبب الإعلام الجديد؛ فلم يعُد معيار القبول والرفض والخطأ والصواب للسلوك واضحاً لدى الأبناء".
وختم حديثه بالتأكيد على أن علاقة الأبناء بالآباء يحب أن تحكمها قيم ومعايير دينية واضحة، تتضمن حقوقاً وواجبات لكلا الطرفين؛ فمن حق الأبناء على الآباء: الرعاية، والاهتمام، والإنفاق، والتربية الدينية السليمة، ومن حق الآباء على الأبناء: الاحترام، والطاعة، وخفض جناح الذل من الرحمة، والدعاء لهما.
خط الوالدين
واعتبر عضو برنامج "الأمان الأسري" عبدالرحمن القراش، عقوق الوالدين من أشد السلوكيات التي يظهر فيها نُكران الجميل لمن كانا سبباً في وجود الأبناء في هذه الحياة.
وعَزَا أسباب عقوق الأبناء، إلى فقدان الانتماء الأسري الذي يصنعه الوالدان ببعدهما وتناسيهما للدور المنوط بهما، في زرع قِيَم المحبة والتساوي والتسامح بين الأبناء؛ مما يخلق في الطفل الشعور بعدم التقدير والاحترام، كما أن الطلاق وزيادة نسبته داخل المجتمع قد تؤدي إلى العقوق، عندما يرى الطفل ظلم الأب للأم، وطردها من بيتها أمام أطفالها، وحرمانهم من رؤيتها، أو العكس ورمي الأم لأبنائها.
وتابع قائلاً: يُعَدّ العنف من أقسى الأمور التي تدفع إلى العقوق، كما أن الإفراط في التدليل وعدم تحمل المسؤولية يجعل الأطفال يكبرون على حب "الأنا".
ونصح "القراش" بضرورة أن يدرك الآباء والأمهات أن الأسرة لها قدسيتها؛ فلا نربي أبناءنا لزماننا؛ وإنما لزمانهم؛ وفق ما يتلاءم مع الشرع الحنيف والأعراف الحميدة؛ لافتاً إلى أهمية تحصينهم دينياً، وفتح أُفُق الحوار والاحتواء؛ بعيداً عن العنف والمقارنة، وفتح مساحة للحرية التي تتلاءم مع ظروفهم ومحيطهم، ولا تُخِلّ بمبادئ التربية القويمة.
وطالَبَ عضو لجنة الأمان الأسري "الشؤون الاجتماعية" أن تفعّل خط الوالدين في حالة تعرضهما للعنف والإيذاء؛ على أن يكون متصلاً بـ"الداخلية" و"العدل"، وإيجاد دار إيواء مؤقت؛ وليس دار العجزة الذين لا أبناء لهم.
العنف الأسري
من جهتها، أوضحت عضو الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان الدكتورة سهيلة زين العابدين، أن قضايا العقوق تُعَدّ ضمن قضايا العنف الأسري، وتنازل الآباء والأمهات عن حقهم حرصاً على الأبناء، يُعَدّ سبباً رئيساً في عدم انتشارها بشكل كبير برغم وجودها بكثرة.
ورأت أن هناك فجوة كبيرة بين الآباء والأبناء، كما أن هناك خطأ واضحاً في الخطاب المجتمعي والخطاب التعليمي الموجود؛ مما زاد من نسبة عقوق الأبناء؛ مشيرة إلى خطورة وجود أبناء عاقين ليس على الأسرة فقط؛ ولكن على المجتمع بأكمله، وقالت: الولد العاقّ لأسرته يكون عاقاً لوطنه، وبعدها يصبح عاقاً لله سبحانه تعالى.
وحمّلت "زين العابدين" المسؤولية للتربية وانشغال الآباء في الاستراحات والأمهات في الحفلات، وقالت: هناك رجال يجلسون مع أصدقائهم أكثر من أولادهم، ويرجعون لإلقاء اللوم على الأم، دون النظر إلى خطورة نزواتهم على الأسرة.
ولفتت إلى أن هناك بعض الأمهات تزدن من طغيان أبنائهن؛ بسبب الجهل والثقافة الخاطئة؛ فنجد أمهات يرين أن مِن حق الابن الأكبر أن يهيمن على أمه ويظلم أخواته الأصغر، وهي تستسلم لذلك، وهناك نماذج عدة تعاني من ذلك، وتشكو فيها البنات من تكبّر وظلم الأخ وخضوع الأم له.
اضطراب نفسي
واتجهت "سبق" إلى استشاري الطب النفسي الدكتورعلي زائري، للتعرف على الأسباب النفسية، وقال: "عقوق الوالدين له أسباب كثيرة؛ ولكن بعض الأسباب النفسية هي اضطراب نفسي لدى العاقّ، يمنعه من نضوج العلاقة مع أحد والديه، وبالتالي يصبح الوالدان ضحية لمشاعر الكراهية أو الشكوك والأوهام؛ مما يسبب العنف اللفظي أو الجسدي".
وأوضح أن أشهر الأمراض النفسية، هي الناتجة عن استخدام المخدرات، والتي تسبّب تلفاً في بصيرة المستخدم، وتجعله يضطهد مَن حوله وينتقم منهم بسبب الهلاوس؛ مشيراً إلى أنه في بعض الأحيان يُخَيّل له أن والديه هما السبب في مرضه أو تعاسته أو اضطهاده، ولهذا لا نستغرب غضب هذا المدمن واستخدامه للعنف تجاه أفراد أسرته أو والديه.
وأكد "الزائري" أن الجرائم الكبرى مثل القتل والحرق وغيرها، غالباً ما تكون نتيجة أمراض نفسية رئيسة، وتفكير غير سوي، يتطلب العلاج وربما الحجز الصحي، وليس مجرد عقوق أو اختلاف وجهات نظر؛ ناصحاً الوالديْن بضرورة أخذ الحيْطة والحذر من الابن العنيف والتعامل مع التهديد محمل الجد، ومحاولة علاجه إذا استدعى الأمر لذلك.
وبسؤاله عن التأثير النفسي لعقوق الأبناء، أجاب قائلاً: لا شك أن التأثير على الوالديْن كبير جداً؛ مثل إحباطهم، وخيبة أملهم، وشعورهم بالحزن والاكتئاب والخوف والقلق، وفقدان الشعور بالأمان والطمأنينة.