فوزيه الخليوي
11-15-2008, 10:30 PM
التحرش الجنسي ... من يعلق الجرس في عالمنا العربي الكبير ظللنا عقودا من الزمن نرزح تحت وطأة الأيدلوجيات المطلقة التي كانت تحدد لنا أطر التفكير والتعامل مع الحياة والناس وكل شيء من حولنا فمن خلال النافذة الأيديولوجية, كنا نرى العالم بقيمه وثقافاته ونحاكمه بناءً على محدداتنا العقائدية الأمر الذي حال دون تعاطينا الإيجابي مع الكثير من المبادئ والقيم ذات الصبغة العالمية التي أصبحت تحكم عالم اليوم, وأصبحت الأيديولوجيا هي الفزعة التي تستخدم ضد تلك القيم سواء تسربلت برداء الدين أو القومية أو غيرها من شعارات الزمن القديم.
وحقوق الإنسان - كمنتج عالمي حضاري - لم يسلم هو الآخر من نظرتنا المبتسرة للأشياء فأصبحنا نتعاطى مع قيم حقوق الإنسان بشروطنا الخاصة التي تفرغ تلك القيم من محتواها وتسلبها قيمتها الأساسية فلا بد أن تخضع الحالة الإنسانية لشروط مسبقة حتى يمكن نصرتها وتقديم المعونة لها.
وبالمثال يتضح المقال - كما يقولون - فقد نشرت بعض الصحف العربية خبر إصدار إحدى المحاكم المصرية لأول مرة حكماً قضائياً تدين فيه شخصاً قام بالتحرش بفتاة بمكان عام, ويعد هذا الحكم الذي صدر لصالح الضحية (نهى رشدي) سابقة قضائية في هذا المجال, وقد قامت إحدى المحاميات بالترافع عن تلك الفتاة (الضحية) حتى استصدرت حكماً لصالحها بعقوبة ذلك المتحرش , إلا أن المحامية سرعان ما أعلنت تراجعها عن إكمال مسيرتها مع الضحية واستكمال الإجراءات القضائية عندما علمت أن تلك الضحية المجني عليها تحمل جوازاً إسرائيلياً - على حد زعمها - وأنها من عرب 48 في يافا شمال تل أبيب , ولم يقتصر الأمر على مجرد الانسحاب بل تعدت ذلك إلى الانتقال إلى الطرف الآخر من القضية والاصطفاف مع الجاني حيث أعلنت عزمها على تقديم استئناف الحكم لصالح المتهم والدفاع عنه!
والأمر قد يكون مفهوماً لو أن تلك المحامية اكتشفت حقائق جديدة وأدلة منتجة في الدعوى لا يسعها مهنياً تغافلها وكان لتلك الأدلة أن تغير الحكم وتحقق العدالة إلا أنه من غير المفهوم إطلاقاً أن يكون سبب الانقلاب المهني من المحامية على موكلتها بسبب خارج عن تفاصيل الخصومة وأحداثها إذ إن جنسية المجني عليها في مثل هذه القضايا التي لها مساس مباشر بحقوق الإنسان لا اعتبار لها فحرمة الإنسان مصانة ومقدسة بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى ولا يمكن فرز الحقوق الإنسانية على حساب الهوية أو المعتقد أو الجنس أو حتى شعارات حقبة (الصمود والتصدي).
تلك الحادثة تبين وكما أوضحنا في مناسبات سابقة - خطورة امتزاج حقوق الإنسان بالسياسة وكيف أن الحقوقي متى تناول القضايا الإنسانية برؤية سياسية فإنه لا يمكن أن يؤدي عمله الحقوقي بشكل سليم ويخرج بنتاج يعود بالنفع على مجتمعه من خلال ترسيخ المبادئ الحقوقية لدى قطاعات المجتمع, فالسياسة لها آلياتها والعمل الحقوقي له آلياته الخاصة .
وإذا كانت تلك هي النظرة القومية لحقوق الإنسان من خلال الأنموذج السابق الذي تجاوزت الفعل المجرم إلى هوية المجني عليه لتصل إلى نتيجة مؤداها (أن حقوق الإنسان إنما تحدد بناءً على هوية من وقع عليه الجرم وليس من خلال الجرم ذاته) إذا كانت تلك رؤية القوميين للحقوق فإن نظرة بعض الدينيين لا تقل عنها بشاعة حيث نجد أن مثل تلك الحوادث التي تكون المرأة ضحيتها يتم التعاطي معها بوسائل الوعظ المباشر عن خطورة الاختلاط وخروج المرأة من (خدرها) وكأن المرأة هي سبب أي جريمة تقع عليها , ودائماً ما تستغل مثل تلك القضايا للتحذير من الاختلاط وأن الحل ليس في معاقبة الجناة أو سن قوانين تجرم التحرش أو التعرض للمرأة, وإنما يكمن الحل في منع المرأة من مناشط الحياة وإغلاق الأبواب عليها دون التعرض للحقوق الإنسانية المهدرة وبشاعة الجريمة ذاتها, وعليه فمتى وقع مثل تلك الحوادث على امرأة ما فإنها - وبناءً على الرؤية الدينية المقولبة - تنقلب من مجني عليها إلى جانية, لأنها خالفت الأطر الأيدلوجية لمن يعتنق هذا التوجه, في مصادرة فجة لحق المرأة في الحركة, وممارسة المناشط الحياتية كآدمية فضلها سبحانه على كثير ممن خلق تفضيلاً.
قضية التحرش الجنسي من القضايا الخطيرة التي تقلق معظم دول العالم بما فيها عالمنا العربي وكنت آمل أن تكون قضية (نهى رشاد) محفزاً للكثير من المهتمين بالشأن الحقوقي بأن يتحركوا بشكل إيجابي لتوعية النساء والأطفال بخطورة تلك الجريمة من خلال التبليغ عن حالات التحرش وإيصال الجناة إلى العدالة والتمرد على الخجل والخوف الذي يشجع الجناة على التعدي على حرمة الجسد ومعاودة جرائمهم مع ضحايا آخرين, إلا أن تلك الرؤى المعلبة للمفاهيم الحقوقية ستكون عائقاً لنصرة تلك الفئة وتسليط الضوء على تلك الجرائم التي تهدد المجتمعات العربية ما لم تكن هناك مراجعات (فكرية) شاملة وشجاعة لدى مفكري أمتنا العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة كما يقولون.
عبد الرحمن محمد اللاحم (allahem@alwatan.com.sa)
وحقوق الإنسان - كمنتج عالمي حضاري - لم يسلم هو الآخر من نظرتنا المبتسرة للأشياء فأصبحنا نتعاطى مع قيم حقوق الإنسان بشروطنا الخاصة التي تفرغ تلك القيم من محتواها وتسلبها قيمتها الأساسية فلا بد أن تخضع الحالة الإنسانية لشروط مسبقة حتى يمكن نصرتها وتقديم المعونة لها.
وبالمثال يتضح المقال - كما يقولون - فقد نشرت بعض الصحف العربية خبر إصدار إحدى المحاكم المصرية لأول مرة حكماً قضائياً تدين فيه شخصاً قام بالتحرش بفتاة بمكان عام, ويعد هذا الحكم الذي صدر لصالح الضحية (نهى رشدي) سابقة قضائية في هذا المجال, وقد قامت إحدى المحاميات بالترافع عن تلك الفتاة (الضحية) حتى استصدرت حكماً لصالحها بعقوبة ذلك المتحرش , إلا أن المحامية سرعان ما أعلنت تراجعها عن إكمال مسيرتها مع الضحية واستكمال الإجراءات القضائية عندما علمت أن تلك الضحية المجني عليها تحمل جوازاً إسرائيلياً - على حد زعمها - وأنها من عرب 48 في يافا شمال تل أبيب , ولم يقتصر الأمر على مجرد الانسحاب بل تعدت ذلك إلى الانتقال إلى الطرف الآخر من القضية والاصطفاف مع الجاني حيث أعلنت عزمها على تقديم استئناف الحكم لصالح المتهم والدفاع عنه!
والأمر قد يكون مفهوماً لو أن تلك المحامية اكتشفت حقائق جديدة وأدلة منتجة في الدعوى لا يسعها مهنياً تغافلها وكان لتلك الأدلة أن تغير الحكم وتحقق العدالة إلا أنه من غير المفهوم إطلاقاً أن يكون سبب الانقلاب المهني من المحامية على موكلتها بسبب خارج عن تفاصيل الخصومة وأحداثها إذ إن جنسية المجني عليها في مثل هذه القضايا التي لها مساس مباشر بحقوق الإنسان لا اعتبار لها فحرمة الإنسان مصانة ومقدسة بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى ولا يمكن فرز الحقوق الإنسانية على حساب الهوية أو المعتقد أو الجنس أو حتى شعارات حقبة (الصمود والتصدي).
تلك الحادثة تبين وكما أوضحنا في مناسبات سابقة - خطورة امتزاج حقوق الإنسان بالسياسة وكيف أن الحقوقي متى تناول القضايا الإنسانية برؤية سياسية فإنه لا يمكن أن يؤدي عمله الحقوقي بشكل سليم ويخرج بنتاج يعود بالنفع على مجتمعه من خلال ترسيخ المبادئ الحقوقية لدى قطاعات المجتمع, فالسياسة لها آلياتها والعمل الحقوقي له آلياته الخاصة .
وإذا كانت تلك هي النظرة القومية لحقوق الإنسان من خلال الأنموذج السابق الذي تجاوزت الفعل المجرم إلى هوية المجني عليه لتصل إلى نتيجة مؤداها (أن حقوق الإنسان إنما تحدد بناءً على هوية من وقع عليه الجرم وليس من خلال الجرم ذاته) إذا كانت تلك رؤية القوميين للحقوق فإن نظرة بعض الدينيين لا تقل عنها بشاعة حيث نجد أن مثل تلك الحوادث التي تكون المرأة ضحيتها يتم التعاطي معها بوسائل الوعظ المباشر عن خطورة الاختلاط وخروج المرأة من (خدرها) وكأن المرأة هي سبب أي جريمة تقع عليها , ودائماً ما تستغل مثل تلك القضايا للتحذير من الاختلاط وأن الحل ليس في معاقبة الجناة أو سن قوانين تجرم التحرش أو التعرض للمرأة, وإنما يكمن الحل في منع المرأة من مناشط الحياة وإغلاق الأبواب عليها دون التعرض للحقوق الإنسانية المهدرة وبشاعة الجريمة ذاتها, وعليه فمتى وقع مثل تلك الحوادث على امرأة ما فإنها - وبناءً على الرؤية الدينية المقولبة - تنقلب من مجني عليها إلى جانية, لأنها خالفت الأطر الأيدلوجية لمن يعتنق هذا التوجه, في مصادرة فجة لحق المرأة في الحركة, وممارسة المناشط الحياتية كآدمية فضلها سبحانه على كثير ممن خلق تفضيلاً.
قضية التحرش الجنسي من القضايا الخطيرة التي تقلق معظم دول العالم بما فيها عالمنا العربي وكنت آمل أن تكون قضية (نهى رشاد) محفزاً للكثير من المهتمين بالشأن الحقوقي بأن يتحركوا بشكل إيجابي لتوعية النساء والأطفال بخطورة تلك الجريمة من خلال التبليغ عن حالات التحرش وإيصال الجناة إلى العدالة والتمرد على الخجل والخوف الذي يشجع الجناة على التعدي على حرمة الجسد ومعاودة جرائمهم مع ضحايا آخرين, إلا أن تلك الرؤى المعلبة للمفاهيم الحقوقية ستكون عائقاً لنصرة تلك الفئة وتسليط الضوء على تلك الجرائم التي تهدد المجتمعات العربية ما لم تكن هناك مراجعات (فكرية) شاملة وشجاعة لدى مفكري أمتنا العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة كما يقولون.
عبد الرحمن محمد اللاحم (allahem@alwatan.com.sa)