|
110533041 زائر
من 1 محرم 1425
هـ
|
|
|
الدراسات والبحوث
|
قضايا الطفولة في الإعلام |
الكاتب : د. ميمون الأزماني |
القراء :
12342 |
قضايا الطفولة في الإعلام انعكاس لأزمة القيم في المجتمع د. ميمون الأزماني يجد الباحث نفسه، وهو يتناول شؤون الطفولة، يغوص في دوّامة القضايا المصيرية للمجتمع، بعد أن أصبح طفلنا الوعاء الذي ترسب فيه كل المعضلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومرآة تطفح بالأوباء الظاهرة والباطنة للمجتمع، وأصبح يمثل عطب الارتجاج في مقدمة القاطرة التي يراهن المجتمع على انطلاقها إلى المستقبل وأي مستقبل؟!. إزاء هذه الوضعية ألا يحسّ المتخصص بأنه في دائرة الفراغ يحدّث نفسه، أو يرسم نظريته في لوحة سوريالية، لأنه يواجه في العمق السؤال الذي يطرحه الواقع، أين هو هذا الطفل؟. لقد انصهر في بؤرة الأزمة الطاحنة، وأصبح كالطيف ملامح بلا كيان طفولي، إننا لانجد الطفل، ولكننا نفترض وجوده، في نطاق استحضار مخائل الطفولة وتكوينها، طبيعة وسلوكا، وكأننا نبحث عن مبرر لصياغة نظرية تقوم على المتخيل الذي نتوهمه شاخصاً، وبالتالي ينتصب أمامنا بحدّة سؤال الاستغراب، هل نحن في حاجة إلى استراتيجية تخص الطفل؟ أم أننا في حاجة إلى إنقاذ مجتمعاتنا من قعر النفق المظلم. لأن جلها تعاني من أزمة الهوية والقيم والأمانة و لذلك، لا يحصرها الإحصاء ولا تحددها النسبة، فهي متداخلة ومتناسلة، تشكل بؤرة الفساد العام الذي يفتك بسلامة الأمة، في قيمها العقدية والثقافية والحضارية، وبالتالي تجعل مجتمعاتنا لا تسأل عن ظواهر الأزمة ولكن تطرح سؤال المصير، من نحن وإلى أين...؟.
وفي ضوء هذا السؤال، تناقش مجتمعاتنا أوضاعها الكارثية لتتضح لها المفارقة الشاذّة، فهي لا تعاني وطأة الفقر الناتج عن قلة الموارد أو عوائق التنمية، فذلك ما تغالبه الأمم بمضاعفة الجهد والتعبئة. إنما هي في قبضة الظلم والقهر الذي أوجده وفرضه الفساد العام، من استفحال الرشوة واحتكار الموارد وهيمنة القهر على دواليب الشأن العام، وشيوع مظاهر السّفه والتبذير. والتطاول على حقوق العيش والكرامة، وتكون الحصيلة أن %40 من ساكنة أوطاننا الإسلامية توجد على حافة الفقر أو في قعر البؤس باستثناء دول بترولية، ويتفاقم فيها التفاوت الطبقي المذهل الذي ينتج كل أشكال التفاوتات المدمرة، تترجم في ردود أفعال التطرف سياسياً وأمنياً واجتماعياً. وإذا كانت هذه الكارثة في حيثيتها ونسبتها فإنها تنزل بركامها على البنية الأساسية للمجتمع، وهي الأسرة التي يحكمها هذا الوضع، فلا تملك المناعة لمواجهته، فتتخلى عن دورها ثم تتحلّل بالتدريج عناصرها لتصبح الكيان المتواري في اللاشعور، الغائب عن الحضور الفعلي، مجرد اسم لحالة مدنية إدارية، ولا غير، وبالطبع فإن الضحية الأولى هو طفل الأسرة الذي يقذف به في أفضل الأحوال إلى سوق عشوائي لالتقاط مصدر عيشه، منساقاً لحتمية الواقع وقدره، وتصبح اليد الطرية هي المعول عليها لمساعدة الأسرة في صراع غريزة عيش البقاء، وفي أحيان كثيرة يتحمل قدر إسعاف إخوته الرضع، وهذا أفضل الأوضاع، لأن عمل الطفل في ظل مجتمع الفساد العام، ومصادرة الحقوق، يفتقد تلقائياً المعنى القيمي الذي يعطيه المجتمع السوي لضرورات عمل الطفل، كمساعدة الأسرة المعوزة، أو تدارك وضعه المستقبلي بعد انقطاعه المدرسي لأسباب قاهرة، وإنما تشغيل الطفل في مجتمع القهر يتم بقذف إرغامي للشارع، أو السوق العشوائية، فتصبح طفولته لا تعني إلا مدى حصيلة ما يقدمه من شقاء اليوم، ثم بعد ذلك يجره التيار للانفلات والانفصام النهائي عن آصرة هذه الرابطة، والتخلص من القهر الإضافي، سطوة الأبوين.
وتتكرس هذه الظاهرة في ظل العجز الحكومي في ضبط وتقنين تشغيل الأطفال، لأن الظاهرة في استفحال خارج إرادة أي تحكم، وأسوأ من ذلك أن دولنا التي أبرمت اتفاقيات دولية في مجال تنظيم عمل الأطفال أو اتفاقيات حظر أسوأ أشكال العمل، تخفي الأرقام الحقيقية، لأنها أمضتها لمجرد استكمال شكلية الدولة المنتظمة في المجال الأممي أو بدافع هواجس سياسية، وستر المكشوف، وإن لم يعد خافياً عن منظمة العمل الدولية أن تشغيل الطفل دون السن 15-14 عملية سائدة تنتجها الأوضاع الحتمية للدول الثالثية وفي دائرتها دولنا الإسلامية، وفي هذا الصدد فإن الإحصاء التقريبي الذي تقدمه الدوائر العربية عن عدد الأطفال العاملين في الأقطار العربية والتي تحصره في 9 ملايين، تسربوا من التعليم الأساسي يقع تحت طائلة الشك والمساءلة، كما أن المنظمات الدولية تدرك حجم التدليس المعلوماتي الذي يستهدف مراوغة الانتهاكات الحقوقية التي تطال الطفل جسديا وتربويا ونفسياً، وسحق كل الحقوق التي تضمنتها الاتفاقية الأممية المصادق عليها من الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1989، ومجرد إشارة فإن إحصائيات تشغيل الطفل دون سن 14 تغفل جحافل الأطفال الذين يستغلون للتسول، وما أكثر الرضع منهم، وفي ساعات تتعدى 12 ساعة في اليوم، وتكفي لمعرفة الحقيقة معاينة الشارع، وما يطرحه الإعلام البصري والمكتوب من مشاهد أصبحت لازمة في كل التحقيقات الاجتماعية، وقد يتجاوز إرهاق الطفولة في الطواف التسولي 120 ساعة في الأسبوع وهو ضعف ما تحدده المنظمة الدولية في (50 إلى 57 ساعة) لعمل الطفل، ثم إن الأرقام الرسمية تغفل تسرب الطفولة في دواليب للعمل، تظهر أنها غير مضرة، وإن كانت تشكل كل الخطورة، حاضراً أو مستقبلاً، كظاهرة ماسحي الأحذية وباعة السجائر بالتقسيط وبيع الممنوعات والقيام بأصناف من أعمال السخرة في الأسواق، وبالطبع تغفل الإحصائيات ضمن الأعمال الخطيرة تشغيل الطفلات خادمات في البيوت.
ومن خلال استقراء الظاهرة من مصادر الإعلام غير الرسمي يتضح أن السن الطفولي في كل هذه الظواهر لا يحدّ في 12 أو 13 سنة أو دونها، بل في مكتسبات الطفل بمعايشة إكراهات مدمرة، وهنا ينتصب لنا هيكل السن المجازي، كعلامة الجمجمة المنذرة بالخطر، فهو سن تتداخل فيه مراحل العمر من طفولة ومراهقة وسمات الشيخوخة المُنهكة في جسم طري.
ونستخلص أن عيّنات الإحصاءات التي تجهد لالتقاطها وسائل الإعلام المتخصص أو جمعيات مدنية متطوعة، تتسم بصفة المقاربة التي يغلب عليها وصف الطرف الرسمي، وقد يتيه الباحث المتقصي، في تموجات الظاهرة فلا يستبين حتى مصدره، وفي حالات أخرى، فإن الإدارات الحكوماتية تعجز عن الضبط وتقديم رسم بياني، لأن كل المعطيات تصبح متجاوزة، فقيم المجتمع كلها في مهب الأنواء والكوارث المستجدة، مما يفرض إضافة استمارات نوعية وكمية أخرى وإن كانت من صميم الفساد العام. ونستدرك أنه رغم هذا القصور والتعتيم، تنفلت بيانات وإحصاءات، حينما تحتج منظمات دولية عن تسرب مساعاداتها العلاجية أو الغذائية المخصصة للأطفال لأغراض أخرى، وكم ضبطت هذه المنظمات عمليات اختلاس لمواردها، حيث تباع في الأسواق السوداء فيحرم منها الأطفال، وهو ما حدث في بلد لا مجال لذكره، وأصبح موضوعاً إعلامياً مثيراً، وأدهى من ذلك أن بعض المنظمات المانحة أصبحت تشترط الإشراف بنفسها على مراقبة عطاءاتها، وهو ما يعني ضرباً من الحجر على الحكومات، وتدخلاً خارجياً مرفوضاً من الضمير الوطني، غير أن مثل هذه النوازل تلتقطها الحاسة الشعبية، فتترعها باليأس، فليس للمنظمات الحقوقية دركيون يعاينون حالة الاختلاس اليومي الذي يتعرض له المواطن الذي تستهدفه الرشوة الصغيرة وتلتهم كسرة من خبز عياله. ثم إن جنايات اختلاس المساعدات الدولية الممنوحة لفائدة الأطفال، تضع الحكومات نفسها في حرج المطالبة بتخصيص جزء من الَّديْن الخارجي لصالح برامج إنقاذ أطفالها، مع العلم أن البنك العالمي أرغم الدول النامية على رفع الدعم عن المواد الأساسية التي هي قوام عيش الأطفال كالحليب والخبز، وعلَّل إجراءاته بأن ارتفاع المديونية هو نتيجة التبذير والسفه والفساد السياسي والاقتصادي. وإذا كان البنك العالمي يملك جانباً من الحق لتبرير ذمّته، فإنه يتجاهل عن قصد أن الدول الكبرى المالكة للبنك، أغرقت العالم الثالث في ديون التسلح والاستيرادات الكمالية، حتى أصبحت المديونية تبلغ نسبة 60 إلى 70 من الإنتاج الخام، وما يتبقى من هذا الإنتاج لا يسعف حتى ميزانية التسيير. إنه الاستعمار الاقتصادي المتعولم الجديد، فبعد أن أحكم قبضته على موارد الجنوب، وفي قطبه أقطارنا الإسلامية، انتدب البنك العالمي للضغط على رفع الهيمنة على الموارد الإنتاجية والتحكم في نمو الموارد البشرية.
وفي حمى هذا الهوس من الترديات، ينشأ عالم خاص بتجاذباته وانحرافاته، وكأنه يمثل >وطن الهوامش<، وهو ما تواجه فظائعه في أحزمة البؤس ومدن وقرى أحياء القصدير، ففي هذا الوطن ـ الابرتادات، لا تنفصم الأسرة عن عرى وأواصر الوطن فحسب، بل إنها تعيش حالة الشرود عن الزمن والمكان والقيم، ويتلاشى دورها الاجتماعي، وتصبح الأكواخ السكنية هي ونفايات الشارع مرتفعاً للأطفال فيغوصون في المباءات حياةًً وخلقاً ومصيراً، وإزاء هذا القهر لا يفقد الأب والأم كل دور وتوجيه، بل يتردى بهما الواقع ليعيشا بدورهما تشرد أطفالهم، تحت وطأة العجز، إما بالتواطؤ السلبي، الصامت، فالشارع يخلصهما من أعباء لا طاقة لهما بها، أو التشجيع المقصود كمد الطفل بخبرات شارعية، وشحنه بالعدوانية، كنوع من الدفاع لإثبات الوجود في مهاوي القعر الذي يفرض قيمه السائدة، وهذا السلوك هو ما يتبقى للأبوين من مسؤولية في التربية والتوجيه.
وفي أفضل الحالات تقوم عملية مشاركة بين الشارع وبين الأسرة للطفل، فقد يقضي الابن أياماً في تشرد القطيع، ثم يعود إلى >البيت< لقضاء >إجازة< ليعاود من جديد تشرده، فالطفل الحاضر ــ الغائب، أمر عادي يقابل باللامبالاة مقارنة بالأسرة التي تفقد كل صلة بطفلها، ولا تبقى إلا ذكرى باهتة توحي لها بأن لها ابنا في الدنيا، والدنيا واسعة تشمل السجن والمقبرة، أو قد تتمثل هذه الأسرة ابنها ملحماً في المظهر العام للشارع. إنها لقطات لشريط استعراضي، يمكن أن تلتقط واقعه الفظيع في وقائع متفرقة يستنطقها الإعلام المرئي والمكتوب، خاصة عند ارتكاب جرائم فظيعة. فتفتح ملفات تقرأ عناوينها، ولا غير، ثم تظل هذه الملفات مفتوحة. وفي متابعة هذا الشريط تتجلى وضعية الطفلات في أحزمة البؤس، كأنها الترجمة الصارخة للوأد واستئصال معنى الحياة الأسرية، تتفاوت بينهن طبقات الدرك، والمصير الأسفل، فهناك طفلات صََدّرهُن آباؤهن للعمل في بيوتات كخادمات يتحملن قدر سيزيف، حيث تدور أيامهن على حمل أعباء ومشاق البيت، ويتولين خدمة أطفال الأسر، وهم في مثل عمرهن أو دونه بلا أدنى مراعاة بأجسادهن لنوم الكوابيس في حاشية بالمطبخ، وفي الغالب، تفقد الطفلة الخادمة الصلة بأسرتها إلا في زيارة أحد الأبوين في أول الشهر لاستلام أجرة خدمتها، ويتفاقم الشعور بالتمزق والشتات إذا علمنا أن شقيقات يتفرقن للخدمة في البيوت، قد تمر الشهور بل السنوات دون لقاء أسروي ودون أي تواصل أو حتى معرفة عناوين بعضهن بعضاً. إنهن يشكلن الرديف للرقيق الأبيض، والقيمة المضافة للجائحات الاجتماعية، لأن أغلب الطفلات ـ الخادمات، يعملن في بيوت الطبقة الموظفة. ومن التقصي الإعلامي للوضعية الاجتماعية والعلاقة مع الخادمة نستنتج أن الطفلة ـ العاملة في هذه البيوت هي المشجب الذي تعلق عليه الطبقة الموظفة همومها واستياءها، والمتنفس لغليانها الاجتماعي، لأن دخل هذه الطبقة لا يكاد يفي بمتطلبات الحياة، وجلها يعيش حياة الاقتراض وسداده، ونتيجة لهذه الوضعية التي ترجها دوامات الأزمة، تشكل أجرة الطفلة الخادمة عبءاً ضريبياً وفاتورة يرغم على أدائها، وتحت هذه الطائلة تتحول العلاقة إلى صراع التنغيص بين الطرفين، نفسياً وذاتياًً، فتلجأ الطفلة ـ الخادمة إلى التنفيس عن مكبوتاتها بتمردات خفية، وممارسات انتقامية تستهدف رضيع الموظفة ــ السيدة، بإهماله في غيابها أو ضربه أو تناول وجبته، وتعتبر ذلك شبه تعويض عن عملها الشاق، وتحفل الصحافة المكتوبة بشكايات ووقائع مثيرة وأحياناً طرائق تثير ضحك الهم، وتبقى الخلاصة أن الخادمة ـ الطفلة، يدفعها الشعور بالغبن لاستعداء الطفل ـ السيد. إن وضعية التناحرات الاجتماعية تشعل حرب العداوة الطبقية في مهاد ورحاب الطفولة، وتظل الحالة قائمة لا يتغير فيها إلا وجه الطفلة، الخادمة، بسبب الانتقال من بيت إلى بيت، إمّا باستبدالها بأخرى وفي الغالب بطفلة أصغر سناً وأضعف مقاومة وأقل أجراً، أو لأن أباها وجد بيتاً يدفع أكثر، فبضّعها إليه، لتنصرم سنوات طفولتها وهي لا تدرك معنى الاستقرار إلا بمقارنة أوضاع حظها المنبوذ من بيت إلى بيت، إنها قد تكتسب مهارات التكيّف، لكنها مع الهروب إلى المصير المجهول، فلا عودة إلى والديها. وهي ستحرمهما من الأجر الشهري، ولا القدرة على تحمل التعذيب المستمر في بيوتات الشقاء. ومن خلال مراجعة القصاصات الإعلامية المتعلقة بهذه الظاهرة يتضح أن المجتمع يقابلها ببرود، لأنها أصبحت سلوكاً مألوفاً خاصة من طفلات أحزمة البؤس أو الوافدات من أطراف القرى المغيّبة عن الخريطة. وفي الحالات الاستثنائية ترد وقائع هروبهن في صكوك الحيثيات عند ارتكاب جريمة تتخطى الخطوط الحمراء لما تواضع عليه المجتمع الآخر في الطرف الراقي للمدينة من جنح الأحداث.
وهنا تستوقفنا مسألة الجنوح في الوسط الطفولي ـ الهلامي، فنتساءل هل جرائم وجنح الأحداث ـ الطفولة، تندرج في خانة الانحرافات الفردية؟ أم أنها نتيجة الانسياق الأهوج والأرعن لسلوكات لم يتداركها المجتمع السوي بمنظومة رعايته الاجتماعية من تربية وتوجيه وتأهيل في نطاق ممارسة الأسرة والمؤسسات الاجتماعية لمسؤولياتها؟. أم أننا حيال ظاهرة هي نفسها المنشأ الذي ترعرع فيه الطفل؟ فهو لم يخرج عن القيم وإنما مارس سلوكات سائدة، ترعرع عليها وانغرست في ملكاته. وفي صدد مهاوي الانحرافات نجد العنف الذي ينحصر في التدمير الذاتي للعجز عن الحركة بسبب وهن الجسم، ونضوبه، وبالتالي السقوط في قارعة الطريق، في غيبوبة فقدت الوعي بالمحيط الخارجي. وفي موازاة هذا العنف ضد الذات نواجه عنف المعركة الضارية التي تفضي إلى القتل بدون الشعور بالحد الفاصل بين الحياة والموت، ويصبح حمل الأداة الحادة هو العنصر المشترك بين جميع أطفال هذا الوسط الذي لا يحمل هوية إلا عنفه السائد. وفي قعر هذه المستويات الدركية كيف يتحدد معنى الخروج عن الأمن المجتمعي ؟ إذا كان هذا الطفل لم يعايش أمناً ولا قيماً. وإذا كان السائد العام يحمل في طيته الاستثناء ولأن الأمر يتعلق بإنسان، فإن دوافع الفطرة الآدمية قد تتحرك بالوخز للإشعار بحالة هذا التشرذم المأساوي، نفسه أمل الاستغاثة فيتحول إلى إحباط وإلى حالة من التيئيس. تزود هذا الطفل بنزعة الهروب إلى المصير والقدر الوحيد، هو اكتشاف وسائل للتنويم والتّخدير من تلقاء نفسه بلا ثمن، كشم عوادم السيارات وتناول أصناف من معجون الأحذية، وآفات كثيرة يفضحها الإعلام وتقف حيالها أجهزة محاربة هذه الآفات عاجزة عن الحد من تفاقمها، فإنها لا تحارب تجار المخدرات، فمن أين لهذا الطفل أن يقتني المخدرات؟ إن الاكتشاف الطوعي للتنويم وتغييب العقل يرمز في هذه التراجيديا إلى عملية اختراق الجدار الرابع، لكن من السقف. ويوازي هذه الآفة الاستكشافية انتشار البذاءة الجنسية التي يتلقفها الطفل دون السادسة، وتصبح السبة الجنسية هي الأبجدية الأولى لتكوين الجملة، وهي لغة المخاطبة في وسطه، ثم تندرج الانتهاكات الجنسية وأشكال من الشذوذ لتتلقح في عمر طفولة المأساة. ولا يحتاج المرء ليبرز أن كل الهزات الارتجاجية في المجتمع لابد أن تترك آثارها في كل مجالات المحيط الاجتماعي، وأن تصبح خطورة الوباء في عدواه وقابليته للانتشار، ولذلك فإن آفات التخدير الاكتشافي وكل الآفات المدمرة تتضخم كماً وكيفاً، وتكتسح الأوساط، فقد أصبحت بؤرها تنزع خلف المدارس، وفي أزقة ودروب الأحياء، وحتى التي كانت محصنة، لبعدها عن أحزمة البؤس، ثم أصبحت جحافل من هؤلاء الأطفال المشردين، وهم قد فقدوا التحكم في نفوسهم، يطوفون في الشوارع الرئيسية أمام المشهد العام لمكونات المجتمع المدني، وأصبحوا بدون سبق إعلان أو قصد يمثلون شهادة صارخة عن واقع المجتمع المنهك المريض. وفي حالات يستفزون السلطات الأمنية فتنظم في فترات موسمية معلومة حملات تطهيرية، قد تكون في إطار البحث عن مرتكبي جرائم فظيعة أو لهواجس أمنية، أو لمناسبات رسمية، كانعقاد المؤتمرات أو زيارة الضيوف الكبار أو كبح مضايقة السياح. ثم ماذا بعد هذه الحملات؟ سؤال يجيب عنه غياب المؤسسات الاجتماعية من إصلاحيات وخيريات لاستيعاب هذه الجحافل المتواكبة، فتعود الظاهرة لحالها تتحول مع التعود إلى اللامبالاة العامة، حتى بالنسبة للدول التي تراهن في مخططاتها الاقتصادية على السياحة لأنها تثير المخاوف بالنسبة للسائح، وحرجاً ضميرياً حين تمتد إليه الغضة بالتسول، وبكل أساليب استدرار العطف والمضايقة، وقد نشأت عن هذا الوضع العزوف عن الاندماج في الوسط الشعبي، مقاهيه ومطاعمه وأسواقه المفتوحة، والاقتصار على سياحة البرمجة لزيارة المرافق المرتبة والإقامة في الفنادق المصنفة والاقتناء من >البزارات< مما يفوت مداخيل على المرافق الشعبية، ويفوت عليها الإنعاش الاقتصادي. وفي هذه "البانوراما" نحس بأن السائح يقحم نفسه طرفاً في القضية المجتمعية، فنعاين أن عدساته ــ إما بدافع فضولي، إن لم يكن لأغراض مبيتة ــ تُقْبِل بشراهة على التقاط مشاهد التشرذم الطفولي كأنها من مكملات الآثار العمرانية، وديكور الوسط العجائبي بتناقضاته بين الترف الذي يضاهي مستوى الغرب، وبين ما تثيره وضعية هؤلاء الأطفال من تخيلات واسقاطات عن عهود تاريخ القهر الاجتماعي المظلم. ثم إن نظرة السائح المستهجنة عن وضعنا الاجتماعي خاصة بالنسبة لأرهف شرائحه، يحدث جرحاً في شعور الإباء الوطني والحضاري والديني. هكذا نجد وضعية الطفل في صلب الصراع بين الشمال والجنوب، وإحدى المعطيات التي تعتمدها أطاريح المنظمات الدولية في انتقاداتها وضغطها على الدول الثالثية المنهكة. ولا يخفى أن وضعية هؤلاء الأطفال تمثل إغراء لمافيا استغلال الأطفال في الاتجار الجنسي، أو في الأعمال الخطيرة المريبة، بعد عمليات التهريب البشري. إن أطفال أحزمة البؤس ودرك الفقر هم العناوين البارزة لإدانة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية طالما أن هذه الوضعية هي الإفراز الحتمي لهيمنة الفساد العام. وإذا كان طفل اكتشاف التخدير ــ المتشردم، أسريا ونفسيا واجتماعيا، هو مرآة لقعر الهوة، فإن وضعية الطفل في شتى المستويات الطبقية يكوّن هرما للأزمة الطاغية ــ الشاملة، فمن خلال رصد ما يطرحه الإعلام عن وضعية الأسرة في أوطاننا نقف على كارثة مهولة هي ارتفاع نسبة الطلاق وتصاعدها، حيث تصل في عواصم المجتمعات المفتوحة إلى أكثر من %40 من الزيجات، تقذف إلى المحاكم قضايا تتوزعها الجنايات والجنح والأحوال الشخصية، إنها قضايا تطفح بكل الأوباء الاجتماعية، فالقهر الاقتصادي في المدن الكبرى، من ارتفاع السومة الكرائية، وغلاء متطلبات الحياة، واستفحال الرشوة الصغيرة والآفات المدمرة للأخلاق كالخمر والحشيس وانتشار القمار، كل ذلك كوّن وأنتج عناصر التصادم والارتجاج النفسي، مما أحدث التمزق في رابطة الزواج، فنحن لسنا إزاء الطلاق العادي بسبب اختلال العلاقة بين الزوجين لتنافر الطباع أو لعيوب شرعية، وعوامل تندرج في هذه الصفة، ولكننا نواجه طلاق "الإكراهات" كل طرف فيه هو الضحية وهو المدان، ولذلك نجد الباب مفتوحاً لأشكال وأصناف التسربات الفاسدة، فهناك زيجات رصدها المجتمع في الوسط النسائي خاصة، تتم بدافع التخلص من العنوسة، والبكارة، ثم بعدها الطلاق للإقبال على الحياة المتحررة، أما بالنسبة للرجال فنجد شكلا من الزواج هو لمجرد استكمال الحيثية الاجتماعية، أو لمصلحة فرضها الظرف الوقتي، فسرعان ما تختل هذه المصلحة فتفضي إلى الطلاق الأبيض أو طلاق محاكم الجنايات. وسواء الطلاق المفتوح أو الأبيض أو الأحمر فإن الذي يهمنا هنا هو مصير الأطفال المطلقين من الطبقات الدنيا أو المتوسطة، إنهم في أفضل الحالات يعيشون مع الجدة، أو يتوزعون بين عائلات المطلقين، فغالباً ما يسفر الطلاق عن إخلاء البيت، إما للتخلص من السومة الكرائية المرتفعة، وإما لعجز الأم الموظفة عن رعاية طفلها فتلجأ إلى عائلتها...!. ويتضح لنا من استبانات إعلامية، أن هناك أطفالاً فتحوا أعينهم ولم ترتسم في عيونهم ملامح الأب أو الأم. تروج عند انتشار مستنقعات الفساد الشامل مصطلحات لا تستسيغها قيم مجتمعاتنا، وتجترئ على قدسية الروابط، والأخلاق الفطرية، ولعل أبشعها مصطلح "الأمهات العازبات" وكأننا نهذب منطوق الدعارة أو نتعولم مع المنظومة الغربية في إطلاقات مصطلحاتها. أما عن أطفال الأم العازبة أو المتخلى عنهم، فإنهم إذا صادفهم الحظ، يتنقلون بين الملاجئ ليصبحوا فيما بعد رجالا بلا حتى ذكرى السنة الأولى للتشرد، ويزيد في تعميق هذه المأساة اضطراب مدلول الكفالة الاجتماعية، فتنشأ في مجتمعاتنا مشاكل التبني، فرغم كل المباذل فإن القيم المختزنة في وجداننا لا تزين المفاسد، وترى أن الحرام المجتمعي مجسم في هؤلاء. ثم إن هذا الركام من النوائب والكوارث يضع في مجتمعاتنا إزاء حلول خارج عن نطاق قيمها فترفضها إطلاقاً، كدعوة مؤتمر بكّين بإباحة الإجهاض، أي اعتماد شكل من الوأد الحرام للخلاص من البشر. إنه إجهاض للدين وللقيم والضمير، وتكريس للفساد، وتغطية فاسدة للأعراض وليس علاجها. وأين الآن إعلامنا ؟ يتعاطى الإعلام المرئي والمكتوب قضايا الطفل ـ الطفولة، حسب توجهات القنوات والمنابر ومدى استقلاليتها عن الأجهزة الرسمية، وفي هذا الصدد يتبين أن الإعلام المرئي في مجتمعاتنا، وفضائياتنا المستقلة، أكثر استقطاباً للمشاهد في إبراز الجرائم التي تستهدف الأطفال واستنطاف قضايا الأحداث، إلى جانب عرض استطلاعات عن أطفال الشوارع، وفي ثناياها تورد معطيات عن واقع الأسرة، ومعضلاتها الاجتماعية. ثم إن التلفزة بفن توضيب اللقطات والإخراج والمونتاج هي أكثر جذباً للحاسة السادسة للمشاهد والرأي العام لأنها تخرجه من حصار الاعتياد على هذه الظواهر، فيكتشف الزوايا الخفية، غير أن إعلامنا المرئي يغفل أو يتجاهل أنه طرف في تفاقم أزمة الطفل ــ في وسطنا الشعبي، ورجّه نفسياً وعقلياً، والإسهام في تكوين وعي شقي قاتم، يبذر عناصر الشقاق في النفس، ويتمثل هذا التوجيه خاصة في المواد الإشهارية حيث إن جلها عوالم ودنيا لا يعرفها طفل الوسط الكادح أو الفقير، خاصة وهو يشاهد طفل الدعاية الإشهارية، تطفح منه الحيوية والسعادة، يشرب الماء المعدني، ويتناول أصنافاً من المشتهيات، أو يزاول رياضة أنيقة ويشم شعر أمه وعطرها، في حين أنه لا يتلقى من أمه إلا حناناًً هو أقرب إلى الرثاء، أو يتلقى النهر والسب، ثم اللعنات الموجهة إلى الإشهار الذي يبدو كأنه نازل من الفضاء وبين قرينه في السن القابع في ركن بيت، أثمن ما فيه هو جهاز التلفزة، هو الكون والتسلية، وهكذا فإن عناصر الحرمان في نفس طفلنا توجه حاسته ليرى معنى الطفولة وعوالمها في الوجه الغض الشاخص إليه من الشاشة، ويدرك أنه لن يعايش هذه الطفولة، وأنه عمر متدحرج، فلا فرق بينه وبين أبيه في البؤس، ملامحه وأرديته، إلا إذا امتلك مصباح علاء الدين، لكنه في مجتمع موبقات الفساد، تقدم له اكتشافات التخدير الذي يغيب الجسم والعقل عن الوجود والحياة، فيتجرع المآسي وليس الماء المعدني. وإذا كان للهم ما يضحك، فذلك ما يحصل حين تقطع القناة تحقيقها عن تشرد الأطفال لتقدم فواصل إشهارية، بطلها طفل الإشهار بكل لعبه ومشتهياته ودنياه الباهرة. ونترك للمنظومة التربوية والاجتماعية والأمنية أن تحدد مدى الأضرار البليغة ومدى الحقد المجتمعي الذي تنتجه هذه الإشهارات الطفولية في مجتمعات اجترار الفقر وإدمان برامج التلفزيون بإشهاره.
إذا كانت تلفزات مجتمعاتنا تعكس هذا التصادم الطبقي، الذي يزعزع الملكات والقيم، فإن هناك تصادماً وتفاوتا أكثر خطورة وفتكا للطفل حيث يشتت قدراته ويبعثر إدراكه، إنه تفاوت الازدواجية اللغوية وتضارب الألسنة في برامج التلفزة، مما يسبب الانفصام وتكوين شخوص متشاكسة في نفسه، وشخصيته، وهو في سن لا تقوى مقوماته على الممانعة، فتترعرع معه كل أشكال التنافر مع الإدمان على مشاهدة أفلام تقدمها بعض قنواتنا بكثرة، إما لأنها تقتنيها بالجملة أو لأنها أفلام تتلقاها مجاناً في نطاق المساعدات، وهي غالباً ما تدور حول العنف والعصابات وصراع الخيانات، ومهارات السطو على البنوك، يجد فيها طفلنا الصغير، أن العنف والمداهمات، هي الرابطة الموصولة في هذه الأفلام في مجتمعه، وبلا مراقب لأن قنواتنا تتوهم أن المحظور هو تقديم اللقطات الجنسية الإباحية فحسب، ولا تدرك أن هذا المحظور تومئ إليه، فيتوجه الطفل المراهق إلى الدور السينمائية حيث هذا المستور سافراً على الشاشة الكبيرة، في مجتمعاتنا المفتوحة، مع الاستدراك أننا في أوساط أحياء المباءة الغرائزية بالنسبة للوسط الآخر مع الوطن الأول في مجتمع أوطان التفاوتات الطبقية، إنها عناصر متداخلة تنتج إنسان الانفصامات المتشاكسة يستجليها البيان الرباني في كتابه المبين. \ ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً، الحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون \((1. إنه رجل الاختلالات يساهم في إنتاج حالته الإعلام المرئي المستورد والمنظومة التعليمية في الأوطان المقتدية بالبرامج الغربية. أما بالنسبة للصحافة المكتوبة الجادة، فإن قضايا الطفولة بصرف النظر عن الدوافع الاجتماعية تمثل عناوين سياسية، خاصة إذا كانت الصحف ذات توجهات معارضة، في أوطان التعددية الحزبية، لكن هذه الصحف لا تستطيع أن تكبح جماح صحف الإثارة والفضائح التي تتخذ من قضايا الطفولة، وخاصة جرائم الأحداث، مادتها الأثيرة لاقتناص القراء، واستهوائهم، فتساهم بشكل خفيّ في تعويد المجتمع على الظواهر الشاذة والاستهانة بالجريمة، وبث الشعور السادي الذي يغذيه القهر، ويبحث عن شكل من التفريخ، فإذا عمّت هانت.
إنه مصير قاتم، لا يمكن تداركه بالمعالجة الأحادية القطاعية فحسب، إنما باستنهاض إرادة الفاعلين في الأمة، والتصدي للدمار المتمثل في معاول الفساد العام، من قهر سياسي، واقتصادي، واجتماعي، وطبقي، واعتماد استراتيجيات في كل المجالات نابعة من خصائص المجتمع، الدينية والحضارية والثقافية، وإلا نكون كمن يسعى لتغيير لون جلده، وليس علاج أدوائه، فالانصهار في الآخر طبيعته ومباذله هو إلقاء للنفايات السامة في وعاء على حافة الهاوية. وإذا كان من أمل يلوح في فضاء مجتمعاتنا فهو نهوض منظمات ومؤسسات للمجتمع المدني، تعمل من أجل الإنقاذ وترسيخ قيم التكافل والتعاضد، ومناهضة الفساد العام، لأهداف مثلى، يمليها الضمير والقيم والشعور بالمسؤولية لإنقاذ المجتمع وذلك هو الجهاد الأكبر. ________________________________________ (*) جريدة "العلم" الرباط. المملكة المغربية. (1) سورة الزمر، الآية 29.
قضايا الطفل من منظور إسلامي أعمال الـندوة الـدولية التي عقدتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكو ـ بالتعاون مع جمعية الدعوة الإسلامية العالمية والمعهد العالمي للفكر الإسلامي الرباط في الفترة من 29 أكتوبر إلى1 نوفمبر 2002 منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكو ـ 1427هـ/ 2006م |
أطبع
الموضوع |
أرسل الموضوع لصديق
|
|
|
|
|