كلما تنوعت خبرات الطفل وتعددت ألوان حياته ، ازدادت سرعة نموه تبعاً لذلك ، فهو فى طفولته النامية المتطورة أشد ما يكون حاجة إلى أن تتصل نفسه بضروب مختلفة من البيئات الاجتماعية المحيطة به . ولهذه البيئات أثرها القوى فى نموه. وسنعالج تلك الآثار بالتفصيل حينما نبحث النمو الاجتماعي للطفل فى الفصول المقبلة من هذا الكتاب وسنكتفى هنا بالإشارة إلى أثر الأسرة عامة والإخوة خاصة والثقافة القائمة فى سرعة النمو.
علاقة الطفل بأسرته : حياتنا الاجتماعية علاقات غير منظورة تصلنا بالأفراد والجماعات والثقافة المحيطة بنا ، فنتأثر ونؤثر ونتفاعل ونتكيف مع كل هؤلاء، فالطفل يتأثر بأمه وأبيه وإخوته وذويه ، ويؤثر أيضا فيهم، وهكذا تمتد هذه المؤثرات وتتصل لحمتها بسداها حتى تصبح نسيجاً نفسياً اجتماعيا يحيا الطفل فى إطاره . والأسرة هى الوحدة الاجتماعية الأولى والبيئة الأساسية التى ترعى الفرد وهى لهذا تشتمل على أقوى المؤثرات التى توجه نمو طفولته . هذا وتكاد تبلغ طفولة الإنسان ثلث حياته كلها . ولعل طول مدة الطفولة يرجع فى جوهره إلى النظم الاجتماعية والاقتصادية التى تهيمن على حضارتنا القائمة . وتبدأ حياة الطفل بعلاقات بيولوجية حيوية تربطة بأمه ، تقوم فى جوهرها على إشباع الحاجات العضوية كالطعام والنوم والدفء ، ثم تتطور هذه العلاقات إلى علاقات نفسية وثقى ، ثم تتطور منها علاقات أولية أساسية تربط الطفل بأبيه وإخوته . ثم ما يلبت الطفل أن ينشىء لنفسه علاقات وسطى تصل بينه وبين زملائه وأصدقائه ، ثم يتصل بالمجتمع الواسع العريض الذى يحيا فيه فيقيم لنفسه علاقات ثانوية تربطه به، وهكذا تترك كل علاقة من هذه العلاقات وكل جماعة من تلك الجماعات مهما كانت صورتها ، أثرها الواضح فى حياة كل فرد .
علاقة الطفل بإخوته: يتأثر نمو الطفل بترتيبه الميلاد فى الأسرة، وبذلك تختلف سرعة نمو الطفل الأول عن سرعة نمو أخوته الآخرين، وذلك لأن الطفل الثانى يقلد أخاه الأكبر ، ويقلد الطفل الثالث الطفل الثانى والطفل الأول . وهكذا يسرع هذا التقليد بنمو الطفل الثانى والثالث . والتقليد فى الطفولة دعامة قوية من دعامات التعلم وكسب المهارات . فالنمو اللغوى مثلا يعتمد فى جوهره على تقليد الأطفال الصغار لذويهم ولأخوتهم الكبار فى أصواتهم وحركاتهم المعبرة . والطفل الأخير الذى يولد بعد أن يكبر أخوته جميعاً يدلل من والديه ومن أخوته فيتأخر نضجه وتطول مدة طفولته وتبطؤ سرعة نموه فى بعض نواحيها . والطفل الوحيد الذى يتصل بوالديه أتصالاً مباشراً قريبا فتؤثر هذا الصلة فى إدراكه وتفكيره وعملياته العقلية الأخرى ، تأثيراً إيجابياً فعالاً فتزداد لذلك سرعة نموه العقلى . لكن نفس هذه الصلة الوثيقة تؤثر من زواية أخرى تأثيراً سلبياً ضاراً فى النمو الحركى والبدنى للطفل ، ذلك لأن الأب والأم يساعدانه دائماً فى الأمور ، بل كثيراً ما يوفران عليه هذا الجهد ، فلا يجد نموه الحركى حافزاً قويا يدفعه نحو مستويات نضجه . ولقد فطن العرب إلى أثر الترتيب الميلادى فى صفات وسمات الشخصية ، فمن الأنباء التى أستفاضت فى الأدب العربى أن الحارث بن عوف المرى قدم على أوس بن حارثه الطائىخاطباً فدخل أوس على زوجته ودعا ببنته الكبرى فقال لها : يا بنية هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب قد جاءنى طالباً خاطباً وقد أردت أن أزوجك منه . فما تقولين ؟ قالت : لا أقبل . قال : ولماذا ؟ قالت : لأنى إمرأة فى وجهى ردة وفى خلقى بعض العهدة . ولست بأبنه عمه فيرعى رحمى . وليس بجارك فى البلد فيستحى منك ، ولا آمن أن يرى منى ما يكره فيطلقنى فيكون على وعليك من ذلك ما فيه . فصرفها ودعا ببنته الوسطى وعرض عليها ما عرضه على الكبرى فقالت : إنى خرقاء وليست بيدى صناعة ولا آمن أن يرى منى ما يكره فيطلقنى . فلما دعا بأختهما الصغرى قالت : ولكننى والله الجميلة وجهها ، الصناع يدأص ، الرفيعة خلقا الحسيبة أبا فإن طلقنى فلا أخلف الله عليه بخير .
علاقة الطفل بالثقافة : يتصل الطفل بالثقافة التى تهيمن على حياة الأسرة وبالمجتمع الخارجى الكبير فيتأثر بهما ويؤثر فيهما . ويمتص منهما التقاليد والعرف ومعايير الخلق والحرمات والطقوس . بل والأساطير والخرافات ، وهكذا ينشأ الفرد وينمو من مهده إلى لحده فى حد إطار إجتماعى وثقافى ويؤثر فيه ويتفاعل معه ، ويرعى مسالك نموه وخطوات تطوره . وكما أن الفرد يولد داخل مجتمع ما ، فهو يولد أيضا داخل ثقافة خاصة وتشكله هذه الثقافة ، وهو بدوره يشكلها . فإنتاجه بناء لها مقوماتها إطار له ، وهى تؤثر فيه بطريقة مباشرة فى الأسرة والمدرسة ، وهو يسعى جاداً فى سعيه ليكيف نفسه للثقافة حينما يقلد ليتعلم الأساليب العامة للحياة التى يرتضيها لنفسه، وبهذا فالثقافة نتاج المجتمع وأفراده ، والفرد يؤثر فى الثقافة الراهنة نتيجة تأثره بالتراث الثقافى الذى يهبط إليه خلال الأجيال الماضية . فالثقافة والمجتمع ظاهرتان مرتبطاتان متماسكتان أشد التماسك . فلكل ثقافة مجتمع بشرى ، ولكل مجتمع بشرى ثقافة تميزه ، فإذا محونا من أى محتمع ثقافته فإننا بذلك نكون قد سجلنا عنه بشريته وهبطنا به إلى مستوى الجماعات الحيوانية غير الإنسانية --- فالثقافة بهذا المعنى - هى محصلة التفاعل القائم بين الفرد والمجتمع والبيئة وهى ثمرة علاقة الفرد بالفرد وبالزمن والمكان والكون " .
أعمار الوالدين : تتأثر حياة الفرد بأعمار والديه ، فالأطفال يولدون من زوجين شابين يختلفون عن الأطف6ال الذين يولدون من زوجيين جاوزا مرحلة الشباب إلى الشيخوخة . وقد دلت الإبحاث التى قام بها ليجين Lejeune وتيرين R.Turpin على أن نسبة الأطفال الذكور تقل تبعاً لزيادة أعمار الوالدين ، وبذلك تزداد نسبة الأطفال الإناث تبعاً لتناقص نسبة الذكور . لكن الأبحاث الحديثة بدأت تلقى أضواء كثيرة من الشك على مدى صحة وعمومية هذه النتائج . وأوضح بوجات P.Baujat أن الأطفال الذين يولدون من زوجين فى ريعان الشباب يعيشون أطول من الذين يولدون من زوجين يقتربان من مرحلة الشيخوخة . وبذلك فاحتمال زيادة مدى حياة الأبناء تقل تبعاً لزيادة الترتيب الميلادى للطفل ، أى أن مدى حياة الطفل الأول ، أكبر من حياة الطفل الأخير . وتؤكد هذه الأبحاث أن نسبة الأطفال المشوهين ، والمعتوهين تزداد تبعاً لزيادة عمر الأم وخاصة بعد سن الـ45 سنة .