|
110540353 زائر
من 1 محرم 1425
هـ
|
|
|
الدراسات والبحوث
|
المبحث الثالث : في استخدام البصمة الوراثية في المجال الجنائي |
الكاتب : عمر بن محمد السبيل |
القراء :
7757 |
المبحث الثالث في استخدام البصمة الوراثية في المجال الجنائي حيث أن البصمة الوراثية تدل علي هوية كل إنسان بعينه ، وأنها أفضل وسيلة علمية لتحقق من الشخصية ، ومعرفة الصفات الوراثية المميزة للشخص عن غيره عن طريق الأخذ من أي خلية من خلايا جسم الإنسان : من الدم أو اللعاب ، أو المني ، أو البول ، أو غير ذلك ( 1) والاستدلال من خلال نتيجة البصمة الوراثية علي مرتكبي الجرائم ، ومعرفة الجناة عند الاشتباه ، سواء كانت جريمة زنا أو قتل أو اعتداء علي ما دون النفس ، أو سرقة أو حرابة ، أو قضية اختطاف ، أو انتحال لشخصيات الآخرين ، أو غير ذلك من أنواع الجرائم والجنايات علي النفس ، أو العرض أو المال ، فإنه - كما يري المختصون - يمكن الاستدلال عن طريق البصمة الوراثية علي مرتكب الجريمة والتعرف علي الجاني الحقيقي من بين المتهمين من خلال أخذ ما يسقط من جسم الجاني الحقيقي من بين المتهمين من خلال أخذ ما يسقط من جسم الجاني في محل الجريمة وما حوله ، وإجراء تحاليل البصمة الوراثية علي تلك العينات المأخوذة ، ومطابقتها علي البصمات الوراثية للمهتمين بعد إجراء الفحوصات المخبرية علي بصماتهم الوراثية . فعند تطابق البصمة الوراثية للعينة المأخوذة من محل الجريمة ، مع نتيجة البصمة الوراثية لأحد المتهمين ، فإنه يكاد يجزم بأنه مرتكب الجريمة دون غيره من المتهمين ، في حالة كون الجاني واحداً . وقد يتعدد الجناة ويعرف ذلك من خلال تعدد العينات الموجودة في مسرح الجريمة ، ويتم التعرف عليهم من بين المتهمين من خلال مطابقة البصمات الوراثية لهم مع بصمات العينات الموجودة في محل الجريمة.
ويري المختصون أن النتيجة في هذه الحالات قطعية أو شبه قطعية ولا سيما عند تكرار التجارب ، ودقة المعامل المخبرية ، ومهارة خبراء البصمة الوراثية ، فالنتائج مع توفر هذه الضمانات قد تكون قطعية أو شبه قطعية الدلالة علي أن المتهم كان موجوداً في محل الجريمة . لكنها ظنية في كونه هو الفاعل حقيقة . يقول أحد الأطباء : ( لقد ثبت أن استعمال الأسلوب العلمي الحديث بأعداد كثيرة من الصفات الوراثية كدلالات للبصمة الوراثية يسهل اتخاذ القرار بالإثبات أو النفي للأبوة والنسب والقرابة بالإضافة إلي مختلف القضايا الجنائية مثل: التعرف علي وجود القاتل أو السارق ، أو الزاني من عقب السيجارة ، حيث أن وجود أثر اللعاب أو وجود بقايا من بشرة الجاني أو شعرة من جسمه أو من مسحات من المني مأخوذة من جسد المرآة تشكل مادة خصبة لاكتشاف صاحب البصمة الوراثية من هذه الأجزاء . ونسب النجاح في الوصول إلي القرار الصحيح مطمئنة ، لأنه في حالة الشك يتم زيادة عدد الأحماض الأمينية ، ومن ثم زيادة عدد الصفات الوراثية ) (2 )
بناء علي ما ذكر عن حقيقة البصمة الوراثية ، فإن استخدامها في الوصول إلي معرفة الجاني ، والاستدلال بها كقرينة من القرائن المعينة علي اكتشاف المجرمين ، وإيقاع العقوبات المشروعة عليهم في غير الحدود والقصاص ، أمر ظاهر الصحة والجواز ، لدلالة الأدلة الشرعية الكثيرة من الكتاب والسنة علي الأخذ بالقرائن ، والحكم بموجبها ومشروعية استعمال الوسائل المتنوعة لاستخراج الحق ومعرفته كما سيأتي تفصيل ذلك . والقول بجواز الأخذ بالبصمة الوراثية في المجال الجنائي في غير قضايا الحدود والقصاص هو ما ذهب إليه الفقهاء في المجامع والندوات العلمية الشرعية التي تم بحث هذه المسألة فيها ، ولم أقف علي خلاف لأحد في حكم هذه المسألة ، حتى في البحوث المفردة لبعض الفقهاء ، فقد جاء في مشروع (3 ) قرار المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي ما نصه ( إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته (15-) المنعقد في مكة المكرمة التي بدأت يوم السبت 9/7/1419 هـ الموافق 31/10/1998 م وقد نظر في موضوع البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها ...... وبعد التدارس والمناقشات قرر المجلس ما يلي : أولاً : البصمة الوراثية بمثابة دليل يمكن الاعتماد عليها في المجالات التالية : 1- في إثبات الجرائم التي لا يترتب عليها حد شرعي ... الخ ) وجاء في توصية الندوة الفقهية حول الوراثة والهندسة الوراثية ما نصه ( البصمة الوراثية من الناحية العلمية وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من الو الدية البيولوجية ، والتحقق من الشخصية ، ولا سيما في مجال الطب الشرعي ، وهي ترقي إلي مستوي القرائن القوية التي يأخذ بها أكثر الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية (4 ) وإنما قيل بمشروعية الأخذ بالبصمة الوراثية كقرينة من القرائن التي يتدل بها علي المتهم في قضايا الجرائم المختلفة ، ولكن لا يثبت بموجبها حد ولا قصاص ، لأمرين : أما الأول : فلأن الحد والقصاص لا يثبت إلا بشهادة أو إقرار ، دون غيرهما من وسائل الإثبات عند كثير من الفقهاء . وأما الثاني : فلأن الشارع يتشوف إلي درء الحد والقصاص ، لأنهما لا يُدرءان بأني شبه أو احتمال . والشبه في البصمة الوراثية ظاهرة ، لأنها إنما تثبت بيقين هوية صاحب الأثر في محل الجريمة ، أو ما حوله ، لكنها مع ذلك تظل ظنية عند تعدد أصحاب البصمات علي الشيء الواحد أو وجود صاحب البصمة قدراً في مكان الجريمة قبل أو بعد وقوعها ، أو غير ذلك من أوجه الظن المحتملة ( 5) مستند الحكم الشرعي للأخذ بالبصمة الوراثية في المجال الجنائي : المستند الشرعي لجواز الأخذ بالبصمة الوراثية في المجال الجنائي إنها وسيلة لغاية مشروعة ، وللوسائل حكم الغايات ، ولما في الأخذ بها في هذا المجال من تحقيق لمصالح كثيرة ، ودرء لمفاسد ظاهرة ، ومبني الشريعة كلها علي قاعدة الشرع الكبري ، وهي ( جلب المصالح ودرء المفاسد ) وأخذاً بما ذهب إليه جمهور الفقهاء من مشروعية العمل بالقرائن والحكم بمقتضاها ، والحاجة غلي الاستعانة بها علي إظهار الحق ، وبيانه بأي وسيلة قد تدل عليه ، أو قرينة قد تبينه ، استناداً للأدلة الشرعية الكثيرة من الكتاب والسنة الدالة علي ذلك وعملاً بما درج عليه الولاة والقضاة منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم ، ومن بعدهم في عصور الإسلام المختلفة إلي يومنا هذا من استظهار للحق بالقرائن ، والحكم بموجبها ، كما قال العلامة بن القيم رحمه الله ( ولم يزل حذاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات فإذا ظهرت لم يقدموا عليها شهادة تخالفها ولا إقراراً ، وقد صرح الفقهاء كلهم بأن الحاكم إذا ارتاب بالشهود فرقهم وسألهم كيف تحملوا الشهادة وأين تحملوها ؟ وذلك واجب عليه متي عدل عنه أثم وجار في الحكم ، وكذلك إذا ارتاب بالدعوى سال المدعي عن سبب الحق وأين كان ؟ ونظر في الحال هل يقتضي صحة ذلك ؟ وكذلك إذا ارتاب بمن القول قوله ، والمدعي عليه ، وجب عليه أن يستكشف الحال ويسأل عن القرائن التي تدل علي صورة الحال ، وقل حاكم أو وال اعتني بذلك وصار له فيه ملكة إلا وعرف المحق من المبطل ،وأصل الحقوق إلي أهلها ..) ( 6) وقال بن العربي : علي الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت فما ترجح منها قضي بجانب الترجيح ، وهو قوة التهمة ، ولا خلاف في الحكم بها وقد جاء العمل بها في مسائل اتفقت عليها الطوائف الأربعة ، وبعضها قال بها المالكية خاصة ) (7 ) قد كان القضاة قديماً يستعينون بالقافة لمعرفة آثار أقدام المجرمين ثم مع التقدم العلمي أصبح الأخذ ببصمات الأصابع قرينة من أشهر القرائن في التعرف علي الجناة ، واكتشاف المجرمين ، وأضحي العمل بها شائعاً في بلاد الإسلام وغيرها ( 8) ولعله يحسن أن أسواق هنا بعض الأدلة من الكتاب والسنة وغيرها في الدلالة علي مشروعية العمل بالقرائن ، والحكم بمقتضاها فمن ذلك : أولاً : من الكتاب : قول الله عز وجل ) وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (-26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27-) فلما رأي قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم ( ( 9) فاعتبر موضع قد القميص دليلاً علي صدق أحدهما ، وقد حكى الله سبحانه وتعالي هذه القصة مقرراً لها ( 10) ثانياً من السنة : وقد ورد في هذا أحاديث كثيرة منها 1- عن ابن عمر رضي الله عنهما : ( أن رسول الله r قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلي قصرهم ، فغلب علي الزرع والأرض والنخل فصالحوه علي أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ، ولرسول الله r الصفراء والبيضاء ( 11) وشرط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً ، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكاً (12 ) ¬فيه مال وحلي لحي بن أخطب ، كان أحتمله معه إلي خيبر حين أجليت بنوا النضير ، فقال رسول الله r لعم حي بن أخطب : ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير ؟ قال : أذهبته النفقات والحروب ، قال العهد قريب والمال أكثر من ذلك ، فدفعه رسول الله r إلي الزبير ، فمسه بعذاب فقال : قد رأيت حيياً يطوف في خربة هاهنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة ) (13 ) فقد أعتبر النبي r قرينة المال ، وقصر المدة دليلاً علي كذبه في دعواه نفاذ المال فعززه بناء علي هذه القرينة ، فدل علي اعتبار القرائن في إثبات الحقوق إذا لو لم تكن دليلاً شرعياً لما أمر r بضربه ، لأنه ظلم ، وهو عليه الصلاة والسلام منزه عنه (14 ) 2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : ( أرادت الخروج إلي خيبر فأتيت رسول الله r فسلمت عليه وقلت له : أني أردت الخروج إلي خيبر فقال : إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً فإذا أبتغي منك آية فضع يدك علي ترقوته ) ( 15) فقد بين عليه الصلاة والسلام جواز الاعتماد علي القرينة في الدفع للطالب ، واعتبرها دليلاً علي صدقه كشهادة الشهود ( 16) ثالثاً : وردت آثار كثيرة عن بعض الصحابة والتابعين ومن بعدهم من ولاة وقضاه تدل علي أخذهم بالقرائن وحكمهم بمقتضاها ، وقد ذكر العلامة بن القيم في كتابه ( الطرق الحكيمة ) ، وابن فرحون في ( تبصرة الحكام ) آثار كثيرة عن عدد من الصحابة والتابعين : كعمر ، وعلي ، وكعب بن سور ، وإياس ، وغيرهم من مشاهير الولاة والقضاة . رابعاً : أن الاعتماد علي القرينة في الحكم أمر متقرر في الشرائع السابقة ، يدل علي ذلك ، ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال : ( بينما امرأتان معهما أبناهما جاء الذئب ، فذهب بابن أحدهما ، فقالت هذه لصاحبتها : إنما ذهب بأبنك أنت ، وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك أنت فتحاكمتا إلي داود ن فقضي به للكبرى فخرجتا علي سليمان بن داود عليه السلام ، فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينكما فقالت الصغري : لا ، يرحمك الله ، هو ابنها ، فقضي به للصغري ) ( 17) فقد استدل سليمان عليه السلام بعدم موافقة الصغري علي شقه علي أنها أمه ، وأن اعترافها بالولد للكبرى راجع إلي شدة شفقتها عليه ، فآثرت أن يحكم به لغيرها علي أن يصيبه سوء ، فحكم عليه السلام بالولد للصغرى بناء علي هذه القرينة الظاهرة ، وقدم تلك القرينة علي إقرارها ببنوته للكبرى لعلمه أنه إقرار غير صحيح فلو لم يكن الحكم بالقرائن مشروعاً لما حكم سليمان بذلك (18 ) . وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه . فهذه بعض الأدلة الدالة علي جواز العمل بالقرائن وبناء الأحكام عليها ، وأن عدم الأخذ بالقرائن جملة يؤدي إلي إضاعة كثير من الحقوق ،وبالاستقراء يعلم أن بعض القرائن لا تقل قوة فبالدلالة علي الحق عن الشهادة والإقرار ، إن لم تكن أقوي منها . وإذا كان العمل بالقرائن أمراً مشروعاً كما تدل عليه تلك الأدلة ، فإن التوسع في ذلك والاعتماد علي كل قرينة قد يؤدي إلي مجانبة الحق والبعد عن الصواب ، فيجب ألا يتعجل في الأخذ بالقرينة إلا بعد إمعان النظر وتقليب الأمر علي مختلف الوجوه ، إذ قد تبدوا القرائن قاطعة الدلالة لا يتطرق إليها احتمال ، فلا تلبث أن يتبين ضعفها ويتضح أنها بعيدة عما يراد الاستدلال بها عليه . علي أن الاحتياط في الأخذ بالقرائن ليس معناه أنها لا تعتبر إلا إذا كانت دلالتها قطعية ، لأن ذلك أمر يصعب تحققه ، فما من دليل إلا ويتطرق إليه الاحتمال ، وإنما مبنى الأمر علي الظن الغالب . فإن أقوي الأدلة الشرعية الإقرار والشهادة ، وقد دلت بعضاً من الحوادث علي أن بعضاً من الإقرارات لا يكون مطابقاً للواقع ، لأنه صادر تحت تأثير الرغبة أو الرهبة ، أو عدم التصور الكامل للشيء المقر به . وأن بعضاً من الشهود قد يبدوا صدقهم فيما شهدوا به لاتصافهم بالعدالة الظاهرة ، ثم تسفر الحقيقة عن خلاف ذلك فليس ما يعتري القرينة من احتمال الضعف بأكثر ولا بأقوى مما يعتري الشهادة أو الإقرار ، ومن يتتبع المأثور عن قضاة السلف في مختلف العصور لا يساوره شك في أن الأخذ بالقرائن والعمل بمقتضاها في إثبات كثير من الحقوق أمر تدعو إليه الشريعة ، ويتفق مع غرض الشارع من إقامة العدل بين الناس وإيصال الحقوق إلي أربابها ( 19) وقد أوضح العلامة ابن القيم القول باعتبار القرائن وبناء الأحكام عليها أتم إيضاح وأسهب في الاستدلال لذلك بكثير من الآيات والأحاديث والآثار التي تدل علي اعتبار القرائن دليلاً من الأدلة الشرعية ، ثم قال : ( وبالجملة ، فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد ان ، إنما أتت مراداً بها الحجة والدليل والبرهان ، مفردة ومجموعة . وكذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام : ( البينة علي المدعي ) المراد به : أن عليه بيان ما يصحح دعواه ليحكم له ، والشاهدان من البينة ، ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوي منها ، كدلالة الحال علي صدق المدعي فأنها أقوي من دلالة أخبار الشاهد ، والبينة ، والدلالة ، والحجة ، والبرهان ، والآية ، والتبصرة ،والعلامة/، والأمارة متقاربة في المعني .......... فالشارع لم يلغ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال بل من أستقرأ الشرع في مصادره وموارده وجده شاهداً لها بالاعتبار ، مرتباً عليها الأحكام ) ( 20) والواقع أن العمل بالقرائن أمر لا محيد عنه ، وقل أن تجد عالماً من العلماء أستطاع أن يتجنب الأخذ بالقرائن كلية ، وحتى الذين صرحوا بعدم قبولها كدليل صالح لبناء الأحكام عليها عملوا بها في كثير من المواضع ومن يستقري كتب الفقه الإسلامي يجد مسائل لا حصر لها أعتمد الفقهاء فيها علي قرائن الأحوال . ومن ذلك ما يأتي : أولاً : الإجماع علي جواز وطء الزوج لزوجته إذا زفت إليه ليلة الزواج وإن لم يعرف عينها ولم يشهد عنده شاهدان أنها زوجته اعتمادا علي القرينة الظاهرة . ثانياً : قبول الشهادة علي القتل والحكم علي القاتل بالقصاص ، إذا قال الشهود : إن الجني قتل المجني عليه عمداً عدواناً ، مع أن العمدية صفة قائمة بالنفس لا يعلم بها إلا الله ، ومع ذلك قبلت الشهادة اعتماداً علي القرائن الظاهرة ، كاستخدام آلة تقتل غالباً وإتباع الجاني للمجني عليه ، وما أشبه ذلك مما أستوحي منه أن الجاني تعمد القتل ثالثاً : الحكم علي التخنثي بأنه رجل أو امرأة علي الأمارات التي تدل علي ذلك رابعاً : اعتبار سكوت البكر موافقة منها علي الزواج ، والسكوت ليس إلا قرينة علي رضاها . خامساً : قبول أيمان الأولياء في القسامة ، والحكم علي المتهم بالقوض أو الدية علي الخلاف في ذلك ، مع أن الأولياء لم يشاهدوا القتل ، وإنما اعتمدوا علي اللوث ، وهو ليس إلا قرينة تدل علي ارتكاب المدعي عليه للقتل . سادساً : عدم قبول إقرار المريض مرض الموت لوارثه لاحتمال تهمة محاباة المقر له ، وهي قرينة ظاهرة . فهذه أمثلة علي بعض المسائل التي حكم الفقهاء فيها بالقرائن المجردة علي أي دليل آخر ، أو ردتها للدلالة علي ما ذكر من أن جمهور الفقهاء قد ذهبوا إلي القول بمشروعية الحكم بالقرائن ( 21) ولعله لهذا يتجلى مشروعية الأخذ بالبصمة الوراثية في المجال الجنائي ذفي مختلف صوره وأنواعه كقرينة من أقوي القرائن التي يستدل بها علي معرفة الجناة ومرتكبي الجرائم ، لما ثبت بالتجارب العلمية المتكررة من ذوي الخبرة والاختصاص في أنحاء العالم من صحة نتائجها وثبوتها . مما يجعل القول بمشروعية الأخذ بها ، والحكم بمقتضي نتائجها - في غير قضايا الحدود والقصاص عند توفر الشروط والضوابط السابقة الذكر - (22 ) أمراً في غاية الظهور والوجاهة ومع ذلك فإن استثناء قضايا الحدود والقصاص هو من باب الاحتياط لهذه القضايا الخطيرة ، وأخذاً بما ذهب إليه جمهور الفقهاء من عدم إثبات الحدود والقصاص إلا بالشهادة ، أو الإقرار دون غيرهما من وسائل الإثبات . غير أنه يمكن القول بمشروعية الأخذ بالبصمة الوراثية أيضاً في قضايا الحدود والقصاص بناء علي ما ذهب إليه بعض الفقهاء من إثبات بعض الحدود والقصاص بالقرائن والأمارات الدالة علي موجبها وأن لم يثبت ذلك بالشهادة أو الإقرار ، ومن ذلك ما يأتي : 1- إثبات حد الزنا علي المرآة الحامل إذا لم تكن ذات زوج ولا سيد . ( 23) 2- إثبات حد الزنا علي المرآة الملاعنة عند نكولها عن اللعان . ( 24) 3- إثبات حد الخمر علي من وجد فيه رائحته أو تقيئه ، أو في حالة سكره ( 25) 4- إثبات حد السرقة علي من وجد عنده المال المسروق (26 ) 5- ثبوت القصاص علي من وجد وحده قائماً وفي يده سكين عند قتيل يتشحط في دمه . ( 27) فلو قيست البصمة الوراثية علي هذه المسائل التي أثبت بعض العلماء فيها الحد والقصاص من غير شهود ولا إقرار وإنما أخذاً بالقرينة وحكماً بها ، لم يكن الأخذ عندئذ بالبصمة الوراثية والحكم بمقتضاها في قضايا الحدود والقصاص بعيداً عن الحق ولا مجانباً للصواب فيما يظهر قياساً علي تلك المسائل ، لا سيما إذا حف بالقضية أو الحال من قرائن الأحوال ما يؤكد صحة النتائج قطعاً لدي الحاكم ، كمعرفته بأمانة ومهرة خبراء البصمة ، ودقة المعامل المخبرية ، وتطورها ، وتكرار التجارب سيما في أكثر من مختبر ، وعلي أيدي خبراء آخرين يطمئن الحاكم إلي أمانتهم ، وخبرتهم المميزة ، وغير ذلك من القرائن والأحوال التي تحمل الحاكم الشرعي إلي الاطمئنان إلي صحة النتائج ، وترجح ظهور الحق وبيانه عنده بالبصمة الوراثية ، إذ البينة ما أثرت عن وجه الحق وبينته بأي وسيلة . قال العلامة بن القيم : ( فإذا ظهرت أمارات العدل ، وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه ، والله سبحانه أعلم وأحكم ، وأعدل أن يخص طرق العدل وأمارته وأعلامه بشيء ، ثم ينفي ما هو أصغر منها وأقوي دلالة وأبين أمارة ، فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها ، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصودة إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط ، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة لهم ( 28) وإذا صح قياس البصمة الوراثية علي تلك المسائل ، وأنسحب عليها الخلاف الحاصل في تلك المسائل ، سوغ للحاكم عندئذ أن يحكم بأي القولين ترح عنده بحسب ما يحف بالقضية من قرائن قد تدعوه إلي إثبات الحد أو القصاص بها ، أو ضعف القرائن ، وتطرق الشك إليه في قضية أخري فيحمله ذلك علي الإحتياط والأخذ بما ذهب إليه الجمهور من عدم إثبات الحد والقصاص بمثل هذه القرائن ، فحكم الحاكم بأي قول من القولين يرفع الخلاف الحاصل ، كما هو إجماع العلماء ، ولا لوم علي القاضي في الحكم بأحدي القولين إذا تحري واجتهد في معرفة الحق ، ونظر في جميع القرائن والأحوال ثم حكم به بعد التأمل والنظر بل هذا هو الواجب والمتعين علي الحاكم . قال العلامة بن القيم رحمه الله : ( والحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات ، ودلائل الحال ومعرفة شواهده ، وفي القرائن الحالية والمقالية ، كفقهه في جزئيات وكليات الأحكام ، أضاع حقوقاً كثيرة علي أصحابها ، وحكم بما يعلم الناس بطلانه ، ولا يشكون فيه اعتمادا منه علي نوع ظاهر لم يلتفت إلي باطنه وقرائن أحواله ، فهاهنا نوعان من الفقه لا بد للحاكم منهما : فقه في أحكام الحوادث الكلية ، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس يميز به بين الصادق والكاذب ، والحق والمبطل ، ثم يطابق بين هذا وهذا فيعطي الواقع حكمه من الواجب ، ولا يجعل الواجب مخالفاً للواقع ) ( 29) ثم ذكر رحمه الله جملة من الأدلة الدالة علي الأخذ بالقرائن والحكم بمقتضاها ومن ذلك قوله : ( وقد حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة معه برجم المرآة التي ظهر بها حمل ولا زوج لها ولا سيد . وذهب إليه مالك وأحمد في أصح روايته اعتماداً علي القرينة الظاهرة . وحكم عمر وابن مسعود رضي الله عنهما - ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة - بوجوب الحد برائحة الخمر من في الرجل ، أو قيئه خمراً ، اعتماد علي القرينة الظاهرة . ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسوق مع المتهم ، وهذه القرينة أقوي من البينة والإقرار ، فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب ، ووجود المال معه نص صريح لا يتطرق إليه شبهة ، وهل يشك أحد قتيلاً يتشحط في دمه ، وآخر قائم علي رأسه بالسكين أنه قتله ، ولا سيما إذا عرف بعداوته . ولهذا جوز جمهور العلماء لولي القتيل أن يحلف خمسين يميناً : أن ذلك الرجل قتله ، قم قال مالك وأحمد : يقتل به ، وقال الشافعي ، يقضي عليه بديته ، وكذلك إذا رأينا رجل مكشوف الرأس - وليس ذلك عادته - وآخر هارب قدامه بيده عمامة وعلي رأسه عمامة ، حكمنا له بالعمامة التي بيد الهارب قطعاً ، ولا نحكم بها لصاحب اليد التي قد قطعنا وجزمنا بأنها يد ظالمة غاصبة بالقرينة الظاهرة التي هي أقوي بكثير من البينة والاعتراف ، وهل القضاء النكول إلا رجوع إلي مجرد القرينة الظاهرة التي علمنا بها ظاهراً أنه لولا صدق المدعي لدف المدعي عليه دعواه باليمين ، فلما نكل عنها كان نكوله قرينة ظاهرة دالة علي صدق المدعي ، فقدمت علي أصل براءة الذمة وكثير من القرائن والأمارات أقوي من النكول ، والحس شاهد بذلك ، فكيف يسوغ تعطيل شهادتها .. ) ( 30) وإنما أكثرت من نقل كلام بن القيم رحمه الله لنفاسته وقوة حجته ، وطهور استدلالاته . المراجع: 1. - تقدمت الإشارة إلي ذلك في مبحث ماهية البصمة الوراثية . 2. - البصمة الوراثية وتأثيرها علي النسب إثباتاً أو نفياً للدكتور / نجم عبد الواحد ص 5 . 3. - إنما قلت : مشروع قرار ، لأنه لم يصدر بسبب خلاف الأعضاء حول حكم استعمال البصمة في مجال إثبات النسب ، لذا رؤي تأجيله إلي الجلسة القادمة 4. - ملخص أعمال الحلقة النقاشية حول حجية البصمة الوراثية ص 47 . 5. - انظر : ملحق أعمال الحلقة النقاشية حول حجية البصمة الوراثية ص 21 . 6. - الطرق الحكمية ص 24 . 7. - تبصرة الحكام لابن فرحون 2/95 ، معين الحكام للطرابلسي ص 166. 8. - انظر النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود 2/275 9. - سورة يوسف آية رقم (26-28) 10. - انظر : تبصرة الحكام 2/93، النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود 2/213 11. - وهي الذهب والفضة . أنظر النهاية في غريب الحديث 3/37. 12. - المسك هو الجلد . أنظر : النهاية في غريب الحديث 4/331. 13. - رواه البيهقي في السنن الكبري 9/137. 14. - أنظر النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود 2/214 . 15. - رواه أبو داود في سننه 3/314. 16. - انظر : النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود 2/215 . 17. - صحيح مسلم 5/133. 18. - انظر : الطرق الحكمية ص 5 ن النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود 2/215 . 19. - أنظر : النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود 2/216 20. - الطرق الحكيمة ص 11 . 21. - انظر هذه المسائل ومسائل أخري كثيرة مماثلة تركتها اختصارا في الطرق الحكمية ص 19 وتبصرة الحكام 2/95 ، ومعين الحكام ص 66 والنظرية العام لإثبات موجبات الحدود 2/218 22. - في مبحث إثبات النسب بالبصمة الوراثية ص 49 23. - وهو مذهب المالكية ، والحنابلة في رواية عن الإمام أحمد . أنظر : تبصرة الحكام 2/94 ، الرطق الحكمية ، ص 7 24. - وهو مذهب المالكية ، والشافعية ، والظاهرية ، وقول للحنابلة أختاره شيخ الإسلام ابن تيميه وغيره . أنظر : بداية المجتهد 2/90 والمذهب 2/128 والمحلي 10/145 والإنصاف 9/249 . 25. - وهو مذهب المالكية والحنابلة في رواية عن الإمام أحمد . أنظر بداية المجتهد 2/333 ، تبصرة الحكام 2/95 ، والإنصاف 10/233 . 26. - الطرق الحكيمة ص 6 . 27. - الطرق الحكيمة ص 7 . 28. - الطرق الحكيمة ص 14 . 29. - الطرق الحكيمة ص 4 . 30. - المصدر السابق ص 6-7 .
|
أطبع
الموضوع |
أرسل الموضوع لصديق
|
|
|
|
|