 |
111187852 زائر
من 1 محرم 1425
هـ
|
|
|
مذاق الصبر
|
عبق لا يزول من الذاكرة |
الكاتب : محمد عيد العريمي |
القراء :
4627 |
عبق لا يزول من الذاكرة
ان اشد ما ترسخ في ذاكرة الصبي عن تلك الفترة المبكرة من طفولته هو احتفالات الأعراس والأعياد الدينية ومناسبات أخرى سواها مثل: الختان، والاحتفال بعودة غائب.
كان الناس يرتدون افضل ثيابهم وزينتهم وحليهم؛ فالرجال يلبسون الخناجر ويتوشحوا أحزمة الرصاص ويحملوا البنادق والسيوف، بينما تتزين النساء بأفضل حليهن من الذهب والفضة كالعوص والغلاميات والمرتشحة والمرية والحجل. ويتبرجن بأطيب المعاجين العطرية.. أكثرها استخداماً المحلب (مزيج من الزيت والزعفران والصندل والزهور الجافة والماء) كما يدهنّ شعورهن بمسحوق ورق السدر لتثبيت تسريحة تسمى العقفة ويخضبن أياديهن وارجلهن بالحنا على شكل تصاميم وأشكال جميلة تبهر النظر وتزيد الجميلات منهن جمالاً.
الاحتفال عند البدو، بدون سباق للجمال لا يعد احتفالاً! وهو لا يكتمل إذا لم تصاحبه عروض الجمال حيث يصل أصحاب النوق إلى موقع الاحتفال في فرقة واحدة منتظمة الصفوف، فيستعرضوا نوقهم خبباً على غناء التغرود حول دائرة المركاض في شكل استعراضي أخاذ، قبل ان ينزل المتسابقون ويصطفون زوجاً زوجاً لأخذ دورهم في سباق ليس هدفه التحدي أو التنافس وانما إظهار مهارات "الركبيون".
وسوف يمضي طول من الوقت على ذلك المشهد بأصوات الغناء المرتفعة وقرع الطبول وصليل السيوف وخشخشة حلي النساء؛ ومنظر الرازحين ولمعان سيوفهم وسباق الهجن والأطفال بملابسهم الزاهية والنساء الجميلات؛ وأريج العطور الممتزجة في الهواء مع روائح الطعام النفاذة.. حدث رائع له عبق لا يزول من الذاكرة.
عندما بلغ الصبي السن المناسبة لتعلم قراءة القرآن ذهب فرحاً إلى مدرسة المعلمة شمسه. وهناك يفترش التلاميذ الرمال النظيفة وتظللهم شجرة غاف وارفة في أحضان امرأة يحرص الأطفال على الذهاب إليها قبل الصبيان والفتيات! مدرسة يتعلم فيها التلاميذ أمور الحياة اليومية إلى جانب قراءة القرآن.
ففي ساعات الضحى تكلف العجوز مجموعة من الفتيات بخض الحليب الذي يجلبه التلاميذ معهم وعمل اللبن وصنع الجبن، بينما تكلف عدداً من الصبيان بتسلق شجرة الغاف وقطف شماريخ الأوراق الرطبة. ثم يتعاون الجميع على تحضير سلطة المكيكة. وعند الانتهاء من تحضير اللبن والسلطة يتوقف الدرس ويتحلق التلاميذ حول وجبة من صنع أيديهم!
وعاش عوض اسعد أيام طفولته هناك عندما أهداه خاله جحشا صغيراً حديث الولادة أطلق عليه اسم "قبيلي". وبعد ان صار الجحش حماراً، اصبح الصبي أول تلميذ يذهب إلى مدرسة المعلمة شمسة على ظهر دابة.
وكانت جارة الطفولة "التيه" اكثر سعادة بالحمار منه، وحين طلبت منه ان يسمح لها بركوبه! رفض أولاً بشدة ليس خوفا عليها، بل رأفة بالجحش، لكنه تراجع وضعف أمام دموعها وتوسلاتها، ووافق على طلبها مقابل ان تصنع له شربت فلبت رغبته مسرورة. استهوته الفكرة، فاصبح قبيلي متاحا للإيجار ليس مقابل نقود وانما مقابل مشروبات وأطعمة وبعض الخدمات الأخرى. وعلى غرار معظم التجار وسع الصبي مجال تجارته عندما احضر له والده دراجة هوائية، واصبح أمام زبائنه الاختيار ما بين ظهر قبيلي ومقعد الدراجة!
وفي ظل غياب والده المستمر، تولى أقارب الصبي تربيته وتعليمه مهارات وأساليب حياة البدو. فبدأ بتدرج في مواجهة تحديات الصحراء وعالمها المحكوم بقوانين الصراع من اجل البقاء.. بيئة تتطلب اكتساب منظومة من القيم والمهارات.
ولم يكن عمره قد تجاوز الثامنة عندما رافق رعاة الجمال، فكانوا يمضون أياماً يجوبون السهول والكثبان الرملية بحثاً عن أجمة حالفها الحظ إذ ارتوت الأرض تحتها بالغيث اكثر من سواها. وكان غذاؤهم يقتصر على شربة ماء من قربة وما تجود به ناقة والده من الحليب بعد إرضاع صغيرها، وحبات تمر، وبعض ثمار النباتات الصحراوية، أو ـ وهذا نادر ـ لحم أرنب بري أو غزال تاه عن قطيعه فوقع في مرمى بندقية العبد.. حتى عودتهم إلى القرية بعد أيام عدة. وهكذا لمس وعن تجربة المعاناة والمكابدة التي تعيشها فئة من سكان الوادي، وهو أسلوب من أساليب حياة البادية.
وهناك في البادية تعلم قراءة القرآن في الهواء الطلق تحت ظل شجرة ، وتعلم رعي الماشية وغناء التغرود والطارق، وتدرب على ركوب الجمال، أتقن تصويب البندقية والضغط على الزناد. وهناك رافق البدو مع كلابهم السلوقية في رحلاتهم لصيد الأرانب والغزلان، وتعلم انه لا مجال للخوف من ضباع الصحراء وجوارحها وكيف يدافع عن أسرته ومقتنياتها.
وادي راك كان الفضاء الذي فتح فيه عينيه على صفاء السماء وخواء الأرض.. على كثبان الرمل المتحركة والسهوب القاحلة والفيافي الشاسعة.
هناك سهر على ضوء القمر ونام تحت فوانيس النجوم.. هناك تطبع بأخلاق وعادات البدو وتعلم الإخلاص للقبيلة، وعرف البادية: خصبها وجدبها.. حكاياتها وأساطيرها.. تقاليد أهلها وأساليب حياتهم.
وهناك ترعرع وبلغ مبلغ الرجال قبل أوانه، وتعلم مسؤولية الواجب وحقائق الحياة، وسكنه الشعور بذنب اقتراف خطأ عندما أصاب كلباً برصاصة طائشة تركته يجر ساقيه حتى عثر على بقاياه بعد بضعة أيام خارج القرية. وهي تجربة في مجملها كانت العنصر الأساسي الذي صاغ وجوده وشكل حياته.
وكان لابد من الرحيل! إذ قرر والده ان الوقت حان للعودة بأسرته إلى المدينة حيث يعيش أهله وأسرته الكبيرة. وكان على الصبي ان يستعد لمواجهة حياة جديدة وتحديات من نوع آخر وأساليب حياة مغايرة لا يعلم شيئا بشأنها ولم يكن له رأي في اختيارها!
ــــ
العوص: حلية من الذهب أو الفضة تتكون من حلقه وسلسلة وخطاف. تلبسها النساء بتثبيت الحلقة في ثقب بالأنف وتثبيت الخطاف في الأذن في نهاية السلسلة التي تمتد على الوجنة بينهما. الغلاميات: ومفردها غلامية. شكل مخروطي يصنع من الذهب أو الفضة تلبس في الأذن. المرتشحة والمرية: نوعان من القلائد تلبس حول العنق وتتدلى الأولى إلى الصدر بينما تظل الثانية اقرب إلى الرقبة. الحجل: خلخال مجوف يصدر أصوات كلما تحركت الأقدام
|
أطبع
الموضوع |
أرسل الموضوع لصديق
|
|
|
|
|