السمع والتخاطب الصرع والتشنج الشلل الدماغي العوق الفكري التوحد وطيف التوحد متلازمة داون الصلب المشقوق وعيوب العامود الفقري
الاستشارات
الإعاقة دوت نت دليل الخليج لذوي الاحتياجات الخاصة مقالات مجلات ندوات وؤتمرات المكتبة العلمية

صحة الوليد - الأطفال حديثي
الولادة

صحة الطفل

أمراض الأطفال

المشاكل السلوكية

مشاكل النوم

الـربـو

الحساسية

أمراض الدم

التدخل المبـكـــر

الشفة الارنبية وشق الحنك

السكري لدى الأطفال

فرط الحركة وقلة النشاط

التبول الليلي اللاإرادي

صعوبات التعلم

العوق الحركي- الاعاقة الحركية

العوق البصري - الإعاقة البصرية

الدمج التربوي

المتلازمات

الإرشاد الأسري ونقل الخبر

امراض الروماتيزم

أمراض الغدد



اشتراك انسحاب


110620331 زائر
من 1 محرم 1425 هـ

البحث في الموقع
 

المكتبة العلمية
الاستشارات
اتصل بنا

سجل الزوار
>>  مقالات نفسية وسلوكية  <<

كذب الأطفال...بين الواقع والخيال في المنظور التربوي والسايكولوجي

الكاتب : كذب الأطفال...بين الواقع والخيال في المنظور التربوي والسايكولوجي

القراء : 3059

يحدثنا علماء الأجناس أن إنسان القبائل الابتدائيّة لا يميّز بوضوح بين ما يراه من خلال تصوّراته وأحلامه، وما يراه في الحقيقة، فيظهر من هنا أن إدراك الحقيقة عند الإنسان المتمدّن، هو من الأمور المستحدثة، وعلى ذلك، فنرى أن هذا الإدراك يضعف أو يزول لدى حدوث أي تهيّج وجداني، وقد ورد على لسان أحد علماء الطب قوله: (لا أزال أذكر حادثة أدهشتني كثيراً عندما كنت طالباً في كلّية الطب، حادثة استشارة طبّية في مستشفى التوليد، وتتلخّص بما يلي: كانت النساء تُفحص بالتسلسل، وكان يقال لكلّ واحدة منهنّ غالباً، إن ولادتها ستكون طبيعية، محددين زمنها، حتى جاء دور امرأة، وقيل لها كما قيل لسابقتها، فصرخت مستنكرة مهتاجة قائلة: إنّها لا يمكن أن تكون حاملاً، وأنّى يكون لها ذلك ولم يمسسها بشر؟! غير أن حالة حملها الظاهرة لم تكن تدع مجالاً للشكّ، وإذا كان قد أدهشني موقفها، فقد أدهشني، أكثر منه، سبب قدومها لعرض نفسها للفحص في مستشفى التوليد، وهل كانت تجهل حقيقة حالها عندما احتجّت هذا الاحتجاج الصارخ؟ وممّا زاد في دهشتي أيضاً، ما أنبأني به بعض أطبّاء المستشفى، من أن هذا المشهد كان يتكرر كثيراً، بين حينٍ وآخر، مع حاملات كثيرات، وأنّ موظفي المستشفى قد ألفوا هذا النوع من الكذب المرضي (الهستيري)، ومنذ ذلك الحين فقد فَهِمْتُ آلية هذا الحادث (الكذب) وأدواره، فالنساء يعبّرن عن رغبتهنّ وعن أحلامهنّ سعياً لنكران حقيقة ما.
كلٌّ في حقل اختصاصه يشكو قلّة الصدق في أحاديث الغير، وذلك لعجز كلّ فرد عن قياس ما في نفسه، إذ لا يستطيع إدراكه إلا في سِواه، ومن السهل جداً معرفة تحوير الحقائق، وقلبها وتبديلها، فإذا أخذنا مثلاً حادثة ما من الحوادث التي شهدناها، ثم سمعنا شهوداً يسردون وقائعها أمام المحكمة، نرى أحدهما يؤكّد أن فلاناً كبير القامة أشقر اللون، ويقول الآخر إنه قصير القامة أسمر اللون، وكلٌّ منهما يؤيّد قوله بما يستطيعه من البراهين القاطعة، وكم استقى الأدب والمسرح، من الحوادث المماثلة لهذه، أبحاثاً ومشاهد هزلية كثيرة، كما أن الفلاسفة قد برهنوا في مجال انتقاداتهم للشهادة أن الرؤية الدقيقة للأشياء تكاد تكون نادرة الحدوث.
قد يكون من الحمق أن نتطلّب من الطفل، باسم التربية، موضوعية أكثر من التي يستطيعها الكبار، مع العلم أن هذه الصفة لا تبلغ إلا مع النضوج العقلي، فالطفل لا يتحدّث فقط عن بغيته، بل إنه يؤمن بها إلى حدٍّ ما، حتى إنه ربّما تحدث عنها لتعزيز ثقته بها، كثير من الناس، إذا أرادوا إثبات أمر ما، وهم يشتبهون بحقيقته، سعوا أوّلاً إلى إقناع مَنْ حولهم بصحّته، فإذا شاع رأي بين جماعة مثلاً احتل نوعاً من المكانة والاعتبار، ومضت الغرائز الاجتماعية في تأييده، حتى ينتهي الأمر بمبتدعه نفسه إلى تصديقه بدوره، وكذلك الحال عندما نريد أن نؤيّد شيئاً نتمنّاه، أو لا نؤمن إيماناً تامّاً بصدقه، وهذه وسيلة تصل الغريزة عن طريقها إلى اليقين، غير تاركة أي مجال للشكّ.
قد يُلجأ أحياناً إلى الكذب تبريراً لموقف، أو تخلّصاً من عقوبة، ثمّ ينتهي الأمر بمن لجأ إلى هذه الطريقة بأن يصدّق نفسه، ويثق ببراءته، فيعود إلى تكرار كذبه، تخلّصاً من شعور إدانة النفس، فالكذب هو حاصل الغريزة، قبل أن يكون نتيجة لحساب عقلي، ومن جهة أخرى فالمخادعة تحتل مكاناً كبيراً في المكافحة في سبيل الحياة، فالتلوّن والمراءاة، والهستيريا، كلّها أنواع من الكذب، كما أن جميع التنقّلات الوجدانية التي تنظم الحياة العاطفية، هي أيضاً أنواع من الكذب والخداع، ألم يُقل أيضاً أن الحياة نفسها ليست إلا وهماً وكذباً؟.
يوجد عند الطفل نوع من الكذب الشعري، يرتكز على شيء من الوهم والخيال، فقد يتحدّث، مثلاً، إنه قبل لحظات، شاهد حوادث مدهشة في بلاد بعيدة، ومن الواضح أنه في هذه الحالة، يتعمّد أن يحمل قوله محمل الجد، فعندما يتحدّث عن شعوره وأحلامه، إنّما يقصد إشراك الغير بخيالاته وتصوّراته، وإذا ما شاركه مَنْ حوله بهذه الأحلام، فإنّها تصبح لديه أقرب إلى الحقيقة والواقع، حتى إنه لينتهي هو نفسه إلى تصديقها كلّياً بعد وقتٍ ما، ولا يتورّع بعض المربين المتزمّتين عن تعنيف الأطفال، في مثل هذه الحالات، لاختراعهم أموراً تبعد عن الحقيقة، ولَعمري أنّهم ليخطئون في فهم حقيقة هؤلاء الأطفال الأبرياء، وهل يجهلون عجز الطفل عن التفريق بين ما يصوّره له وهْمه وحقيقة الواقع؟
وهل فاتهم أن معظم ألعابه يكتنفها الوهم والخيال؟ وما لعبة الجندي، واللص، واتخاذ القصبة حصاناً، وما شابه هذه الأجواء، إلا أنواع من الخيالات التي لم يعارضها أشد المربين تزمّتاً وعناداً.
وقد لوحظ أن الألعاب الخيالية، عند الطفل إذا ما اتخذت شيئاً من التوسّع، أنبأت عن ملكات للابتكار في ميدان الأدب، وقد لوحظ أيضاً، بصورة خاصّة، إنه إذا حورب هذا الميل عنده، تحوّل إلى تذوّق للموسيقى، أو فن آخر من الفنون الذوقية والهوايات.
يؤكّد بعض علماء التربية أن أوهام الأطفال، مادامت في مجال الأبحاث الخيالية فإنّها لا تستوجب اللوم والزجر، غير أن الأمر يختلف تماماً، إذا ما لجأ الأطفال متعمّدين إلى نكران، أو إخفاء ما يُسألون عنه، تخلّصاً من ملام، أو سعياً إلى إنزال الضرر بمنافس ما، ولا شكّ في أن هذا كذب حقيقي، ولا يخفى إنه كلّما لجأ الطفل إلى تأكيد شيء يختلف عن الواقع، فهو يخضع بذلك إلى تلبية رغبة ما، وبوسعنا أن نعلم، استناداً إلى التفسير التحليلي للأحلام، درجة الأشكال الرمزيّة، أو المنحرفة التي تتقمصها هذه الرغبة، ولكننا لا نشك مطلقاً في أن الأحلام، التي تتراءى للأطفال، إنّما تحقق أهواءً عميقة، حتى ولو ظهرت في مظاهر رهيبة كالكابوس مثلاً.
فإذا تحدّث طفل صغير إنه بطل مقدام، وأنّه حارب وحشاً، وتغلّب عليه، فهو لا يرمي إلى تصديق ما ادّعاه بالحرف الواحد، إنّما يبتغي أن يحصل في ميدان اللعب على إعجاب الغير، الإعجاب الذي يرجو دوام شيء منه بصورة لاشعورية بعد انتهاء اللعب، والفحص الدقيق يبيّن لنا أن الطفل في هذه اللحظة كان تحت تأثير فشلٍ ما، أو شعَر بحطة في قدره، فسعى إلى نسيان هذه الحالة والتعويض عن هذا الشعور، ومن جهة أخرى، عندما يشعر طفل آخر بالخجل، لفقره بالنسبة لغيره، فيتحدّث إلى بعض رفاقه أن أهله يملكون قصوراً فخمة، فهو لا يحقق بهذا، نفس الأسلوب النفسي المتقدّم ذكره، إنّما إذا توصّل إلى إعطاء حديثه طابعاً واقعيّاً، واستطاع إحراز تصديق رفاقه، رأى المربون في ذلك كذباً يستوجب اللوم، وفي الحقيقة أن الطفل لم يَعدُ بذلك عن التعويض عن حقيقة الواقع بوهم الخيال، كما فعل الطفل البطل الذي سبق الكلام عنه، ويبدو أن خطورة الكذب تتوقف على درجة تأثيره على السامعين.
إنّ مبعث (الكذب) أربعة أسباب: الشعور بالضّعة، الشعور بإدانة النفس، العدوان، الحسد، فالأمثال التي سبق ذكرها ترتبط بشعور الضّعة، إذ إن الكذب الأكثر وقوعاً يهدف إلى التعويض أو إبعاد الإدانة، فالطفل ينكر الخطأ الذي يُنسب إليه، حتى ولو أُخذ بالجرم المشهود (كتلك العذراء الكاذبة التي احتجّت أثناء الفحص السريري) وأنّه يجهد في اختلاق الحجج والأعذار لإبعاد الشبهات، وإنّ إصراره على النكران أمام الحقيقة الواضحة، أو انخراطه في قصص بعيدة عن التصديق يُظهِر عدم منطقية ما يدّعيه، كما يُظهِر طابعه الانعكاسي أو الغريزي، ويندر أن نرى أطفالاً يدّعون ارتكابهم أخطاءً لم يرتكبوها.
والكذب العدواني أو (الحاقد) يظهر في اتّهام أحد ما، بارتكابه خطأ، لا تخلّصاً من تهمة، إنّما ابتغاء إلحاق الأذى بالغير، ولو لجأنا إلى تحليل دقيق للاتهام التصوري، لدلّنا على إنه غالباً ما يعبّر بصورة رمزية عن نزاع في نفسية الكاذب، وإنّ اتّهامه للغير، فضلاً عن استجابته لشهوة ضغينته، يكون له بمثابة درع يلقي من ورائه على الغير شبح الإدانة الحقيقية، أو التصوّرية الموجودة فيه.
وقد يكذب الطفل بدافع الحسد، فهو إذا شاء شراء حلويّات أو لعبة، مثلاً، تحدّث إلى والديه أن أستاذه افتتح اكتتاباً لمشروع، أو لعمل خيري ما، ابتغاء الحصول على المال اللازم له، ومن الواضح إنه كلّما كان الكذب محبوكاً ومدروساً، ليكون قابلاً للتصديق، ابتعد عن بداهة الغريزة، وجاء بشكل يستوجب مسؤولية الكاذب.
والميل إلى الكذب ينطبق بصورة عامّة على نوع من رفض الحقيقة، ومتطلّباتها كما هو الحال في الكسول الذي بحث عنه في الفصل السابق، وبالحقيقة أن الكسالى غالباً ما يكونون كاذبين، لأنّهم يميلون أيضاً للتهرّب من وجه الحقيقة، سواء في ميدان العمل أو الفهم، فأمام الجهد اللازم لإصلاح حالة ما، ينام الكسول ويحلم الكذوب، وفي الكذب نوع من استدعاء قوّة سحر الكلام، أو الفكرة السحرية عند الأقدمين، والأحداث الذين لا يميّزون بين المعجزة والواقع، لا شكّ في أن الكاذبين هم من المتأخرين عاطفيّاً، فكذبة مرتّبة وفي ظروف معيّنة، قد تجلب نفعاً كبيراً، ولكن عادة قلب الحقيقة، أي العادة التي تصنع الكذوب الحقيقي تنتهي بسرعة إلى إفساد صاحبها، والقضاء على سمعته، أن رذيلة الكذب لا يمكن أن تنتج عن عملية حسابية دقيقة، ويمكننا القول باختصار: إنّها ناتجة عن الآلية العاطفية للاشعور، أكثر من أن تكون ناتجة عن حالة إراديّة مدروسة.
ويبدو أن الإنسانية في حاجة إلى أن تحيط بها بعض الأوهام، سواء أكانت جماعية (كالأساطير والخرافات) أو عامّة (كالمبتدعات الفنّية) أو شخصيّة (كالأحلام)، فالوهم دائماً شيء مصطفى لتخفيف شبهة، أو خوف، أو ألم، فخوفاً من الرعد مثلاً أو من مسؤولية جهل قوانين الكون ابتدع الأقدمون خرافة (جوبتير كإله للرعد) وفي الوقت نفسه أعطوه صفة الأبوّة، ليستطيعوا اللجوء إليه عند الحاجة، والتفاهم معه عن طريق العبادات، ابتغاء الوصول إلى الطمأنينة والأمن، ولا يخفى أن الأحلام تتابع دائماً حل بعض المسائل والقضايا، تبعاً لمطالب الغرائز، وأنّها تعمل على إبطال إمكانيّات الألم، ويمكن القول أيضاً – بعد تحليل دقيق للعناصر العاطفيّة الواعية واللاواعية، التي ترافق الكذب – أن الطفل يسعى بكذبه إلى تحليل توتّر نفسي أليم، بصورة مصطنعة وبطريقة صبيانيّة.
ينتج الكذب من الخلاف بين الواقع والمحسوس من جهة، والرغبة والعاطفة، من جهة أخرى، وهو يستنفد مقداراً من الفعالية النفسية التي تكشف عن الكذب (تأخّر ترابط الأفكار الحرّة في عناصر الأشياء المخفيّة) أو بشكل أوضح عن اضطراب الكاذبين الموضوعيين تحت استجواب طويل وشديد، وهذا الاضطراب ناتج عن الفاصل الذي يفرّق بين الحلم والذكرى، والذي يبدد (التركيب العقلي) أو التركيب العاطفي (للأنا) ويمكن أن يُعْزى الشعور بإدانة النفس إلى انفصال كهذا، بين الرغبة في العمل بشكل ممنوع، والرغبة في العمل كسائر الناس، أو محاكاة مثالية أخلاقية ما، ولا عِبْرة هنا للرغبة الممنوعة سواء أتحققت أم لم تتحقق.
ومن الأمور المسلّم بها أن كثيراً من الأطفال عندما يُتّهَمون بالكذب قد يبدو عليهم الاضطراب مع احمرار الوجه، في حين أنّهم أبرياء، ولم يرتكبوا الخطأ المَعْزو إليهم، إنّهم لم يرتكبوه فعلاً، بل كان عندهم الميل لارتكابه، ولهذا، فالاضطراب واحد، لأنّ نزاع العواطف واحد أيضاً، ولمّا كان إدراك واقع الحقيقة ضعيفاً عند الولد، فإن بعض الأطفال يعترفون بارتكابهم أخطاءً هم أبرياء منها، إنّهم يشعرون بوطأة ضيق إدانة النفس الشديد، فيتّهمون أنفسهم تخلّصاً من الشكّ والريبة، ولكي يقعوا ثانية عن طريقة مصطنعة في أوضاع حقيقية، مهما كانت المحاذير المتوقّعة.
هكذا كان يفعل كثير من المتّهمين تخلّصاً من التعذيب، عندما كان وسيلة للاستجواب والتحقيق، وقد يتعزّى المرء في إعطاء آلامه شكلاً ما، فمرضى الأعصاب يتمثلون حلمهم الرديء بواسطة عارض ما، (كالألم بدلاً من لذّة ممنوعة مثلاً)، أما المجرمون فلا شيء يمنعهم من تحقيقها.
يدفعنا كلّ ما تقدّم، إلى الاعتقاد بأنّه لا يجوز الحكم على كذب الطفل بتسرّع وارتجال، وإذا تحرينا العدالة يجب أن نقيسه بنفس المقياس الذي يقاس به سوء قصد الراشدين، فإذا كذب الطفل تخلّصاً من مسؤولية ما، فمن الواضح أن ضعفه حيال سلطة المربين، هو الذي يدفعه إلى إخفاء الحقيقة، ولا يخفى إنه لكي نستطيع الجهر أمام الأقوياء بكل ما نعلم، وبكل ما نفكّر به، يجب أن نكون أقوياء، لا نخشى عاقبة تصريحنا، أما الرقابة العقلية عند الطفل فهي في طور التشكّل، بينما غرائزه الموروثة لم تكن قد أوقفت فعاليّتها البدائية.
إنّ التفريق بين ذكرى الحوادث الحقيقية، وتمثيل الرغبة لَمِن الأمور الصعبة، إن أشد المربين صرامة في تطلّب الحقيقة من الطفل، ربّما كانوا هم قد أكثروا من الكذب على تلاميذهم بقصصهم عن الذئب والخروف والأب (نويل)، والأطفال الذين يولدون من (الملفوف)، وما شابه ذلك من هذه القصص، كما أنّهم لم يترددوا عن استغلال سذاجة الأطفال في تلقّينهم افتراضات وهميّة كاذبة كحقائق راهنة، فنحن لم نأت هنا بصورة بيانيّة بل نذكر حقائق ملموسة، وكم من الأولاد يصطدمون بأزمة عاطفية شديدة، في اليوم الذي يكتشفون فيه أنّهم كانوا هدفاً لخداع الكبار، وقلَّ مَنْ يُفكّر في اختبار وجدانه، وامتحان نفسه، قبل أن يُحاكم الطفل الذي يكذب.
وفي الحقيقة ليس من واجب التربية المثالية أن تحكم وتدين، بل واجبها الفهم والمساعدة وتأمين الشفاء، فالولد الذي يكذب إنّما يُعبّر بكذبه عن عدم رضاه عن الحقائق الخارجية، أو عن نفسه أيضاً، وإنّ العقوبات المختلفة التي يمكن أن تبتدعها أهواء المربين، لا تستطيع أن تحمله على تذوّق الحقيقة، فهذه العقوبات، في الوقت الذي يُقصَد بها إفهام الأطفال الكذب نقيصة وعار، تدفعه إلى التفنن في تقنيع كذبه بألوان مختلفة من الأساليب، أي أنّها تسوقه إلى درجاتٍ من الكذب، أشدّ خطورة من ذي قبل، أو إلى التزام السكوت تخلّصاً من المزالق، وهكذا فإن العقوبة لا تبدو قليلة الجدوى فحَسْب، بل شديدة الخطورة أيضاً في إفساد نفسيّة الأولاد، وحملهم على إحكام أساليب كذبهم، بصورة تجعل السامع يعجز عن التفريق بين أقوالهم وحقيقة الواقع، ولا يخفى ما في هذا من الخطورة.
إذن فالحكمة تقضي بمعالجة كذب الأطفال كنوع من اللعب، أي أن نتقبّله بصورة تجعلهم يدركون أننا غير مخدوعين بما صدر عنهم، كما نجعلهم يفهمون أن كذبهم هذا ليس جرماً كبيراً، إنّما هو هنّة صبيانيّة يمكن التسامح عنها نظراً لصغر سنّهم، ولكنها غير مقبولة من الأشخاص البالغين الأشدّاء.
وفي الوقت نفسه، فإنّهم يتعلمون تفضيل الحقيقة، كما يتعلّم المرء تفضيل الحياة الواقعية على أطيب الأحلام، عندما تؤمِّن له الحقيقةُ والواقعُ بلوغ أمان أثبت وأعذب من ملذّات أحلامه وتخيّلاته، وعلى المربي الصالح أن يبحث عن شعور الضِّعة المخبوء، أو النفسيّة الرديئة الغامضة اللتين ينبعث عنهما كذب الطفل، ثمّ يعمد إلى اختبار دقيق لاتّخاذ العلاج اللازم مادّياً ومعنويّاً.
وإذا ما تحقق للطفل أن يكون في سلام واطمئنان مع نفسه ومع غيره فمن المؤكّد إنه لا يعود يشعر بحاجة إلى الكذب.
إنّ لِتَعَشُق الحقيقة علاقات مع تذوّق القوّة والروح الرياضيّة، إذ إن نشدان الحقيقة، والدّفاع عنها، يستدعيان التعرّض إلى نزاع دائم، ومشاحنات طويلة، ففي الوقت الذي نؤمّن فيه للطفل فرصة التعبير عمّا في نفسه وإثبات أقواله، ونسهّل له العمل على نصر الحقيقة ومظاهرتها، مع إطرائه ومدحه في كلّ مرّة يبدو فيها مُحقّاً، فنحن بذلك نشجّعه على الصراحة والصدق، وإذا ما عوّضنا عن نزعاته العاطفية بمنافع ملموسة، فإنّا نعلّمه تذوّق الواقع والحق، ونبعده عن مهاوي الكذب، ويجب أن نمنحه حدّاً أدنى من الثّقة والتقدير، لكي يلمس المسرّة الأدبية، والبهجة النفسية اللتين يشعر بهما الصادقون، يجب أن يعامل بمنتهى العدالة، وأن يناقش في كل ما يصدر عنه بصورة مقنعة لطيفة، يجب أن نعطيه المثل الصالح في الاستقامة والصدق، فلا نخلف وعداً وعدناه به، ولا نخفر عهداً قطعناه له، وهكذا فإن غرائزه الاجتماعية (المتبادلة مع الآخرين) تحمله على الخروج من أحلام المهد وسراب الطفولة، ويؤسفنا أن نقول إنه غالباً ما يكون كذب الأطفال انعكاساً للتربية الخاطئة التي تلقّوها.
- المراجع:
1. الكذب عند الأطفال – وفيق صفوت مختار – مجلة القافلة – السعودية، آرامكو – العدد الثاني عشر – المجلد الخامس والأربعون 1417 هـ – 1997 (ذو الحجة – أبريل).
2. الكذب الأبيض.. والكذب الأسود عند الأطفال – مجلة العربي – الكويت – العدد (409) كانون أول 1992 الدكتور علاء غنام.
3. النمو الروحي والخلقي، الهيئة المصرية العامة للكتاب د. عبد الرحمن العيسوي.
4. التربية المدنية كوسيلة للوقاية من الانحراف، المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب بالرياض – السعودية 1406 د. مصطفى العوجي.
5. القدوة ودورها في تربية النشء – بركيان بركي القرشي – المكتبة الفصلية – مكة المكرمة، 1405 هـ 1984 م.
6. في أصول التربية – محمد الهادي عفيفي – مكتبة الانجلو المصرية القاهرة – 1970.
7. الصدق مقياس لرقي الذات - صحيفة القبس الكويتية العدد 9160، الجمعة 18/12/1998، الأستاذة: حلية عبد الجليل بولند.
8. علم النفس التربوي – الجزء الأول – جيتس وآخرون – ترجمة عبد العزيز القوصي.
9. دور وسائل الإعلام التربوي – الأستاذ الدكتور حامد زهران أستاذ الصحة النفسية في جامعة عين شمس – مجلة بناة الأجيال – دمشق – العدد 23 لعام 1997.
10. مجلة جامعة دمشق العدد /3/ كانون الثاني 1996.
11. الأطفال مرآة المجتمع – د. محمد عماد الدين إسماعيل – سلسلة عالم المعرفة – الكويت – رقم (99) الصادرة في مارس آذار 1986.
12. مشكلات الطفولة – د. عبد الرحمن العيسوي – ط1 – 1993م – دار العلوم العربية – بيروت – لبنان.
13. علم النفس – دراسة في التكيف البشري – منشورات دار العلم للملايين – الدكتور فاخر عاقل.
14. أطفالنا كيف نفهمهم – جيروم كاغان – دار الجليل – تعريب عبد الكريم ناصيف.
15. الموهوبون – ريمي شوفان – دار البشائر – ترجمة وجيه أسعد.
16. دائرة المعارف السيكولوجية – دار صادر – بيروت.

 أطبع المقال أرسل المقال لصديق


[   من نحن ? |  سياسة الخصوصية | منتدى أطفال الخليج (جديد) | الصفحة الرئيسية ]

خدمة الخلاصات تاريخ آخر تحديث: 1/4/2022

أطفال الخليج ذوي الإحتياجات الخاصة

جميع الحقوق محفوظة