|
110524501 زائر
من 1 محرم 1425
هـ
|
|
|
>>
<< |
الشعوذة: علاج أم تعذيب للمرضى النفسيين؟ |
الكاتب : د.ابراهيم بن حسن الخضير |
القراء :
3233 |
الشعوذة: علاج أم تعذيب للمرضى النفسيين؟ د.ابراهيم بن حسن الخضير
هذا الموضوع يُطرح كثيراً في الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون ويتناقله الناس في المجالس والصالونات.. أحاديث بعضها خيالي وأكثرها حقيقي..! إنه العلاج الذي يقوم به بعض من يدّعون أنهم يُعالجون المرضى النفسيين والعقليين، وحقيقة الأمر أنهم لا يُعالجونهم، بل يُعذبون المرضى بأساليب علاج ربما تكون أقرب إلى الجرائم منها إلى ممارسة علاج أو مساعدة. ولعل ما زاد الطين بلةً أن الفضائيات التلفزيونية دخلت في الأمر بحثاً عن التشويق على حساب الحقيقة.. طبعاً ليس جميع القنوات الفضائية، ولكن استطيع أقول بأن الأغلب من هذه القنوات تعاملت مع هذا الموضوع الحسّاس بإسلوب غير مهني وغير موضوعي بحثاً عن الإثارة والتشويق وجذب المشاهدين. لقد شاهدت برامج في بعض الفضائيات تتحدث عن علاج مريض مُصاب بالفُصام، يتنقّل بين مشعوذٍ وآخر. فأحد هؤلاء المُعالجين إدعّى أن الشخص ممسوس وإنه سوف يُخرج الجن من الرجل. قام بقراءة بعضٍ من آيات القرآن الكريم بصوتٍ رديء وتدل قراءته على عدم حفظه وإجادته للقرآن الكريم. بعد ذلك بدأ مرحلةٍ أخرى وهي مرحلة الضرب والخنق، حيث بدأ المُعالج بضرب المريض وخنقه، ويُخاطب المريض (مُدعيّاً أنه يكلم الجني) : أخرج عدو الله.. ولا أعرف كيف عرف أن الجني -إذا كان هناك جني فعلاً مُتلبساً المريض - هو عدو لله وليس ولياً لله..! كان الضرب مُبرحاً مصحوباً بالخنق، وهو يحاول أن يخنق الجني، والمريض يصيح أتركني.. أتركني، خاصةً عندما يشدُ عليه بالخنق ويكاد أن يقتله. وأخيراً أغمي على المريض فقال المُعالج، لقد خرج الجني..! لقد كان المكان الذي تتم فيه عملية علاج المريض مُزرياً، فهو عبارة عن بيت من الصفيح وبعض جدران من الطين والمكان كله يكتظ بالقاذورات، فلو كان هذا المُعالج قادراً على أن يستخدم الجن وإخراجهم فلماذا لا يطلب منهم مساعدته مادياً؟ إن الأمر لا يعدو أن يكون عبارة عن تكّسب عيش بطريقة بدائية لشخصٍ بسيط، تشبّع بأفكار المجتمع والثقافة المُحيطة به، بأن المرضى النفسيين هم عبارة عن أشخاص ممسوسين (وموضوعنا هنا ليس المس، فهذا موضوع آخر)، وأن الحل هو إخراج هؤلاء الجن بطريقةٍ بدائية عن طريق الضرب والخنق.
إننا لا نعترض على القراءة، خاصةً قراءة القرآن الكريم والرقية الشرعية التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالذات قراءة المريض على نفسه، أو لدى بعض الصالحين الذين عُرف عنهم الصلاح والتقوى والذين لا يتكسّبون بالقرآن كما سمعت هذا الكلام من سماحة الشيخ عبد المحسن العبيكان في المذياع، وكذلك قرأته لبعض العلماء بأن خير الرقية هو أن يُرقي المرء نفسه.
إن الضرب والتعذيب الذي قد يقود أحياناً إلى الوفاة للمريض، ويذهب دمه هدراً، كما قرأنا في الصحف أن مريضاً توفي أثناء علاج مُعالج له، وتم تنازل الأهل عن الحق الخاص وطالبوا بالتنازل عن الحق العام لأن المُعالج كانت نيته حسنة، وكان يُريد الخير للمريض ولم يكن يقصد إيذاء المريض..! إن مثل هذا العمل هو عمل غير قانوني، وفي الدول المُتقدمة يُعامل مثل هذا العمل كجريمة، لأن الشخص مارس عملاً ليس مؤهلاً للقيام به، وليس لديه ترخيص للقيام بمثل هذا العمل. وقد حدث هذا في بريطانيا أن قام أخوان بمحاولة إخراج جني من شقيقتهما، ولكنها توفيت فتم محاكمتهما لقيامهما بجريمة قتل غير مُتعمد وحُكم عليهما بالسجن عدة سنوات. أنا أعلم أن بعض الناس يتعاطفون مع المُعالجين الشعبيين للأمراض النفسية والعقلية، خاصةً إذا كان مظهره يُوحي بالتدين والالتزام. خلال عملي لأكثر من عشرين عاماً في الطب النفسي أكاد أقول بأن أعداداً قليلة من المرضى النفسيين لم يزوروا مُعالجاً شعبياً قبل أن يُعييهم البحث عن العلاج وأخيراً لجأ الأهل إلى الطب النفسي بعد أن تعبوا من البحث عن حلٍ لعلاج قريبهم المريض، ولم يجدوا سوى السراب عند من يدّعون علاج المرضى النفسيين والعقليين بالضرب والخنق والاسشوار والأسلاك الكهربائية، بل إن بعض هؤلاء المُعالجين يطلبون من المرضى إيقاف الأدوية النفسية ويشنون حرباً شعواء ضد الأطباء النفسيين ويتهمون الأدوية النفسية بأنها مُخدرات، وللأسف هذه الفكرة شائعة ليست بين البسطاء فقط، بل أن كثيراً من المُتعلمين وبعض الكتُّاب في بعض الصحف كتب عن الأدوية النفسية دون علمٍ، حيث بعضهم كتب بأننا "نُريد علاجاً لأمراضنا النفسية بعيداً عن الأدوية المُخدرة..!"، وهذا غير صحيح قطعاً، حيث إن الأدوية النفسية المُخدرة نسبة ضئيلة من الأدوية النفسية التي تُعءد بالآلاف، بينما لا يتجاوز عدد الأدوية المُخدرة سوى نسبة ضئيلة من هذه الأدوية. لقد زارني في العيادة سيدة مُتعلمة، برفقة شقيقيها، وكانت تُعاني من الاكتئاب، فذهبوا إلى رجلٍ يدعّي أنه يُعالج الأمراض النفسية، وطلب من الأخوين ضرب شقيقتهما لأن بها جنيا، وتحتاج إلى أن تُضرب، وفعلاً قام الشقيقان بضرب شقيقتهما، ضرباً مُبرحاً حتى أن المريضة قالت لشقيقيها بأن الضرب ليس في الجني، وإنما هي التي تحس بالضرب، وأنها هي التي تُكلمهما وليس الجني..! فتوقفا عن الضرب، وعندما زاروني في العيادة (المريضة وشقيقاها) تكلموا بندم عما فعلوه، وعرفوا أنهم أخطأوا عندما قاموا بذلك وعرفوا أن ما تُعاني منه شقيقتهما هو مرض نفسي معروف، له أعراضه مثله مثل أي مرض آخر عضوي، وهذا المرض هو مرض الاكتئاب، وهو مرض له علاجات معروفة ومُجازة من الهيئات الرسمية، ويقوم بعلاج هذا المرض أطباء متخصصون في الطب النفسي أو في طب الأسرة والمجتمع، حيث إن الفئة الأخيرة من الأطباء هو خط الدفاع الأول لعلاج معظم الأمراض المختلفة، ولا يحتاج إلى التحويل إلى الأطباء المُختصين سوى عدد قليل لا يتجاوز 10% ، بينما يستطيع أطباء الرعاية الصحية الأولية وأطباء الأسرة والمجتمع علاج ما يوازي 90% من المرضى.
إن ما يحدث في القرى والمدن الصغيرة قد يكون أمرا خطيراً نتيجة الجهل وقلة الأطباء المُتخصصين في الأمراض النفسية، وتفشي الخرافات والشائعات التي تروّج لمثل هذه الأعمال.
لقد دُعيت قبل عدة سنوات إلى مدينة تبوك لإلقاء محاضرة عن الطب النفسي، بعد أن تعرضت مريضة، كانت تُعاني من مرضٍ نفسي إلى الوفاة نتيجة الضرب المُبرح من الشخص الذي يُعالجها حتى توفيت.. وقد شاهدت بعض الصور للجثة ورأيت آثار الضرب المُبرح وتعرض بعض أجزاء الجسم للكسور نتيجة الضرب فلم تتحمل وتوفيت إلى رحمة الله. المؤسف أنه بعد سنوات يحدث نفس الأمر وينُشر الخبر بالصحافة، ويتنازل أهل المريض المتوفى عن حقهم الشرعي، ويُطلب العفو عن القاتل لأنه كان ذا نية حسنة ولم يقصد قتل المريض، ماذا إذاً عن الأطباء الذين يخطئون ويتوفى المريض، فهل يُمكن أن ينطبق عليهم أيضاً هذا القانون حتى تُصبح الأمور فوضى..! إن المُعالج ضامن إلا إذا حدث ما يمكن أن يحدث من أخطاء طبية تحدث لأي شخص وليست نتيجة جهل أو إهمال من المُعالج. إننا بحاجةٍ ماسة لتنظيم عملية العلاج النفسي لمن يتعاطون مهنة الرقية أو أي جانب يمس علاج المريض النفسي، فلابد أن يكون هناك قانون يحمي المرضى النفسيين وليس قانون النيات الحسنة أو النيات غير الحسنة في وفيات المرضى النفسيين..!! |
أطبع
المقال |
أرسل المقال لصديق
|
|
|